الهُويّة الرّقميّةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 23:57:49

د. كريم الطيــبــي

المغرب

فرض العالم المعاصر وجودًا رقميًّا نتيجة للعولمة وتطور العقل التكنولوجي، وأصبحت المجتمعات الإنسانية شديدة التعلّق بهذا الوجود الحميميّ، لذلك غدا من الطبيعي أن يتحدّث كثير من الباحثين عن "المجتمع الشبكي"1، و"المجتمع الافتراضي"2، و"العصر الرقمي"3، نظرًا لوجود كينونة أخرى بموازاة الحياة الواقعية، الأمر الّذي انبثق منه تشكّل هوية رقمية وافتراضية وشبكيّة تطبع تفاعلات المستخدمين، وتوثّق ذواتهم واهتماماتهم وانشغالاتهم وتصورهم للحياة والوجود والعالم والقيم، إن الهُويّة الرقمية تُعدُّ "مظهرًا من مظاهر العالم الرقمي، والتجارة الرقمية، والبريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية والعوالم الافتراضية، حيث لم تعد مرتبطة في العصر الرقمي بجهود ثابتة، أو مصوغة ماديًا كرخص القيادة أو جوازات السفر مثلاً، بل أنشأت العوالم الافتراضية والشبكات الاجتماعية مواطن للتفاعل بين الأفراد في النوع والطبيعة وعلى هذا الأساس ظهرت هذه الهويات الجديدة محمولة على نحو متزايد ولها القدرة على تجاوز أصولها والانتقال إلى الشبكات الاجتماعية والعوالم الافتراضية الأخرى"4. وإذا كان الوجود الواقعي يفرض حدودًا وقوانين وعوائق جمّة تجعل الفرد منعزلاً عن الانخراط في مختلف القضايا والمستجدّات، وتجعل كينونته مقصورة على مداركه العقلية وقدراته ومكانته الاجتماعية وصفته العلمية، وهي الخصيصة نفسها التي يفرضها الوجود النّصّي الذي يكبح جماح الأفراد ولا يسمح بالمشاركة الشّعبوية، إذ ما يزال النّشر الورقي نخبويًّا متاحًا لمن يمتلك المعرفة وآليات إنتاجها وقنوات تبليغها. وإذا كانت هذه خصائص الوجود الواقعي والوجود النّصي، فإن الوجود الافتراضي على عكس هذا تمامًا، فقد سمح للمستخدمين بأن ينخرطوا بكل حريّة ودون قيد أو شرط في مختلِف القضايا والمستجدات والأخبار، دون اعتبار لشرعية الخوض في مناقشة موضوع ما خارج التخصص، وعبر هذه الخصوصية تستحيل الهُويّة الافتراضيَّة ذاتًا عارفةً وعالمةً قادرةً على خوض غمار السّجال في مختلف القضايا، سياسة كانت أو دينيّة أو فلسفيّة أو رياضيّة أو اجتماعيّة أو قانونيّة أو إنسانيّة، وأمام هذه الإمكانية الهائلة يمكن القول إنَّ الفضاءات الافتراضية تتيح "للأفراد فرصة تقديم أنفسهم للآخرين بحرية كبيرة ودون قيود، وهذه الحرية تعطي بعض الأفراد مجالاً رحبًا لتقديم أنفسهم بطريقة تمكنهم من إخفاء بعض الخصائص والصفات غير المرغوبة لديهم، والتي لا يرغبون أن يعرفها الآخرون عنهم (كالعمر والمهنة والجنس والطبقة والإعاقة الجسدية وبعض السمات الشخصية كالبدانة أو النحافة أو الخجل إلخ)"5. ومن ثمّ، جاز لنا في الفضاءات الرّقمية الحديث عن هوية رقميّة، يتمثل في تقديم الذّات تقديمًا لا يخلو من أهداف تداوليّة ونفعيّة يمكن إجمالها في محاولة إبراز الذاتِ الافتراضيةِ تفوقَها ومثاليتَها وبطوليتها، إنها ذات كاملة تنسجم مع القيم الإنسانية النبيلة، وتتبنى كل المواقف الإيجابية، وتصنع كينونة فاضلة. والواضح أن هذه الذات المصطنعة قائمة على التمسرح والتزييف، وهما السبيلان إلى تأكيد الذات في واقع اجتماعي قائم على القمع والكبت ومصادرة الحرية في التعبير، وكبح جماح التطفل على مختلف المجالات المعرفية والعلمية، بــ"حيث إن الرقمي والافتراضي لا يختزل فقط في جهاز آلي، بل يشكل أيضًا "بيئة معيشية"، حيث نكون في الواقع مغمورين، ومهاجَمين بصفة مستمرة"6، وهو ما يؤكّد التّحول المعرفي الذي مسّ العقل الإنساني، بحيث استعاض بالخطاب المادي ومنطق الواقع والوجود بعالم افتراضي، و"مع انمحاء اللوغوس والقول واللغة سيتلاشى الفكر، ستستمر الشاشة في لعب دور مركزي وستصبح الصورة حافزًا على ميلاد ذاتية افتراضية. وسنبقى ضمن ذاتية هجينة مستلبة داخل الصورة وفي نظر الآخرين: فبما أن الذات ليست مطمئنة في وجودها الخاص، فإنها ستظل تنتظر تأكيدها لنفسها من خلال البحث عن أكبر قدر من التقدير لنفسها في تكاثر اللايكات، وهذا هو الإحساس الذي تحيلنا عليه الذاتية الافتراضية"7. وتتجلّى هذه الفكرة أكثر ما تتجلّى في موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك8، الذي عمّق كينونة الذات الافتراضية، ووسّع خيارات إبرازها وظهورها، وقدّم كلّ التسهيلات أمام المستخدمين لبلورة اهتماماتهم والإدلاء بآرائهم ومواقفهم ضمن موجة الثقافة العلمية الرقمية الحالية، التي تنسجم مع "الخطاب السائد على الانترنيت والشبكات الاجتماعية الذي يقيِّم دائمًا مفاهيم وقيما تُجلي هذه النظرة للعالم المعاصر، لنذكر هذه الفوضى: الإمكانات المعاصرة الهائلة للوسائل السمعية البصرية (كتابات، وأصوات، وصور)، ومركزية الشبكة، ومزايا المجانية، وثقافة التقاسم والتعاون، ونهاية الوساطة (تطور العلاقات الأفقية بين الأشخاص)، وإشعاع الإبداع والابتكار، وعالم الاستقلالية والحرية الشخصية"9. لقد صار تقديم الذّات عملية حتمية تُرافق نشاط المستخدم في هذا الموقع الافتراضي؛ فـ"طريقة التصرّف والتنظيم الشكلي للصفحات الشخصية، وأسلوب الكتابة، كلها مؤشرات تظهر ضمنيا للآخرين شخصية المتدخل، في الواقع فإن المناقشات عن طريق الشاشات تسلط دائمًا الضوء على عناصر شخصية لكل شخص، وذلك في إطار المؤانسة العادية، في الظل أو في الخلفية"10. وعليه تتأسس الكينونة الرقمية على مشيرات بارزة تكشف الذات الافتراضية ويمكن بناء عليها تشكيل انطباع وصورة عن هذه الذّات؛ إنّ "التواصل الرقمي يكون كمصدر منشئ للذات وكشكل من التميز الاجتماعي في الوقت نفسه، ولذلك تُوضع تدريجيًا دينامية خاصة بالويب تُمكّن من بناء قاعدة افتراضية ذاتية، لها علاقة بالآخرين"11.

وقد أشارت الباحثة دومينيك كاردون إلى أشكال التعبير التي تتبلور في العالم الرّقمي حينما أكّدت أن الهوية الرقمية قائمة على حركية مزدوجة تقوم على مقومين: "الدينامية الأولى تتعلق بالبوح كنشاط مسترسل للتعبير عن الذات الذي يتجلى في الحكايات الحميمية، والبحث عن علامات التميز، وإظهار إنتاجات شخصية، والدينامية الثانية تحيل إلى ابتعاد الذات وتتضح بالطريقة التي يؤدي بها مستخدمو الإنترنيت بعض الأدوار البعيدة عن قيود الواقع، فيندفعون لإقامة توصيفات وهمية أو مبالغ فيها تدفعهم إلى تغيير مظاهرهم"12. وهو ما يؤكّد أن الذّات الافتراضية تركن إلى توثيقِ هُويتها وعرضِها للآخرين، ضمن استراتيجية تواصليّة تأثيرية قائمة على التفخيم لنيل الاستحسان والقَبول لدى جمهور المتتبعين والمعجبين، وعبر هذا الإجراء التّسويقي الذي يعمد فيه المستخدم إلى إشهار ذاته في صورة مثيرة للإعجاب والتقدير تغدو "الأنا ماركة (علامة تجارية)"13. ويستحيل المستخدم كائنًا ذا موقع سامٍ وقيمة سامقة؛ فالانغماس في الهوية الرقمية وتفاعل الآخر الافتراضي إعجابًا واستحسانًا وحضورًا يولّد وهمًا لذيذًا لدى الذات الافتراضية ينبئها ببلوغ مدارج الرقيّ في هرم المجتمع، فيرى "المرء نفسه نجمًا، إنه يصبح بطلاً أيقونيًا"14 بتعبير المحللة النفسية الفرنسية إلزا غودار.

ولا شكّ أنّ هذا الانفصام الوجودي لدى الذّات الإنسانية التي تنشطر إلى ذاتين واقعية وافتراضية أن يثير قضية أخلاقية بارزة هي الصدق، فما مدى انسجام الإنسان مع ذاته؟ أو بالأحرى ما مدى تطابق الذات الواقعية والذات الافتراضية؟ لقد أشارت الباحثة الفرنسية إلزا غودار إلى هذا الانشطار الذي يعتمل في وجود الذات الإنسانية مؤكّدة الطابع المسرحي للذات الافتراضية التي تعتمد الإخراج الدّقيق لهُويتها على فضاءات العالم الافتراضي، ممّا يجعلها ذاتًا مقنّعة ومزيّفة، تقول الباحثة: "ما هي طبيعة النزاهة الخاصة بأنانا الافتراضية؟ عادة ما يكون تمثل الذات التي نعرضها في النيت – وشعارها السيلفي-هو بناء، إنه عملية إخراج. ودون أن نتحدث عن "البديل" الذي يختلط أحيانًا بالأنا المثالية، أو مع برامج متعددة، أهمها فوتوشوب الذي يقترح تحسين الصورة الفسيولوجية من خلال إدخال رتوشات عليها، فإن الأنا الافتراضية تتمتع بكل خصائص "السيلفي المزيف"15. وعلى هذا الاعتبار يمكن القول إن "الأنا الافتراضية هي أنا رقمية"16، لا يُقدّم الإنسان كينونته الحقيقية بقدر ما يسعى إلى صناعة ذات مثالية جديرة بأن تكسب تعاطف المجتمع الافتراضي واستحسانه وإعجابه، بل إن الفيس بوك شكّل فضاءً خصيبًا لتلميع صورة الذّات الّتي تتعرّض لانتقادات أو هجوم أو خدش؛ فالمشاهير على سبيل المثال ينتهزون هذا الفضاء لتعديل الصورة السلبية التي قوّضت مكانتهم من خلال إشاعات تسيء لهم أو فضيحة أخلاقية تهدم سمعتهم، والشأن نفسه للسياسيين الذين يحاولون "إقناع الناس بصدقية خطابهم وصدق نيتهم، فيبنون صورة نزيهة في الشبكات الاجتماعية، يفعلون ذلك بكل شفافية، فوراء هذه النزاهة المفرطة المعلن عنها يختفي فعل للتواصل لا غاية منه سوى إقناع وتلميع الصورة الافتراضية للسياسي"17، ومن ثمّ فإن الذّات الافتراضية تستثمر هذا الوسيط الاستراتيجي في تقويض التمثلات الجاهزة السلبية التي ترسّخ انطباعات سلبية عنها، وتحاول السعي إلى طمسها وإعادة صياغة صورة بديلة إيجابية ومثالية تنسجم مع القيم المتفق عليها في المجتمع الافتراضي، حتى تتمكّن من الحفاظ عن موقعها وهيبتها في الوجود الرّقمي.

ولعل التأمّل في حضور الذّات الافتراضية في صفحات الفيس بوك أن يكشف لنا بروز ذات ناقدة فاحصة تترصّد الوقائع والأحداث وتتوقّف عندها تحليلًا ونقدًا وتعليقًا حينًا، وسخريةً وتهكّمًا حينًا آخر، والملاحظ أن هذه الدّينامية التّفاعلية لا تقتصر على مجال واختصاص محدّدين بقدر ما يرافق كلّ الوقائع المثيرة باختلاف مجالاتها؛ فعلى سبيل المثال إذا كانت الجهات الرّسمية تشير إلى أرقام هزيلة في المشاركة السياسية للمواطنين المغاربة وتسجل نسبة ضعيفة في الواقع، فإن المواطنين الافتراضيين يجسّدون اهتمامًا سياسيًا منقطع النّظير، ويمكن استشفاف هذا الاهتمام من خلال معطيات متنوعة، كانخراط الذات الافتراضية في انتقاد تصريحات السياسيين، أو اقتطاع فيديوهات لهم والسخرية منها، وتحليل مواقف الأحزاب والسياسيين، ونشر صور للبنيات التحتية الهشة وربطها بتقاعس المجالس الجماعية المختصة، وتفكيك الخطاب السّياسي، وغيرها من المؤشرات...، بل ويتجاوز هذا الاهتمام الوطن، إلى تتبّع وقائع السياسة في الدّول الأخرى والتفاعل معها. والسّمة نفسها تنطبق على المجال الدّيني، إذ لا تتورّع الذات الافتراضية عن خوض غمار القضايا الدّينية والإعراب عن "فتاويها" ومناقشة أحكام الشريعة وما يتّصل بها، والشأن نفسه في المجال الرّياضي والتعليمي وغيرهما. إنّنا أمام ذاتٍ افتراضية تحاول تأكيد صورة نموذجية، صورة الذات المثقّفة الواعية التي تمتلك أدوات المعرفة والتحليل وقراءة الواقع، وليس غريبًا أن تعضّد الذات الافتراضية هذه الصورة الإيجابية بتقمّص قناع الثقافة وحبّ القراءة عن طريق مشاركة صور الكتب المرفقة بكوب القهوة، أو اقتباس أقوال الشعراء والمفكرين عن القراءة وأهميتها. وتتقوّى الصورة النّموذجية كذلك بانبثاق ذات افتراضية "مناضلة" تنذر وجودها الافتراضي للدّفاع عن المظلومين وانتقاد أجهزة الحكومة ومؤسساتها، ولعب دور المحامي، وذلك عبر إعرابها عن تضامنها مع صحفي معتقل على سبيل المثال، أو مشاركة أنشطة نضالية كالوقفات احتجاجية أو اقتباس أقوال المفكرين والمناضلين...إلخ

إنَّ تماهي الذّات الافتراضية مع مُجريات الفيس بوك ووقائعه وسيولته المعلوماتية، وتبنّي القيم الجمعية والمواقف المتّفق عليها في هذا الفضاء، هو قانون طبيعي تفرضه خصوصية المجتمع الافتراضي؛ فـ" كل منبر يقترح شكلاً من الظهور الخاص، فيعطي الفرصة لكل شخص لإبراز هويته الرقمية على سجلات مختلفة"18. ومادام الغرض الأساس هو تحقيق الذّات والإحساس بوهم الإنسان الفاعل النّاجح النّموذجي الذي يتولّد لدى الذّات المتكلّمة الافتراضية، فإنَّ كلّ هذا لا يتحقّق إلا عبر تشييد إيتوس رقمي أو هُويّة افتراضية تتواءم مع تقاليد المجتمع الافتراضي وأعرافه وإيديولوجيته، وقد أكّد هذا أحد الباحثين قائلاً:"الإنسان المعاصر يسعى إلى التمتع باللحظة، ويبحث عن الرفاهية بشكل فوري وعن تحقيق الذات، ويعطي الأولوية لذاته مع البحث في الوقت نفسه عن اعتراف الآخر عن طريق الصورة الجميلة التي يبثها عن نفسه. فمسرحة الحياة اليومية من خلال الأنا الفاعلة توجد في الواقع وفق درجات متفاوتة من خلال تصرف بعض المتصفحين الظاهرين على الشبكات الاجتماعية"19. ومن شأن هذه الخصوصية أن تؤكّد تناقض الذات الواقعية مع الذات الافتراضية، فـ"الويب هي في الواقع عالم التخفي والاستعارة، والصور الرمزية، حيث لا نعرف دائمًا هوية المرسل أو أصالة المحتوى، وذلك وفق قول مغالي بوسون:"ما أُسمعه ليس صوتي، لكنه صوت بمقتضى المسافة بيني وبينك"، وهذا دليل على أن التبادلات فيها غالبًا ما تكون زائفة"20. ممّا يجعلنا نقر مع أحد الباحثين أن "تقديم الذات على الويب عملية استراتيجية أكثر مما نتوقع من أول وهلة ويدل على تعقيد حقيقي في الإجراءات الراهنة"21.

لقد شكّل الفيس بوك بوصفه وسيطة من وسائط التواصل الاجتماعي مجالاً رحبًا لصناعة ذات افتراضية موازية للذات الإنسانية الواقعية ومنافية لها، حيث يسعى المتفاعل داخل هذه المنظومة الرقمية إلى تأكيد هُويّة مثالية تنتقي أسسها ومقوماتها من القيم الإيجابية المشتركة التي يُقدّسها المجتمع الرّقمي، وضمن هذا الإطار يمكن القول إن تأكيد هذه الهُوية هو بتعبير آخر، يلخّصه قول المتفاعل المضمر: "أنا من ترونه في الصورة، فلا تحاولوا النظر إليّ بطريقة أخرى غير الصورة التي أعرضها عليكم"22، وهذا ما أكّدته مرحلة "السِّلْفِي "التي" أعلنت ظهور كيان جديد يمكن ردّه إلى "ذات افتراضية" موطنها الأصلي ومثواها هو مساحات في فضاء أفقي لا يتسع سوى للحظة ضمن المباشر المتّصل"23، وعلى الرّغم من أنَّ "السِّلفي" يوحي إلى أن الذات الافتراضية تعرض ذاتها عرضًا  حقيقيًّا واقعيًّا إلا أنّ التأمل في عمق هذه العملية يكشف تورّطها في التخفّي والتستّر، والتعديل والإضافة، والمصانعة والتّكلّف، ومن ثمّ فهذه "صور لن تكون أبدًا صورًا حقيقية، لأن برمجيات التحسين والتصحيح وإضافة اللمسات مودعة في الآلة الفوتوغرافية نفسها"24.

ولكلّ هذه الاعتبارات التي سبق تحليلها والوقوف عندها، يمكن عدّ الفيس بوك "مسرحًا كبيرًا للوهم: هناك صداقات حقيقية، ولكن الكثير منها مزيف، تتعدد المعلومات، ولكنها ليست مؤكدة... فهذه الشبكة لا تسهم في الإعلاء من شأن حقيقة الروابط الإنسانية"25، ومن ثمَّ لا تسعى الذاتُ الافتراضيَّةُ إلى كشفِ حقيقتها الوجودية، بقدر ما تنزع إلى المثالية وتتقمّصُ الصِّفاتِ الإنسانيَّةَ السّامية، وتتبنّى القيم الأخلاقية الرفيعة، حتى تستميل الآخرين وتحصد إعجابهم واستحسانهم، وبما أنَّ "الويب تعزز ما يسمى بالرغبة في عرض الذات، التي تعني العملية التي بمقتضاها تخضع أجزاء من ذات الفرد لنظرة الآخرين من أجل المصادقة عليها"26، فإنَّ الفيس بوك استطاع أن يجعل "من الإنسان العادي رجلاً خارقًا".

لقد حاولت هذه المقالة تتبّع الذّات الافتراضيّة والإلماع إلى بعضٍ من تجلّياتها وسمات تفاعلاتها، انطلاقًا من منظور تواصليّ يرى في نحتِ الهُوية بُعدًا وظيفيًّا يروم التأثير والاستمالة، وهو ما جعلنا نتحدّث عن "إيتوس رقمي"، حيث ترسم الذّاتُ الافتراضية صورة ناصعة ومثالية وإيجابية على صفحات الفيس بوك، صورة قائمة على المثُل الفُضلى والقيم الرّاقية والصّفات الإنسانية النّبيلة، فتنسلخ من حقيقتها الوجودية لتتقمّص هذه الكينونية الملائكية، تحقيقًا للرغبة في إبراز الذّات، والإحساس بالرضى والتّقدير، وحصد الإعجاب والاستحسان. وعبر هذا الإجراء تنبثق في ثنايا الفضاء الأزرق سمات الذات الافتراضية وقد أشرنا إلى بعضها كالذّات المثقّفة القارئة والذّات المناضلة والذّات الناقدة والذات الإنسانية التي تؤمن بالقيم الكونية.

 

الهوامش والإحالات

1 - دارن بارني، المجتمع الشبكي، ترجمة: أنور الجمعاوي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط1، 2015م.

2 - يرجع مفهوم المجتمع الافتراضي إلى هاوارد رينجولد الذي وضع الكتاب الرائد في هذا السياق بعنوان "المجتمع الافتراضي" والذي عرفه بأنه "تجمعات اجتماعية تشكلت من أفراد في أماكن متفرقة في أنحاء العالم، يتقاربون ويتواصلون فيما بينهم عبر شاشات الكومبيوتر والبريد الإلكترونين يجمع بين هؤلاء اهتمام مشترك، ويحدث بينهم ما يحدث في عالم الواقع من تفاعلات، ولكن عن بعد من خلال آلية اتصالية هي الأنترنيت، حيث يشكل المجتمع الافتراضي مجال نمو الشبكات الاجتماعية ويشكل الفضاء المعلوماتي الحيز والإطار الذي يتم في سياقاته تجميع خيوط الشبكات الاجتماعية". راجع: صالح العلي، مهارات التواصل الاجتماعي: أسس ومفاهيم وقيم، دار الحامد، عمان، ط1، 2015م، ص: 127.

3 - ريمي ريفيل، الثورة الرقمية ثورة ثقافية، ترجمة: سعيد بلمبخوت، مراجعة: الزواوي بغورة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت، العدد 462، يوليو 2018م، ص: 19.

4 - بهناس سعيد عادل، من الهوية الحقيقية إلى الهوية الافتراضية، مجلة أنسنة للبحوث والدراسات، المجلد 7، العدد 1، يناير 2016م، ص: 278.

5 - حلمي خصر ساري، التواصل الاجتماعي: الأبعاد والمبادئ والمهارات، دار كنوز المعرفة، الأردن، ط1، 2014م، ص: 103.

6 - الثورة الرقمية ثورة ثقافية، ص: 31.

7 - إلزا غودار، أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب-الدار البيضاء، ط1، 2019م، ص: 87.

8 - الفيس بوك موقع "يساعد على تكوين علاقات بين المستخدمين، يمكنهم من تبادل المعلومات والملفات والصور الشخصية ومقاطع الفيديو والتعليقات، كل هذا يتم في عالم افتراضي، يقطع حاجز الزمن والمكان، ويعد موقع الفيس بوك واحدا من أشهر المواقع على الشبكة العالمية، ورائد التواصل الاجتماعي، وأصبح موقع الفيس بوك اليوم منبرا افتراضيا للتعبير، واتخذه الشباب اليوم بديلا للأحزاب السياسية". راجع: صالح العلي، مهارات التواصل الاجتماعي: أسس ومفاهيم وقيم، دار الحامد، عمان، ط1، 2015م، ص: 123.

9 - الثورة الرقمية ثورة ثقافية، ص: 17-18.

10 - نفسه، ص: 63.

11 - نفسه، ص: 63.

12 - نفسه، ص: 69.

13 - أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، ص: 78-79.

14 - نفسه، ص: 79.

15 - نفسه، ص: 103.

16 - نفسه، ص: 107.

17 - نفسه، ص: 103.

18 - الثورة الرقمية ثورة ثقافية، ص: 69.

19 -نفسه، ص: 72.

20 - الثورة الرقمية ثورة ثقافية، ص: 74.

21 - نفسه، ص: 68.

22 - إلزا غودار، أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، ص: 133.

23 - نفسه، ص: 14.

24 - نفسه، ص: 63.

25 - نفسه، ص:44.

26 - الثورة الرقمية ثورة ثقافية، ص: 74.


عدد القراء: 2574

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-