«الحسن بن الهيثم» مؤسس علم البصريات، وعبقري الابتكارات!الباب: مقالات الكتاب
الطيب أديب أديب وكاتب مصري |
قفز علم البصريات والضوء قفزة هائلة على يد العالم العربي المسلم أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم الذي عاش في النصف الأخير من القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجريين. وظل في البصرة جنوب العراق ثم غادرها إلى القاهرة التي قضى فيها بقية حياته. ويعد من أعظم العلماء في البصريات، والرياضيات، والطبيعيات، والطب، ويسميه الغربيون "الهازن"Alhazen"..
وألف الحسن بن الهيثم نحو مائتي كتاب، وفي علم الطبيعة وحده كتب ثلاثة وأربعين كتابا. ويعد كتابه (المناظر) أهم كتبه وأشهرها بل أهم كتاب على مر العصور، تناول علم البصريات والضوء لما احتواه من بحوث مبتكرة ونظريات أفادت العلماء في العصر الحديث وخطت بالعلم خطوات واسعة، وساعدت على التقدم العلمي والتكنولوجي. وأحدث هذا الكتاب انقلابًا علميًا واسعًا بعد أن ترجمه العالم (فريدريش ريزنر) إلى اللاتينية العام 1572م ونشره بسويسرا وسماه (كنز البصريات) لما احتواه من أراء ونظريات جديدة في هذا العلم الذي جعله ابن الهيثم علمًا مستقلاً له أصوله وقوانينه. واعتمد عليه علماء أوربا عدة قرون في استنباط معلوماتهم عن الضوء. وكتاب المناظر عبارة عن مصنف ضخم احتوى نظريات ابن الهيثم في البصريات والضوء، وشرح فيه كيفية رؤية الأشياء وانتشار الضوء في خطوط مستقيمة وانعكاس الضوء وانكساره في الأجسام والهواء والسوائل، وذلك ما ساعد على التوصل إلى نظرية ظهور (قوس قزح) التي حيرت العلماء على مر العصور. كما فسر ابن الهيثم في كتابه ظهور الشفق الشمسي عند الغروب والشروق بأنه نتيجة لانعكاس الضوء في الهواء، وذلك ما أكده العلماء حديثًا. ولأن ابن الهيثم يؤمن بالتفكير العقلاني والمنطقي ليصل إلى الحقيقة الواحدة المتكاملة، استطاع تحويل الآراء الفلسفية إلى منهج هندسي طبقه في علم الطبيعة لأول مرة. كما تضمن كتابه نظرياته وآراءه الحرة الجديدة التي غيرت مسار العلم، تلك التي عارض فيها أراء أكبر فلاسفة الإغريق (أقليدس وبطليموس وأرشميدس) والتي ظلت متداولة زمنًا طويلاً منذ عصر الإغريق حتى زمن ابن الهيثم، والتي كانت تعتقد أن العين تطلق شعاعًا على الجسم فتراه، ولكن ابن الهيثم لم يقبل بهذه الآراء وقال مصححًا بأن الضوء عامل خارجي يحدث الإحساس بالبصر، أي أن الضوء يصدر من الجسم المرئي ويقع على العين، فالصورة تأتي من الجسم المرئي إلى العين فتراه، وبذلك أبطل ابن الهيثم نظرية الإغريق القديمة التي توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل.
تجربة الغرفة المظلمة:
واعترف علماء الغرب بفضل ابن الهيثم على تقدم علم البصريات والضوء وقالوا بأنه سبق العالم (إينشتين) في نظرية النسبية عندما بين أن سرعة الضوء محدودة، وعندما برهن على أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، بعدما أجرى تجربة (الغرفة المظلمة) التي أحدث في أحد جدرانها ثقبًا يدخل منه الضوء ليقع على الجدار المقابل، وذلك ما ساعد العالم (ليونارد دافنشي) في وضع فكرة آلة التصوير. وقال عنه العالم "ماكس مايرهوف" :(إن ابن الهيثم هو مكتشف نظرية التكبير في العدسات وأبحاثه في هذا المجال اعتمد عليها (روجر بيكون وفيتللو ودافنشي وكبلر)، وهم من أكبر علماء عصر النهضة الأوربية. واعترف العالم الشهير (روجر بيكون) بأنه اقتبس من ابن الهيثم واستعان بأبحاثه في دراساته الكبرى عن الضوء والبصريات. ووصف المؤرخ (جورج سارتون) ابن الهيثم بأنه أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الفيزياء في العصور الوسطى، وأنه يعتبر من العلماء القلائل المشهورين في العالم كله. ويرجع الفضل لابن الهيثم في ابتكار العديد من الاختراعات التي أفادت البشرية حتى على مر العصور.
النظارة:
وابن الهيثم أول من قال بأن العدسة المحدبة ترى الأشياء أكبر مما هي عليه. وأول من شرح تركيب العين ووضح أجزاءها بالرسوم وأعطاها أسماء أخذها عنه الغربيون وترجموها إلى لغاتهم، وما زالت مستعملة حتى الآن. ومن ذلك مثلاً الشبكية Retina، والقرنية (Cornea) ، والسائل المائي (Aqueous Humour) . كما أنه ترك بحوثًا في تكبير العدسات مهدت لاستعمال العدسات في إصلاح عيوب العين .ويرجع الفضل لاختراع أول نظارة طبية للحسن بن الهيثم، ويروى أن ابن الهيثم، عندما كبر ضعف بصره، فقام بإجراء تجارب عديدة على الزجاج ليصنع منه نظارة تعينه على القراءة، وتوصل إلى اختراع عدسة محدبة كان تظهر الكلام والأشكال بصورة كبيرة وواضحة، وأخذ ابن الهيثم يطور عدساته واضعًا في اعتباره تفاوت قوة البصر بين عين وأخرى، وساعده على ذلك معرفته بتركيب العين ووظائف أعضائها، وكانت هذه النظارة عبارة عن قرص كبير من الزجاج المحدب يكبر الخط لكل عين، فهي تثبت أمام العين أثناء القراءة، وبذلك عد ابن الهيثم هو أول من صنع النظارة الطبية. وشهد القرن الثامن عشر تطورًا كبيرًا على صعيد صناعة النظارات، إذ أصبحت تثبت على الأذن بواسطة ساعدين قصيرين ينتهيان بحلقتين من المخمل تضغطان على الصدغين. وكان الحدث الأبرز ظهور وصفة نظارات طبية في كتاب العالم "تومين". وفي عصر النهضة الصناعية الأوروبية كان للنظارات نصيب مهم في التطوّر والصناعة، إذ أصبحت تصنع بشكل أدق من الفضة والفولاذ والذهب.
القـُمرة المظلة (الكميرا)
القـُمرة المظلة وتعني آلة التصوير(الكميرا)، والكلمة مشتقة من العبارة اللاتينية camera obscura) ) والتي تعني "الغرفة المظلمة"، واشتقت من الكلمة العربية "القـُمرة" في أول وصف لها عن ابن الهيثم وتعني الغرفة المظلمة بشباك صغير.
وكما عرفنا بأنه في العصور الماضية اعتقد علماء الإغريق مثل "إقليدس" و"بطليموس" بأن العين تبعث أشعة ضوئية تمكننا من الرؤية، ولكن العالم الحسن بن الهيثم (مؤسس علم البصريات) أثبت بالتجربة- في القرن العاشر الميلادي- أن الأشعة الضوئية لا تنبعث من العين، بل تدخل إليها.
وحينما كان عالم البصريات الحسن ابن الهيثم يعيش في مدينة البصرة، سمع عن بيت قديم مهجور من بيوت المدينة يزعمون بأنه "بيت الأشباح"، فالداخل لهذا البيت يرى صور أشخاص يسيرون على الحائط، وقد ظهرت الصور مصغرة ومقلوبة.
وعندما زار ابن الهيثم هذا البيت، راح يجري التجارب على هذه الظاهرة، فتبين له أن هناك ثقب صغير جدًا في الحائط الفاصل بين البيت والشارع، فإذا مر إنسان في الطريق على مسافة معينة من ذلك الحائط تظهر له صورة مصغرة مقلوبة على الحائط الآخر، ولكي يؤكد ابن الهيثم نظريته العلمية، شيد في بيته حجرة مماثلة وأخذ يجري التجارب على حجم الثقب والمسافة بين الثقب والجدار المقابل الذي تسقط عليه الصورة حتى حصل على صورة أوضح من تلك التي رآها في (منزل الأشباح). ومرت السنوات وانتقل ابن الهيثم إلى القاهرة، وتبلورت تجاربه العلمية فأراد أن يطور فكرة غرفة الأشباح إلى صندوق صغير يستطيع أن ينقله أينما ذهب فجاء بخزانة -أي صندوق صغير- مطلي من الداخل باللون الأسود، وجعل في أحد جوانبه ثقبًا صغيرًا، وفي الجانب المواجه للثقب وضع لوحًا من الزجاج المصنفر، وعندما وضع هذه الخزانة في رواق الأزهر أمام تلاميذه ظهرت لهم على الزجاج صورة صغيرة مقلوبة كانت مثار دهشة الحاضرين. وقد طور ابن الهيثم اختراعه بعد ذلك، وسبق أن عرفنا أنه أول من اخترع العدسة المحدبة واستعملها في النظارة، واستخدم هذه العدسة في الخزانة أيضًا ووضعها خلف الثقب مباشرة، وهو بذلك يكون قد استكمل اختراع أول كاميرا في تاريخ الإنسانية، سميت (الخزانة المظلمة ذات الثقب). وأحدث هذا الاختراع دويًّا هائلاً في هذا العصر، واستفاد منه ملايين البشر في شتى أرجاء العالم، وظل المخترعون يدخلون على الكميرا تعديلات حتى تطورت صناعة الكميرات التي تلتقط الصور أو تصور مقاطع الفيديو، وتوسعت استخداماتها في معامل البحث العلمي والفضائي والإعلامي والطبي ومواقع التواصل الاجتماعي، وكل جوانب الحياة في زماننا.
ورغم مرور أكثر من ألف عام على مولد العالم العبقري الحسن بن الهيثم لا زال اسمه يتردد في كل المحافل العلمية الدولية والإقليمية، التي خلدت ذكراه لجهوده العظيمة في البحث العلمي وعالم الابتكار بإطلاق اسمه على المعاهد العلمية والمستشفيات والمراكز البحثية والشوارع الكبرى.
وسُميت باسمه إحدى الكويكبات حديثة الاكتشاف، كما أطلق اسمه على إحدى الفجوات البركانية الموجودة على سطح القمر. ومنذ سنوات وفي العام 2015م اختارت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" الحسن ابن الهيثم ليكون شخصية (السنة العالمية للضوء) تقديرًا وتخليدًا لذكرى مرور ألف سنة على إنجازه الأهم في علم الرؤية والبصريّات.
تغريد
اكتب تعليقك