كتاب «ما يفطر أقسى القلوب» صور تروج همجية المستعمر
فكر – المحرر الثقافي:
ما يميّز دار Inculte عن سائر دور النشر الباريسية هو البعد الجماعي لعمل فريق التحرير فيها، سواء من خلال مجلتها المهمة التي تحمل الاسم نفسه أو من خلال الكتب التي تصدرها وتحمل غالباً أكثر من توقيع. وضمن هذا التوجه يندرج كتاب «ما يفطر أقسى القلوب» الذي أصدرته هذه الدار حديثاً ويحمل توقيع الكاتبين الفرنسيين جيروم فيرّاري وأوليفر روه. بحثٌ لا نعرف داخله ما هي مساهمة كل منهما فيه، ويشكّل تأملاً عميقاً وسياسياً بامتياز في السؤال التالي: كيف يمكن تمثيل الحرب والعنف الناتج منها؟
للإجابة عن هذا السؤال، اختار الكاتبان كنقطة انطلاق، الصور التي التقطها الكاتب والصحافي الفرنسي غاستون شيرو خلال الصراع بين إيطاليا والسلطنة العثمانية على الأراضي الليبية عامي 1911 و1912. صورٌ تتميز أحياناً بطابع إكزوتيكي (مناظر واحات، بورتريهات أطفال أو نساء محجّبات...)، ولكن تطغى على معظمها مشاهد مرعبة لعمليات تنكيل وشنق نفّذتها سلطة الاستعمار الإيطالي في شكل منهجي في حقّ الليبين الذين قاوموا جيشها.
تجدر الإشارة هنا إلى أن هدف هذه السلطة من سماحها لصحافيين غربيين بتغطية أحداث حملتها على ليبيا كان إظهار الليبيين كبرابرة دمويين تحرّكهم نزعة إلى العنف متأصّلة فيهم. وفي هذا السياق، أضفى غاستون شيرو بريبورتاجه الفوتوغرافي شرعية على المشروع الكولونيالي بمشاركته في تعزيز الصورة الكاذبة التي سعى الجيش الإيطالي إلى فرضها على الرأي العام الأوروبي، صورة دولة تملك حقاً مطلقاً في «مطاردة مجرمين وقتلة على أرض تعود إليها منذ الأزل». ومع ذلك، لن تلبث صوره أن تقول عكس ذلك، كاشفةً «المعاملة التي هيّأتها هذه الدولة لأولئك الأشخاص»، أي القمع الشرس ووحشية الإعدامات في الأماكن العامة، وبالتالي الطريقة التي «قُتل هؤلاء الأشخاص فيها مرّتين على يد التاريخ، باستشهادهم في سبيل قضيتهم العادلة وأيضاً بنسيان العالم تضحياتهم».
فيرّاري وروه ليسا مؤرّخين، وهدفهما إذاً ليس كشف وتحليل الظرف التاريخي لهذا الفصل الدموي (تُركت هذه المهمة للمؤرّخ بيار شيل في آخر الكتاب). كما أنهما رفضا استخلاص أي مادة أدبية من صور شيرو، لأن ذلك يقود إلى «تجميل العنف بطريقة غير لائقة». بالعكس، ما سعى الكاتبان إليه هو مساءلة موقع الصورة - أو غيابها - في سرديات الحرب التي ازدهرت خلال القرن العشرين. فعلى رغم تطوّر وسائل وإمكانات التصوير في شكل كبير منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية، إلا أن الخطابات المسيّرة في صور الحروب لم تتطوّر في شكلها. ويقود هذا الاستنتاج إلى مأزق: فحين نعيد نشر هذه الصور (وهو ما يقوم به فيرّاري وروه في كتابهما الذي يسمح بمشاهدة مجموعة كبيرة من صور شيرو)، ألا ندخل في لعبة الترويج لها ولخطابها؟ وفي حال اخترنا عدم كشفها، ألا نجازف في الانغلاق داخل بلاغة السياسة والأيديولوجيا واستعاراتهما؟
استحالة عدم أخذ واقع هذه الصور في الاعتبار يدفع الكاتبان إلى دعوتنا إلى عدم الاستسلام للسحر الذي تمارسه علينا، وبالتالي إلى «التأسيس لعلاقة جديدة مع الصورة، عبر التدليل إلى وجود خارجِ يتجاوزها، وشق طريق نحو التأمّل (في محدوديتها وخارجها) واللجوء إليه». وفي هذا السياق، وحدها الكتابة قادرة على تحريرنا من الرعب الذي يغوص فيه نظرنا، من أجل أخذ مسافة منه والتدرّب من جديد على الرؤية. ولذلك، علينا تفكيك أرضيتين، نوعين من الاستعمار: أرضية الحرب التي يهدف مسبّبيها منها إلى احتلال بلدٍ ما، وأرضية الخطاب الذي يدعم هذا الغزو. علينا أيضاً، لمواجهة سردية الغازي المجهّزة سلفاً، نبش ما لا يقوله نص هذه السردية، الأشياء غير المرئية التي يكشفها بسعيه عبثاً إلى طمسها، وتلك الناتجة من مواجهتنا إياه بمصادر أخرى.
هذا ما يقوم به فيرّاري وروه في كتابهما، وبقيامهما بذلك، ينجحان في إظهار أن الصور المروّجة لـ «عدالة» المستعمِر تحاكمه بالعنف نفسه الذي تنفّذ «عدالته» به أحكامها في حق «المجرمين»، كاشفةً خفايا مشروعه وقمعه وأسلحته والقوانين المشبوهة لسلطته، سواء تعلّق الأمر بإيطاليا في ليبيا خلال عامي 1911 و1912، أو بفرنسا في الجزائر بعد ذلك، أو بأميركا في أفغانستان والعراق مؤخّراً. ففي كل هذه الحروب التي يتوقف الكاتبان عندها، ثمة ثابتة واحدة: إلغاء كلمة الشعوب المستعمَرة وفرض صور وخطاب يبرران استعمارها أو «تحضيرها» (من حضارة).
باختصار، يبيّن الكاتبان صحة ما قاله كلود ليفي شتراوس عن الغرب: «في كل مكان نذهب إليه، منذ زمن طويل، لا نقع إلا على قُمامتنا». فصور غاستون شيرو تكشف هذه القُمامة رغماً عنه، قائلةً أكثر مما أرادها أن تقول، عبر منحها جسداً ووجهاً لأولئك الذين رفض المستعمِر حقّهم في الكلام وأنكر شرعية نضالهم وحتى وجودهم بأي حلّة أخرى غير حلّة «العدو» غير المجسَّد الذي يفتقد لأقل حسّ إنساني. ففيها يتجلى بوضوح مسرح القسوة للعدالة الإيطالية، وبالتالي كم أن حرب إيطاليا في ليبيا لم تكن بطولية كما أراد شيرو الترويج لها، بل قذرة وعنيفة إلى أبعد حد.
من بين التعليقات التي نقرأها في الكتاب على الصور التي يظهر فيها المحكومون بالإعدام قبل تنفيذ الحكم، أشخاص لا يمكن أن ننظر إليهم إلا من المسافة القصيرة التي تفصلهم عن موتهم المحتم، ثمة تعليق يقول فيرّاري وروه فيه: «انقلاب الزمن هذا، الذي تتحوّل النهاية بواسطته إلى بداية يتعذّر تجاوزها وتمنح كل شيء معناه، يسمّيه الفيلسوف الفرنسي كليمان روسّيه «المأساوي». ولا شك في أن هذه الكلمة هي الأفضل لوصف كتابهما الذي يشبك الخطابات ويقلب المناظير من أجل كشف انحرافها وتعرية قذارتها. من هنا أهميته القصوى وراهنيته.
المصدر: الحياة
تغريد
اكتب تعليقك