مقدّمة كتاب «محمّد الأوربيّ: تاريخ تمثّلات النبيّ في الغرب» لـ«جون طولان» الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 23:40:24

أ.د. سليمة لوكام

أستاذة السّرديات والأدب الحديث والمعاصر - جامعة سوق أهراس - الجزائر

مقدّمة كتاب «محمّد الأوربيّ: تاريخ تمثّلات النبيّ في الغرب» لـ«جون طولان»1

ترجمة: أ.د سليمة لوكام 

 

الكتاب: "محمّد الأوربيّ: تاريخ تمثّلات النبيّ في الغرب"

المؤلف: جون طولان John Tolan

الناشر: ألبان ميشال

تاريخ النشر: 26 سبتمبر 2018

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 448 صفحة

في الثاني من أكتوبر 1808 التقى "يوهان فولفغانغ غوته" ونابليون "بونابرت" في مدينة "إرفورت" الألمانية، وتحدّث الرّجلان في الأدب والسّياسة، وكان "محمّد" من بين ما خاضا فيه من حديث، ولمّا علم "نابليون" بأنّ "غوته" كان نقل إلى الألمانيّة مسرحيّة "فولتير" التراجيدية " التعصّب أو محمّد النبيّ" صُدم وقال: "لم تكن مسرحيّة جيّدة، لقد قدّمتْ ملمحًا لا يليق بأحد الفاتحين الكبار، إنّه رجل عظيم غيّر مجرى التاريخ."

إذن، لمّا التقى "غوته" و"نابليون" آنذاك كان حديثهما عن محمّد Muhammad، ولعلّه من الأدقّ أن نقول إنّهما تحدّثا عن Mahomet2، أي في صورة الوغد (حاشاه ذلك – من المترجمة) المتخيّل الذي أنشأه "فولتير" ليكون رمزًا للتعصّب (أفضل طريقة للهجوم على الكنيسة الكاثوليكية)، وعن "محمّد" في الصورة الكاريزماتية للقائد والعبقريّ العسكريّ الذي اتّخذه "نابليون" مثالاً يحتذيه، وعن "محمّد" في صورة الرّجل الذي وجد فيه "غوته" فيما بعد صفة النبيّ بامتياز، ووجهًا من الوجوه التي مكّنته من إدراك الفروق التي تميّز بين النبيّ والشاعر.

بالنّسبة إلى هؤلاء الرّجال الثّلاثة، وبالنّسبة إلى كثير من الأوربيّين لا يمكن أن يكون محمّد هو فقط تلك الشخصية التاريخية التي عاشت في فترة بعيدة عنّا، ولا ذلك النّبيّ صاحب الدّين الغريب فحسب، وإنّما هو ذلك الرمز الذي بقي حيّا على الدّوام بمساره وإرثه، وظلّ موضوعًا مثيرًا للفضول والقلق والإعجاب.

وبطبيعة الحال، لم يُظهِر كلّ الكتّاب الأوربيّين الذين تحدّثوا عن محمّد الإعجابَ والاحترامَ ذاتَهما اللذين وجدناهما عند كلّ من "نابليون" و"غوته".

إنّ الأعمّ الأغلب من الكتابات التي خُصّصت للحديث عن محمّد عدائيّة، وقد كان من اليسير أن أقوم برصد زمنيّ لهذه العدائية، وأقدّم ثَبَتا بتلك الأحكام المهينة والمخاوف والشتائم التي أُثيرت ضدّه، والتي ظهرت منذ ظهور النصوص المسيحية الأولى المثيرة للجدل والموجّهة ضدّ الإسلام، وصولاً إلى التصريحات النّاريّة التي أدلى بها سياسيّون أمثال "جيت ويلدرز" النائب عن حزب "فور فيرجهيد" (من اليمين المتطرّف في نيوإيرلندة) الذي أراد  الانتقاص من الإسلام بالنَّيْل من نبيّه، ونعته بالإرهابيّ والمريض النّفسي الذي يتحرش جنسيًّا بالأطفال.

وفي سنة 2005، أبان الجدل الذي احتدم بعد نشر الكاريكاتور في الجريدة الدانماركية "جيلاندز بوسطن" عن الطابع القويّ لتمثّلات النبّي في العالم الغربيّ، والأمر ذاته ينسحب على حادثة قتل رسامي جريدة "شارلي إيبدو" في يناير 2015.

وهكذا، تسبّب ذلك الجدل الذي وصم الماضي الاستعماريّ والاستشراقي لأوروبّا، وكذا الإرهاب الذي غلب على الإسلام في تدفّق موجة من العنف، ومن الخطابات المستعرة ضدّه.

كان الحديث عن "محمّد" دائمًا وعلى مرّ العصور، في قلب الخطابات الأوربيّة المعنيّة بالإسلام.

وبالنسبة إلى مؤرّخي الحروب الصليبيّة في القرون الوسطى كان محمّد إمّا: المعبود من ذهب الذي يحبّه أتباعه Les sarrasins3، وإمّا الكافر الذكيّ الذي حاد بالعرب عن المسيحيّة بواسطة معجزات كاذبة.

وهذان تمثيلان يجعلان "محمّدًا" مصدرًا لتضليل المسلمين، بهما تمّ التبرير ضمنيًّا للحروب الصليبية لانتزاع الأرض المقدّسة من الكفّار. 

تكوّنت هذه الصّور المثيرة للجدل في القرون الوسطى، وبدت راسخة ذلك أنّها مثّلت إلى غاية القرن 17الخطاب الغالب حول "محمّد"، وقد بقيت تنويعات على تلك الصّورة "محمّد المحتال" في القرنين 19 و20 حيث اُسْتُغِلَّت

لإضفاء الشرعيّة على استعمار الأراضي الإسلاميّة من طرف القوى الأوربيّة، وتشجيع الإرساليّات المسيحيّة على مواصلة عملها.

يمثّل هذا العداء تجاه الإسلام ونبيّه جانبًا هامًّا في التاريخ الذي ستعاد كتابته في هذه الصفحات، ولكنّه جانب واحد فحسب، لأنّ محمّدًا يحتلّ فيه مكانًا يعدل ما يشوبه من تناقض ما فيه من حضور المخيال الأوربيّ على اعتبار أنّ"محمّدًا" يجسّد الإسلام، ولذلك أورث الحديث عنه خوفًا ونفورًا مثلما خلّف إعجابًا وسحرًا لا يُقاوم.

وفي كلّ هذا، كان من النّادر مقابلته باللامبالاة، وفي الواقع كان في شخصيّة محمّد وفي نصّ القرآن ما يدعو إلى الاهتمام والاحترام، وخاصّة من أولئك الذين كانوا ينتقدون سلطة الكنيسة في المجتمع الأوربيّ، أو أولئك الّذين تركوا عقائدها.

ومن هؤلاء "ميشيل سيرفيه" الذي عاش في القرن 16، وكان من الموحّدين، استقى من القرآن البراهين القائمة ضدّ عقيدة التّثليث، وقد أدانته محاكم التّفتيش الكاثوليكية والتي لم ينجُ منها حتّى هلك على محرقة الجثث.

وفي أثناء الاضطرابات والحروب الدّينية الدّامية التي مزّقت أوروبا آنذاك كان بعض النّاس يَرَوْن أنّ النّموذج الذي ينبغي أن يُحتذى في التسامح مع اختلاف الأديان هو ما نصّ عليه القرآن وطبّقه العثمانيون.

وفي القرنين 17 و18، قدّم بعض الكتّاب في انجلترا وفي فرنسا محمّدًا على أنّه المصلح الذي قضى على امتيازات رجال الدّين الفاسدين الذين يؤمنون بالخرافات، وأقام الدّليل على تسامحه تجاه اليهود والمسيحيين، كما أنّه أعاد الصفاء لديانة التوحيد.

وفي القرنين 18 و19، صُوّر النبيّ محمّد في الغالب بملامح "الرّجل العظيم"، ومثال البطل الوطني العربي الذي

أهدى لشعبه قانونًا ودينًا ومجدًا.

ولم يكن اهتمام أغلب هؤلاء الكتّاب منصبًّا على الإسلام ونبيّه، بقدر ما كان موجّهًا للبحث في تاريخه عن تعاليم يمكنهم تطبيقها على ما يطرحونه من مسائل خاصّة، أو فيما يعترضهم من صعوبات.

وإذن، فإنّ موضوع هذا الكتاب ليس محمّدًا Muhammad وإنّما "محمّد" Mahometالشّخصية التي تخيّلها وأخرجها كتّاب أوربيّون غير مسلمين بين القرنين 12 و21. ولذلك، سأعمل على امتداد هذه الصفحات، على التمييز بين محمّد (الاسم الذي سأستعمله في آن واحد للشخصيّة التاريخية، والوجه الذي تمثّلته التقاليد الإسلاميّة، وبين التسميات الهجائية المختلفة، والترجمة المتحوّلة عن اسمه، والتي نصادفها في اللغات الأوربيّة)، وقد نقلتها بأمانة، وهي:

 Machometماشوميه 

وماتوميه Mathomet

ومافوميتوس  Mafometus

وموامد Mouamed

وماوما Mahoma

ومحمّد Mohammed

وخاصة ماوميه Mahomet

وبصيغة أخرى، إنّنا نهتمّ في هذا الكتاب بالوجوه المتحوّلة لمحمّد، وهذا يعني العناية بتعدّد الرؤى التي حملها الغرب عن نبيّ الإسلام.

وإذا أردنا أن نفهم كيف تمّ تشكيل صورة "محمّد أوربيّ"، يكون لزامًا علينا أن نكوّن فكرة عن النّموذج الأصلي، عن محمّد الذي عاش في الجزيرة العربيّة في القرن 7. وإذ يصطدم المؤرّخ هنا بالعائق نفسه الذي عهده مع الشخصيّات الدّينية العظيمة، فإنّه من العسير، بل من المستحيل، فصل الوقائع التاريخية عن قصص الأتقياء، وكذا التمييز بين السّير العادية وسير القدّيسين، وهل وُجد بطاركة إنجيليين أم أنّ هؤلاء شخصيّات أسطوريّة؟

عبّر بعض المؤرّخين عن شكوكهم في وجود موسى وداود ورسل آخرين، أمّا وجود عيسى ومحمّد فثابت تاريخيًّا، فنحن نعرف الفترة التي عاشا فيها، والمنطقة التي وجدا فيها، وماذا يعتقد أتباعهم فيهم.

تقدّم الأناجيل الأربعة قصّة حياة عيسى وموته، كما نقلت صورة منسجمة نسبيًّا عن شخصيّته وتعاليمه، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. ومع أنّ هذه النصوص لم تكتب إلّا بعد مرور ما بين 40 و70 عامًا بعد موت عيسى، فإنّها لا تعكس الذاكرة الجماعية التي أراد الكتاب تقديم شهادة عنها فقط، ولكنّها تعكس أيضًا الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والدينية التي اجتازتها الجالية المسيحية الفتيّة.

إلى أيّ مدى يمكن للمؤرّخ أن يستند إلى الأناجيل لفهم عيسى والحركة التي أسّسها؟ وهل في الإمكان أن نقوم بغربلة لنعطي معنى للتقوى وللأسطورة بهدف الوصول إلى نواة الحقيقة التاريخية.

هذا هو السؤال الذي عمل عليه المفسّرون الأوربيّون في القرن 19 بجدّ، وهم يبحثون عن عيسى التاريخيّ.

لم تقصّر هذه الأعمال في إثارة الجدل لدى بعض المسيحيين الأوربيين، فبقيت دراسة عيسى والمسيحيّة إلى اليوم رهانًا بالنسبة إلى المؤرّخ إذ من المستحيل أن يتمّ الاستغناء عن الأناجيل التي لا يمكن بدونها معرفة أيّ شيء عن عيسى، ولكنّنا نسأل أيضًا: وفق أيّة معايير يمكننا التمييز بين الوقائع التاريخية وسير القدّيسين الأتقياء؟

وكذلك، يواجه المؤرّخ الذي يولي اهتماما لـ"محمّد" العوائق ذاتها، بل إنّ مهمّته قد تكون أكثر صعوبة.

"إنّ سيرة لمحمّد لا تشير إلّا إلى الوقائع التي لا يتسرّب إليها الشكّ، وتقدّم بيقينيّة رياضيّة يمكن أن تُختزل في صفحات قليلة جافّة ومرعبة." بهذا التّعبير حذّر "مكسيم رودنسون"سنة 1957.

فلئن كانت الأناجيل تقدّم لنا قصّة حياة عيسى، فإنّ القرآن لا يزوّدنا بأيّ شيء مماثل عن "محمّد"5، ومع أنّ المواعدات ومكوّنات الكتاب المقدّس في الإسلام كانا موضوع نقاشات بين المختصّين، فإنّ الدّراسات الحديثة تميل إلى تأكيد المظاهر الهامّة لهذه الموضوعات في السّنة الإسلامية، ومن الأمثلة التي تساق هنا: معرفة بوجود نسخ تتضمّن سورًا كانت قد كتبت في حياة محمّد، ومن هنا كانت عملية التّجميع والتّوثيق التي أمر بها الخليفة الثّالث عثمان (644- 656)، والتي أسفرت عن  تلك النّسخة المقبولة عمومًا المطابقة للشّريعة، وللنّص المقدس في الإسلام.

أُنجزت هذه النّسخة بعد مرور عشرين سنة من وفاة النبيّ، وهذا يعني أنّ في هذه الفترة كان عدد كبير من صحابته على قيد الحياة، وسنرى لاحقًا أنه في الوقت الذي يعتقد فيه عدد كبير من الكتّاب الأوربييّن أنّ محمّدًا هو من ألّف القرآن، فإنّ المسلمين في المقابل يعدّون هذا الكتاب كلمة الله أوحى بها إلى محمّد بضمير المتكلّم، ويكون فيه الخطاب الموجّه إلى محمّد عادة بضمير المخاطب، وأمّا خطاب المستمعين فيكون بضمير جمع المخاطب، ولأنّ الأمر يتعلّق بكلمة الله التي يوجهها لمستمعيه العرب من خلال النبيّ، فلم يكن ثمّة حاجة إلى سرد قصّة حياته.

وقد ورد اسم النبيّ في أربعة مواضع من القرآن: حين أُعلن فيها أنّه "رسول الله"، وحين ذُكر تبشيره بدعوته في مكّة والعداوة التي أظهرها كثير من الوثنيين في المدينة ضدّ تعاليمه، وهجرته إلى المدينة المنوّرة، وكذا بعض زيجاته فضلاً عن معاركه السياسية والعسكرية على رأس الجماعة المسلمة. 

لكنّ عددًا كبيرًا من الأحداث التي رُويتْ، أو جيء على ذكرها تلميحًا لا يمكن فهمها إلّا في ضوء الأحاديث المأثورة المتأخّرة، وبشكل أساسي تلك الأحاديث التي تُعدّ بالآلاف (أو العبارات التي أُسندت إلى محمّد وأتباعه) التي جرى تداولها شفويًّا على امتداد القرنين الأوّلين من الإسلام.

وبقي الأمر على ما هو عليه إلى غاية القرن 9، زمن الخلافة العبّاسية، حين شرع العلماء المسلمون في دراسة هذه الأحاديث منهجيًّا حيث قاموا بجمعها وتصنيفها وفق مراتب معيّنة: حديث صحيح، وحديث حسن (أيّ أنّه صالح من وجهة نظر دينية وليس بالضرورة أن يكون صحيحًا)، وحديث ضعيف.

ومن بين هؤلاء الكبار محمّد البخاري (810-870)، ومسلم بن الحجاج (817-875)، وقد أسّسا حكمهما على دقّة سلسلة الإسناد، فلا يمكن الحكم على حديث بأنّه صحيح إلّا إذا أُقيم الدليل على أنّه تمّ نقله عن النبيّ من طرف أحد صحابته ومنه إلى مصدر آخر جدير بالثقة، وهكذا وصولاً إلى الذي نقل الخبر إلى جامع الحديث.

كما كان مضمون الحديث ومدى مطابقته للعقيدة الإسلاميّة التي كانت في أوج تطوّرها من أهمّ المعايير لتأكيد صحّة الحديث. وفي هذا، كان جامعو الحديث أنفسهم يعترفون بعسر المهمّة: كيف يمكنهم بعد مرور قرنين من الزمان، تمييز الأحاديث الصحيحة من آلاف الأحاديث الملفّقة التي تمّ تناقلها آنذاك.

وعلى هذا النّحو، فالمؤرّخ الذي يريد اليوم أن يتجاهل الأحاديث لن يجد مطلقًا مصادر أخرى يمكن أن يؤسّس عليها سيرة حياة محمّد، وتاريخ بدايات الجماعة المسلمة. وفي المقابل، وفي كثير من الأحيان، كانت الأحاديث المحفوظة لدى جامعي الحديث في القرن التاسع انعكاسات لحالة الإجماع القويّ في بغداد العباسيين بوصفها مكانًا شديد الاختلاف عن مكة والمدينة في القرن السابع.

وقد عُني كتّاب سيرة رسول الله بالأحاديث، فكانت مصدرًا كبيرًا يضاف لهم عن حياة محمّد. كان "ابن اسحق" (704-767) أوّل من كتب سيرة للنبيّ، ولكن لم يُكتب البقاء لهذه السّيرة إلّا في النسخة التي قدّمها "ابن هشام" (توفي سنة 833)، والتي نقف فيها على حياة وأعماله، وقد نُقلت بشيء من البذخ في إيراد التفاصيل (يقع نص "ابن هشام" في أكثر من 1000صفحة في الترجمة الفرنسية).

رَوَتْ هذه السّيرة النّبويّة، في مقاطع كثيرة، أحداثًا اكتفى القرآن بالتلميح إليها، في حين وردت هذه الأحاديث وفق ترتيب زمنيّ، وبدقّة متناهية، كما إنّنا نجد بعضًا منها متناقضًا مع الكتاب المقدّس، ومن أمثلة ذلك أنّ القرآن أتى في مواضع عديدة على ذكر وثنيّي مكة الذين شكّكوا في النبيّ، وطلبوا منه معجزات تثبت صحّة دعوته، فأجابهم بالآية

ﵟأَوَلَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚﵞ سورة العنكبوت آية 51.

وعلى الرّغم من ذلك، كان المسلمون على امتداد القرنين التاليين لتاريخ وفاة النبيّ، ينسبون إليه طائفة من المعجزات شبيهة بتلك التي كانت تُنسب إلى بعض النسّاك الذين ورد ذكرهم في الأدب الجاهليّ، وجاء هذا الأمر في معرض مدح المسلمين لنبيّهم أمام اليهود والمسيحيّين وغيرهم من المشكّكين.

وقد أعاد "ابن هشام"4 العديد من هذه القصص مثل حادثة شقّ الصّدر التي أجرتها الملائكة على "محمّد" لتنقية قلبه من الشوائب، وكذلك حادثة قيام "محمّد" بتشطير القمر نصفين ردًّا على أهل مكّة المشكّكين، ومثلها زيارته الفردوس وجهنّم بصحبة الملك "جبريل"، وغير ذلك من المعجزات.

وحتّى النّصوص التي رَوَتْ أيّام "محمّد" الأخيرة (مرضه، وفاته، دفنه، تنصيب أبي بكر بوصفه أوّل خليفة...) شابها كثير من التفكّك وعدم التماسك، وقد نقلت مصادر الأحاديث هذه الوقائع بصيغ متنوّعة، وقد تكون أحيانًا متناقضة إلى الدّرجة التي لا نملك معها أيّ يقين في الإجابة عن أسئلة أوّليّة مثل تاريخ وفاة محمّد ومكانها.

ومنذ ذلك الحين، ظلّت الصّعوبة التي تحيط بـ"محمّد التاريخي" تتمثّل في الكشف عن أنوية الحقيقة التاريخيّة في السّيرة، وفي كتب الأحاديث الضّخمة أكبر من الصّعوبة التي نواجهها في حالة النبيّ عيسى.

 ونحن إذ نطرح الأمر، فإنّنا نلاحظ أنّ مصادر السّيرة النبويّة تتفّق وبشكل واسع حول الأحداث الرئيسيّة في حياة النبيّ.

ولد النبيّ في "بني هاشم" من قبيلة "قريش" التي كانت لها سيادة مكّة آنذاك، ونشأ يتيمًا منذ صغره، فقد تُوفّي أبوه قبل مولده، وماتت أمّه وهو ما زال طفلاً، وكفله عمّه أبو طالب فعمل معه في التّجارة، ورافقه في القوافل إلى سوريا، وفي أحد أسفاره تعرّف عليه راهب مسيحيّ يُدعى "بحيرا" رأى فيه علامات النبيّ الذي نبّأت به الكتب. تزوّج "محمّد" في سنّ الخامسة والعشرين من خديجة، وهي أرملة من مكّة كان قد عمل عندها.

وفي سنة 610 بلغ الأربعين، وكان من عادته أن ينقطع للتّعبّد في "غار حراء" في جبال قريبة من مكّة، وهناك تلقّى أوّل الوحي عن طريق الملك جبريل الذي أعلمه أنّ الله قد اختاره رسولاً، واستمرّ في تلقّي الوحي.

وكانت "خديجة" أوّل من قاسمه هذا الأمر، ثمّ توسّعت الدائرة لتشمل المقرّبين ليعلن بعدها دعوته على الملأ في مكّة.

كانت الرّسالة الأولى ممّا أوحى به الله لمحمّد كما وردت محفوظة في القرآن أنّ الله واحد، وأنّه خلق الإنسان والعالم، وإنّه من الدّنس أن تُعظّم معه آلهة أخرى تكون مكانه. وكان "محمّد" يحثّ من يستمع إليه على الاعتراف بوحدانيّة الله، ونبذ عبادة الأوثان، والتزام الاستقامة في الحياة بالتصدّق على الفقراء، وتثبيت العدالة والرّحمة، وقد وعد الله من يتّبع تعاليمه بنعيم الفردوس، أمّا الآخرين فإنّ مصيرهم عذاب جهنّم ونارها.

وعلى الرّغم من الحماية التي أحاطه بها عمّه، فإنّ رسالته قد قوبلت بعداء شديد من النّخب الدينيّة والاجتماعية في مكّة، وقد اضطرّ بعض أتباعه إلى الّلجوء إلى الضّفة الأخرى من البحر الأحمر في المملكة الحبشيّة المسيحيّة. ولمّا تُوفّيت خديجة وأبو طالب صارت وضعيّة "محمّد" أكثر تزعزعًا، وهنا عزم على الرّحيل.

وفي سنة 622، قام بهجرة (يعني ذلك الهروب أو الهجرة)، وهي الحدث المؤسّس الذي يحدّد بداية التأريخ الإسلامي، غادر محمّد مدينة مكّة إلى يثرب على بعد 350 كلم شمالاً، وقد صار اسمها فيما بعد "مدينة النبيّ" وبالفرنسيّة Medine.

كان "محمّد" قد أجرى اتّصالات مع أهل هذه المدينة الذين وافقوا على أن يكون حاكمًا عليهم، وهكذا، مثّلت الهجرة منعرجًا في حياة "محمّد" ورسالته لأنّه أصبح منذئذ قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ذا جاذبيّة، كما كان يتمتّع بسلطة دينيّة وشرعيّة.

لن نتعرّض هنا للتّاريخ السياسيّ والعسكري لمجتمع المدينة المنوّرة، ولا للمعارك المظفّرة التي قادها محمّد وأصحابه ضدّ خصومه الوثنيّين في جزيرة العرب، ولا تلك التي خاضها ضدّ يهود المدينة، أو ضدّ قريش من أهل مكّة. وقد أسهبت السور المدنيّة في ذكر عدد كبير من هذه الصّراعات، كما تناولت ما أنعم الله به على أهل المدينة من المؤمنين من أحكام شرعيّة طالت موضوعات متنوّعة كالصلاة والطّهارة والزّواج والميراث.

وفي سنة 630، وجد "محمّد" نفسه على رأس أكبر قوّة روحيّة وسياسيّة وعسكريّة في شبه جزيرة العرب، وقد قَدِم هو أصحابه إلى مكّة فاستسلمت دون عناء، وتوجّه محمّد وجيوشه إلى الكعبة لتحطيم الأوثان التي كانت فيها، وتطهير الحرم الذي كان إبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعده، فكان أوّل بيت يُعبد فيه الله الواحد، كما ورد ذكر ذلك في القرآن.

عاد "محمّد" إلى المدينة عاصمة امبراطوريّته التي كانت في أوج توسّعها، ولكنّه عاد إلى مكّة سنتي 631 و 632 لأداء مناسك الحجّ، ثمّ مرض بالمدينة ومات فيها في شهر يونيو من سنة 632، وهو على ركبتي زوجته عائشة.

 يتأسّس سرد الأحداث في الجزء الأكبر منه على السّيرة، وقد تمّت الموافقة عليه من أغلب أولئك الذين حاولوا إعادة تشكيل حياة النبيّ سواءً أكانوا من المسلمين أو من غيرهم. ومع ذلك نظلّ نكرّر أنّه من الصعب، بل إنّه من المستحيل أن نفصل بين الواقع التاريخي والإضافات الملفّقة للمنتحلين.

وممّا لا يمكن نفيه هو أنّ الإسلام، وعلى امتداد القرنين التاليين لوفاة "محمّد"، تأسّس بوصفه دينًا ارتبط باليهوديّة والمسيحيّة، ولكنّه كان متميّزًا عنهما بشكل جليّ.

وقد أحسّ الخلفاء المسلمون ومعهم النّخب الدينيّة و الفكريّة (العلماء) في ظلّ الخلافتين الأمويّة (661-750) والعبّاسيّة (750-1250) بالحاجة إلى أن يكونوا مختلفين وبشكل واضح، من زاوية دينيّة أو شرعيّة بالنّظر إلى أنّ هاتين الخلافتين قد بسطتا نفوذهما على امبراطوريّة عظيمة أغلبها من غير المسلمين.

  ومن هذا التّعريف الذي تقدّم به الإسلام كان لمحمّد دور أساسيّ، فقد ثُبّتت الشّهادة، ولأوّل مرّة في العصر الأمويّ، تمّ الجزم بـ" لا إله إلّا الله ومحمّد نبيّه"، وهكذا صار الاعتقاد في السّلطة النبويّة لمحمّد معيارًا أساسيًّا يسمح بتمييز المسلم من غير المسلم.

وعلى الدّوام، لم يكن محمّد في نظر المسلمين نبيًّا ورسولاً جاء بكلام الله فحسب، بل كان أيضًا نموذجًا يُحتذى.

وعلى مرّ الزمن، تعدّدت الصيغ التي أُدرك بها محمّد بشكل كبير، وأنتجت صورًا مختلفة عنه، ففي حين يرى الصّوفي أنّ محمّدًا متصوّف عرفانيّ مثاليّ، كان المسؤول السّياسي يرى فيه الحاكم المخصوص بعناية الله، والمسلم الورع، والمثال الذي ينبغي أن يُقتدى به في كلّ شيء بدءًا بكيفيّة الصّلاة إلى كيفيّة التسليم على الجار، أو كيفيّة غسل الأسنان، فاسمه نفسه يعني "الجدير بالثّناء"، ولذلك يكون الثّناء عليه إمّا بوصفه: داعيًا مرسلاً من الله ومخلّصا يخبر عن اليوم الآخر، وثوريًّا سياسيًّا ورجل دولة، ومرشد جماعة وخبيرًا بالحروب، وقائدًا عسكريًّا وحكمًا في الخصومات، وناشرًا للعدالة. 

وقد أُعيدتْ رواية هذه الأخبار الإسلاميّة الثّريّة والمتعدّدة، وتمّت دراستها من قبل عدد من المتخصّصين، ومن هؤلاء "كريستيان جروبير" وما قام به مؤخّرًا.

وقد جعلت في نيّتي في هذا الكتاب أن أقدّم بانوراما عن وجهات النظر الغربيّة عن محمّد في هذا العالم الكونيّ المعولم، كما نرى أنّه من حقّنا أن نتساءل عمّا تعنيه صفة " الغربيّ"، وفي غالب الأحيان، يُقدَّم مصطلحا "مسلم وغربيّ" و "مسلم وأوربيّ" وبشكل بديهيّ، على أنّ كلّ واحد منهما يقصي الآخر بشكل متبادل.

وفضلاً عن هذا، فليس في وسعنا أيضا الحديث هنا عن "نظرات مسيحية للإسلام"، وهذا لسببين اثنين:

أوّلهما أنّ الكاثوليكيّة والبروتستانتية الأوربيّتين ليستا إلّا فرعين من ديانة عالميّة تنضوي تحتها الكنائس السريانيّة والقبطيّة واليونانيّة والأرمينيّة والإثيوبيّة وغيرها، وقد كان لعدد كبير من هذه الكنائس "الشرقيّة" تاريخ طويل وغنيّ من الألفة والتواصل الوثيق مع الإسلام.

وثانيهما أنّ كثيرًا من الأوربيّين الذين سنتفحّص كتاباتهم لا يقدّمون أنفسهم على أنّهم مسيحيّون، وإنّما بوصفهم يهودًا أو ربّانيين أو ملحدين.

 وبعد أن صُغْتُ هذه التّحفّظات، سأسعى في الفصول التسعة التالية أن أكتب تاريخًا عن تمثّلات نبيّ الإسلام في أوربّا.

سأوضّح في الفصل الأوّل كيفية تقديم بعض المؤلّفين الأوربييّن الإسلام، وذلك ما بين القرنين 12 و17، وحتّى بعد هذا التاريخ، فقد كان الإسلام عندهم ديانة وثنيّة، وكان محمّد أحد أهمّ آلهتها.

وبطبيعة الحال، إنّ من يعرف عن الإسلام شيئًا ولو كان ضئيلاً يدرك أنّ الأمر يتعلّق بدين توحيديّ، وأنّ "محمّدًا" بالنسبة إلى أتباعه نبيّ وليس إلهًا.

وكما سنرى في الفصل الثاني، فقد قدّم العديد من مؤلّفي القرون الوسطى "محمّدًا" على أنّه كان المحرّض على وجود نسخة جديدة محرّفة عن المسيحيّة، أي على وجود هرطقة، وقد فعل ذلك بشكل إنسانيّ بالغ الإتقان، كما استطاع هذا المشعوذ بالوعظ والسّحر والمعجزات المزيّفة أن يقود العرب السّذج الشهوانيّين إلى اتّخاذه نبيًّا، ويجعلوا منه زعيمًا لهم.

إنّنا ننتظر أن نقع على مقاربة أكثر دقّة عند مسيحيّي إسبانيا، لأنّ الإسلام كان حاضرًا في شبه الجزيرة الإيبيريّة منذ وصول جيوش طارق بن زياد سنة 711 إلى غاية طرد الموريسكيّين في القرن 16.

في الواقع، هذا ما سنراه في الفصل الثالث لأنّ العلماء في إسبانيا في القرن 13من أمثال كبير أساقفة طليطلة "رودريغو جيمينيز رادا" قد عمدوا إلى تفحّص سيرة محمّد في المصادر الإسلاميّة.

في القرن 14، استند كتّاب آخرون في إسبانيا، وفي غيرها على هذه الصّورة للدّعوة إلى حروب صليبيّة جديدة ضدّ مسلمي الإمبراطوريّة العثمانيّة أو ضدّ غرناطة النّاصريّة.

وفي القرن 15، قادت هذه الوضعيّة بعضهم إلى ابتداع نصوص تحثّ على الكفر تعود حسب زعمهم إلى الأزمنة الأولى للكنيسة، وهي تهدف إلى إضفاء الشّرعيّة على معتقداتهم وطقوسهم الدّينيّة.   

آنذاك، كان أكثر ما كُتب باللغات الأوربيّة عن النبيّ محمّد سلبيًّا، ولكن بعد فترة بدأت بعض الأحكام الإيجابيّة تُسمع هنا وهناك، فقد عرفت إنجلترا هي الأخرى اضطرابات سياسيّة ودينيّة في القرن16، وهنا أيضًا أُسْتُغِلَّ نبيّ الإسلام في النقاشات التي هزّت البلاد، وهذا ما سيكون موضوع الفصل الخامس.

قدّم "ستاب" محمّدًا المصلحَ الدينيَّ، والحاكمَ المحبوبَ الذي يثير الإعجاب، والمشرّع الذي أُوتي جوامع الحكمة.

وهكذا يكون "ستاب" أوّل أوربيّ غير مسلم تحدّث عن النبيّ بعبارات الإطراء على هذا النّحو، بينما عمل آخرون على ثنيه ووضع العقبات أمامه.

وفي مواجهة هذا النّقد، تولّى علماء الدين الأنجليكان تبعة الحديث عن الكنيسة، ومن هؤلاء "هنري بريدو"، وهو من التلاميذ الذين كانوا زملاء لـ"ستاب" في "أكسفورد"، وقد نشر في سنة 1697 كتابًا بعنوان "حياة محمّد" يقول فيه: "سنكتشف فيه بوضوح حقيقة الخداع"، وقد سعى فيه إلى الدفاع عن المسيحيّة، و إقامة الدليل على أنّ محمّدًا كان مخادعًا10.

وفي المقابل، ذهب الكتّاب المناهضون للكنيسة من أمثال الربّوبيّ الإيرلنديّ "جون تولاند" أبعد من ذلك حين أرادوا كسر ادّعاءات الأرستقراطية الكهنوتية فقدّموا "محمّدًا" على أنّه رجل ذو بصيرة، وأنّه بطل الإصلاح المناهض للكنيسة الأنجليكانيّة.

وكما سنرى في الفصل السادس، كان "محمّد" هدفًا للاستغلال ذاته في فرنسا القرن 17، وتعلّق الأمر في هذه المرّة بالهجوم على امتيازات الكنيسة الكاثوليكية. ففي الوقت الذي وسمه فيه بعضهم بكونه مخادعًا يضاف خداعه وتعصّبه لخداع المسيحيّين وتعصبّهم (خاصّة في رسالة المخادعون الثلاثة الصادر سنة 1719، أو مسرحيّة " التعصّب أو النبيّ محمّد" لـ"فولتير" الصادرة سنة 1741)، كان البعض الآخر، على غرار "ستاب" و"تولاند" قد جعل من النبيّ مصلحًا قضى على الشّعوذة وحارب سلطة الكنيسة.

تجسّدت هذه الصّورة عند كلّ من "هنري بولانفلييه" في كتابه "حياة محمّد" سنة 1730، و"جورج سايل" في خطابه التمهيديّ الذي صدّر به ترجمته للقرآن إلى الإنجليزية سنة 1734.

أمّا فيما يتعلّق بـ"فولتير"، فيعود جانب من الفضل إلى قراءته عمل "سايل" ممّا جعله يقدّم محمّدا في مقاله "عن الأخلاق" بوصفه مصلحًا ورجل دولة عظيم.

كنّا قد بيّنّا أنّ "نابليون بونابرت" كان يكنّ إعجابًا كبيرًا لمحمّد، وسيتبيّن في الفصل السابع أنّ النبيّ كان بطريقة ما مثالاً بالنسبة إليه: خطيب مفوّه، وقائد جيش عبقريّ، ورجل دولة حسن الاطّلاع.

أمّا رومانسيو القرن 19، من "غوته" إلى "كارليل" مرورا بـ"لامارتين"، فقد خصّصوا له مكانًا إلى جانب نابليون في هيكل الرّجال العظماء الذين غيّروا مجرى التاريخ.

وفي المقابل، لا يمكن لرجل عظيم أن يكون مخادعًا، كما أكّد "كارليل"، لأنّه يكون صادقًا بالضرورة، وهو في هذا يعبّر عن إحساس يتقاسمه مع العديد من الرومانسيين. لقد جلبت حياة التواضع وبساطة كرم "محمّد" محبّة أبناء شعبه وإعجابهم به، كما قامت هاتان الصفتان شاهدًا على صدقه وعمق فكره.   

 ويرى هؤلاء أنّ محمّدًا كان يؤمن بالمصدر الإلهي لوحيه، ولذلك كانت الصّورة النّفسية التي مدح بها "لامارتين" النبيّ قائمة على أنّه العبقريّ الصوفي الذي يعتقد أنّ ما يراه مُنزَّل من عند الله.

إنّ روحانيّة محمّد عند كثير من هؤلاء الكتّاب تشعّ ببريق لا يجدونه في أوربا التي غرقت في المادّية والشكّ.

ما سنراه في الفصل الثامن يبدو مختلفًا قليلاً في منظوره لأنّه يتعلّق بيهود أوربا في القرن 19. في هذه الفترة كان أفضل المختصّين في القرآن والأحاديث من اليهود الألمان والمجريّين، فـ"أبراهام جيجر" الذي كان على رأس حركة إصلاح سعت إلى تحديث اليهوديّة باختزال طقوسها لتمكينها بالتأقلم بشكل أفضل مع المجتمع الأوربيّ، كان من كبار العارفين بالمسيحيّة والإسلام، وقد قدّم هذا الرّجل محمّدًا على أنّه مصلح عبقريّ اكتسب عقيدة التوحيد من أساتذة التلمود11، ثمّ تولّى بعد ذلك أمر تكييفه مع المستمعين له من العرب.

ومن هنا أخذ بعض المستشرقين اليهود (وبوجه خاصّ غوستاف وَيْل وإينياس جولدزيهر 14) على عاتقهم مهمّة صقل هذه الصورة عن النبيّ باعتباره مثالاً يُحتذى في سبيل إصلاح اليهوديّة.

وأخيرًا، ولمّا كان الاستعمار في طريقه إلى زوال في القرن 20، ولمّا تضاعفت النداءات لحوار الأديان والثقافات، دافع عدد من الكتّاب الأوربيّين عن فكرة ضرورة اعتراف المسيحيّين بمحمّد نبيًّا. (وهذا هو موضوع الفصل التاسع).

كانت صورة نبيّ الإسلام آنئذ في قلب الجدال الذي هزّ الكنيسة الكاثوليكيّة بشأن عالميّة الرسالة المسيحيّة، والموقف الذي يجب تبنّيه تجاه المؤمنين من الأديان الأخرى.

كان "لويس ماسينيون"، وهو المستعرب اللامع، والأستاذ بـ"الكوليج دوفرانس"، كاثوليكيًّا ورعًا مخلصًا، لكنّ ذلك لم يمنعه من الإفصاح عن إعجابه وتقديره للإسلام، وخاصّة لمذاهبه الصوفيّة، وأن يرى أنّ محمّدًا كان مرشدًا موثوقًا به موحى إليه من الله، دعا إلى الحقيقة، وقاد شعبه إلى عشق الله الواحد المتعالي، وإن لم يكن محمّد مدعيًّا النبوّة، فإنّه يظلّ على أيّ حال، "نبيًّا سلبيًّا" بالنّظر إلى أنّه لم يتوصّل إلى إدراك الحقيقة النهائيّة للمسيحيّة.

أمّا الباحث في الإسلاميّات، والقسّ الأنجليكاني "مونتغمري واط"، فكان شديد الارتباط بالحوار المسكوني إلى درجة أنّه اجتهد في إزالة (أو على الأقل تخفيف) العوائق التي تعترض ذلك، وهو في ذلك شبيه بـ"ماسينيون" و"كونج" إذ يرى أنّ اعتراف المسيحيّين بالدّور النّبوي لمحمّد أمر أساسيّ.

 لا تُشكّل تمثّلات النبيّ التي أعالجها في هذا الكتاب إلّا عيّنة عن غنى وتنوّع الصّور التي قدّمها الكتّاب والفنّانون الأوربيون، وما يجب أن يبدو واضحًا من قراءة هذا العمل هو أنّ صورة الإسلام وصورة النبيّ في أوربا لا يمكن أن تكون إلّا متجانسة، وأبعد من أن تكون عدائيّة بشكل منظّم. مع أنّه في الغالب هذا هو الفهم الذي لدينا، وفيما يتعلّق بالدراسات الحديثة (خاصّة في العالم الأنجلوفوني)، فالمشكلة ترتبط في جزء كبير منها بتأثير عمل "إدوارد سعيد" بعنوان "الاستشراق" الصادر سنة 1978.

حلّل "سعيد" في هذا الكتاب البعد الإيديولوجي لتمثّلات الشرق المعمول بها في الثقافات البريطانيّة والفرنسيّة في القرنين 19 و20، وقد كتب: "إنّ الاستشراق أسلوب غربيّ للهيمنة، وإعادة الهيكلة والسلطة على الشرق"، وبوصفه خطابًا يصبح الاستشراق المشجب الإيديولوجي للوقائع السياسيّة والعسكريّة التي فرضتها كلّ من فرنسا وبريطانيا على الشرق الأوسط، وبمعنى آخر، يكون الاستشراق أداة لشرعنة الامبرياليّة.

وبالفعل، انطلق "سعيد" من مبدأ أنّه لا يمكن ألّا يكون عند هؤلاء نظرة سلبيّة عن الإسلام موروثة من الأحكام المسبقة للقرون الوسطى، أو معلنة عن إيديولوجيّات إمبرياليّة مهيمنة.

وهذا يعني وجودُ مذهب يرى في الإسلام البدائيّ، وفي الجماعة التي أسّسها محمّد في المدينة مثالاً للمجتمع وللعلاقات بين الكنيسة والدولة، كما منع هذا الطرح أيضًا "سعيدًا" من فهم الإعجابِ الخالص الذي غذّاه عدد من الرومانسيين الأوربيّين تجاه الروحانيّةِ الإسلاميّة، وكذا تجاه النبيّ. 

إنّ أحد أهمّ أهداف هذا العمل هو الإقرار بالتّنوّع والتشابك في الرّؤى التي حملتها أوربا عن محمّد وعن الإسلام.

 

هوامش وتوضيحات:

1 - هذه مقدمة الكتاب الذي صدر بباريس عن دار ألبان ميشال في أواخر 2018 .

 (John Tolan :(1959- مؤرخ وباحث في الإسلاميّات فرنسي أميركي، اهتمّ بدراسة طبيعة العلاقات التي تربط بين العالمين العربيّ الإسلاميّ والأوربيّ المسيحيّ منذ القرون الوسطى إلى اليوم، له العديد من الأعمال والبحوث منها:

- العلاقات بين بلاد الإسلام والعالم اللاتيني في القرون الوسطى، باريس 2000.

- السارازان: الإسلام في المخيال الأوربي في القرون الوسطى. باريس2003.

- القديس عند السلطان، لقاء فرانسوا داسيز بالإسلام: ثمانية قرون من التأويلات، باريس، 2007.

- أوربا والإسلام 15قرنًا من التاريخ، باريس، 2009.

Mahomet -2: هو الاسم الذي أطلقه الغربيون على النبيّ محمّد منذ القرون الوسطى، و هو محمّل بدلالات الاستهجان والكراهية و التعصّب.

Sarrasins-3: لقب أطلقه الأوربيّون في القرون الوسطى على مسلمي أوربا وأفريقيا. (عن معجم لاروس، باريس 1987، ص831).

4 - في سيرته النبوية المعروفة "سيرة ابن هشام" وهي من أقدم السّير، وقد ظلّت مرجعا لا غنى عنه لمؤرخي السيرة النبوية من المسلمين ومن غيرهم على حدّ سواء.

* المقال طويل .. تم تقليصه ليتناسب مع المساحة.


عدد القراء: 1360

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-