مِلْ: ما له في السياسة والفلسفة والدين... وما عليه
فكر – المحرر الثقافي:
الكتاب: مِلْ
الكاتب: فريدريك روزن
المترجم: عاطف يوسف سليمان
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
عدد الصفحات: 447 صفحة، القطع المتوسط
يبحث روزن في علاقة جون ستيوارت مِلْ المعقدة بمفكّرين آخرين عاصروه، ومنهم جيريمي بينثام وجايمس مِلْ وأوغست كونت وجورج غروت وهارييت تايلور مِلْ، وبمصادره الفلسفية، ومنهم سقراط وأفلاطون وأرسطو وهوبز ولوك وهيوم. كما يرسم معالم تأثير مِلْ في من خلفه من الفلاسفة والمفكرين المنطقيين والاقتصاديين، ويركز على مقارباته في دراسته الشخصية الناشطة عن المنطق، وفي بحوثه في الاقتصاد السياسي، إذ أسست هذه الكتابات والبحوث تأويلات جديدة لأفكاره عن الحرية والعدالة والمساواة والمنفعة. ويبقى الكثير من النقاشات التي خاضها مِلْ جزءًا من الحياة المعاصرة، كما أنتجت أفكاره وحججه وتأويلاته للنفعية والليبرالية فلسفة إنسانية حضارية هي السائدة في أيامنا.
المنطق والسياسة
يقع هذا الكتاب في ثلاثة عشر فصلًا، موزعة على ثلاثة أقسام، عنوان القسم الأول نسق المنطق. في أول هذه الفصول مقدمة، وتعريف ببنية الكتاب وبخطوطه العريضة وسياقاته الفكرية، وبمكانة مِلْ وأفكاره في زمننا.
يشرح الفصل الثاني، اللحظة السقراطية: الحقيقة والحرية والديمقراطية، هو أول ثلاثة فصول في القسم الأول، نسق المنطق، معتقد مِلْ في أهمية المنطق في استكناه الحقيقة، في العلم والعلوم الاجتماعية والأخلاقيات والسياسة والاقتصاديات، وإدراج مِلْ الأعراف الأرسطية في القياس المنطقي ودراسة المغالطات الباطلة، والمنطق الاستقرائي الحديث، وانتهاجه المدخل الجدلي السلبي مقتربًا من حوارات أفلاطون السقراطية. وفي هذا الفصل، يقول روزن إنّ مِلْ لم يؤمن بأنّ حرية التعبير تؤدي وحدها إلى الحقيقة، وإنّ الحرية لا تعين على تجلية الحقيقة، "وإنما اتباع الحقيقة من خلال المنطق هو الذي يساعد في تجلية الحرية، وإن كانت حرية التعبير تؤدي دورًا له أهميته في إبقاء الحقيقة في قيد الحياة بالسماح للمرء بالسعي وراء الحقيقة، ومن ثم نقلها إلى الآخرين".
في الفصل الثالث، منهج الإصلاح: مل يجابه بنثام وكولريدج، يتناول روزن مفهوم مِلْ لمنطق علم الاجتماع والسياسة. على أنّ نقطة البداية فيه ليست المنطق نفسه، وإنما ما يسميه المؤلف "أسلوب مِلْ في الإصلاح". فمِلْ استخدم التعارض بين الليبراليين والمحافظين كي يبين كيف تتعايش مواقف تبدو ألّا سبيل إلى توافقها، وكيف يتحقق إذًا الإصلاح السياسي. يعرض روزن هنا أفكار مِلْ في التطرفية الفلسفية وانتقاده بنثام وآراءه المنهجية في العلوم الاجتماعية، ومنهج الإصلاح بحسب كتاب التأملات لمِلْ.
في الفصل الرابع، علم النفس والشخصية والشخصية القومية وعلم السياسة، مراجعة مِلْ النقدية للمفهوم التقليدي لعلم السياسة، وبحثه عن الأسس الأكثر عمقًا لدراسة السياسة في علم الإثولوجيا. ويعرض روزن هنا أهمية هذا العلم وعلاقته بفن السياسة، والفروق المحورية بين بنثام ومِلْ في رؤيتهما للصلة بين الفن والعلم بصفة عامة، ومفهوم مِلْ للإثولوجيا السياسية بوصفها فرعًا في علم الاجتماع الذي "إذا اكتمل، فإنه جدير بأن يحل محل الدراسة العامة لأشكال الدساتير وينقحها، مع استكشاف أكثر دقة علمية للمجتمعات السياسية". ويتساءل روزن عن صحة نسبة تعبير الشخصية العامة الفاضلة إلى مِلْ، إذ "يتعارض هذا المصطلح مع مفهوم مِلْ نفسه ويحجب دوره بصفته أساسًا رجل منطق، ورجلًا يفكر في نفسه بوصفه صائغًا لنظرية علمية".
بين مِلْ وكونت
الفصل الخامس، حوار حول الفلسفة، أول فصل في القسم الثاني وعنوانه الافتتان بكونت، ويتناول فيه روزن دور أوغست كونت في تطور فلسفة مِلْ، وملابسات تحول مِلْ عن اللاهوت إلى الاقتصاد السياسي، كما يدرس المراسلات المتبادلة بينه وبين كونت بوصفها عملًا أدبيًا متميزًا، ونصًا فريدًا بفضل التأثير المتبادل غير المعتاد بين الفيلسوفين. يقول روزن إنّ هذه المراسلات تكشف "عن خجل مِلْ من عمله ورغبته في اعتبار كتاب ’المنطق‘ عملًا موقتًا، يلائم الشخصية الإنكليزية وقتها، وتفرعًا من أعمال كونت التي عرفت علم فلسفة المدركات الحسية الوضعية".
يلفت المؤلّف في الفصل السادس، مِلْ في طور النضوج، انتباهنا إلى مقالة مِلْ "أوغست كونت والفلسفة الوضعية" التي يبدو مِلْ فيها فيلسوفًا ناضجًا، "حيث يزودنا برؤية نقدية شاملة لجوانب فكر كونت من دون إشارة إلى المراسلات بينهما". ويتطرق روزن في هذا الفصل أيضًا إلى الدور المتغير لكتاب المنطق، وإلى تقويم مِلْ لفلسفة كونت، حيث تناول كونت قضايا الاقتصاد السياسي، والمرأة، والركود الاجتماعي وديناميات المجتمع، ولم يتردد مِلْ في استخدام المنطق ليدعم صحة بعض أفكار كونت، فضلًا عن أن مِلْ لم يمانع في نبذ نقد كونت اللاذع للاقتصاد السياسي، "وحقًا نفض مِلْ يده من رؤية كونت للاقتصاد السياسي بوصفه أمرًا غير علمي، وغير إيجابي، وأنه مجرد فرع من الميتافيزيقا". وخلافًا لكونت، التصق مِلْ بعناصر السياسة الميتافيزيقية المرتبطة بالتنوير الذي يضم وجهات النظر الثورية، والراديكالية والليبرالية والتفكير الحر والتشكك والانتقادية، كما آمن بأن كونت قد طرح جانبًا معتقداته المرتبطة بالحرية، لكنه أخفق في تشييد علوم وضعية عن الأخلاقيات والسياسة لتحل محل ما نبذه.
حرية... اشتراكية
القسم الثالث، مبادئ الاقتصاد السياسي مؤلف من ستة فصول. يناقش روزن في الفصل السابع، دائرة الحرية، الصلة بين مناقشة الحرية في كتاب "المبادئ"، وتلك التي تلت في مقالة "عن الحرية". فيبدأ في تفريق مِلْ بين الحريتين المدنية والاجتماعية. فـ "الحرية المدنية ارتبطت غالبًا بأعراف لوك وبنثام، في حين اقتُبست كلمة الاجتماعية في تعبير الحرية الاجتماعية بصورة جزئية من كونت". يسأل روزن: كيف وفق مِلْ بين نوعي الحرية، المدنية والاجتماعية، حينما تتجابهان؟ "فمن جهة، قد يمارس الفرد حريته من طريق الموافقة على استعباد الآخرين بغرض الحفاظ على الحياة وبعض جوانب الحرية. ومن جهة أخرى قد يُنظر إلى هذا السلوك بوصفه انتهاكًا للحرية من شأنه أن يدمر مبدأ غرس المبادئ الحميدة عن الفردية، والتحسن المرتقب في الشخصية الفاعلة، واستغلال الفرصة المتاحة والمتمثلة في مجتمع تقدمي حديث. والحرية المبنية على أساس قانون الملكية والتعاقد يبدو مختلفًا عن المتضمن في مجتمع مؤسس على اتساع دائرة الحرية. ومن منظور دائرة الحرية، تبدو المفاهيم التقليدية للحرية المدنية مرغوبة بحق".
يتطرق روزن في الفصل الثامن، الرحلة إلى الاشتراكية: من الحرية والديمقراطية التمثيلية إلى التعاونية، إلى رحلة مِلْ الفكرية إلى الاشتراكية، "فإذا كانت الحرية المدنية تفضي إلى الديمقراطية النموذجية، حيث يأمن الناس على حيواتهم وممتلكاتهم باختيارهم ورفضهم حكامهم، فإن الحرية الاجتماعية تؤدي إلى صورة غير مألوفة من الاشتراكية"، متناولًا ما ورثه مِلْ عن ألكسيس دو توكفيل، كإبرازه أخطار الديمقراطية وأخطار طغيان الأغلبية. وبحسب روزن، أراد مِلْ أن يقدم مسوغًا للتعاونية، فعاد إلى مفهومه عن الشخصية الفاعلة، ساعيًا إلى الارتقاء بشخصية وظروف معيشة الطبقة العاملة كلها، من خلال تطوير التعاونيات.
أمّا في الفصل التاسع، من التعاونية إلى الاشتراكية، فثمة تحليل لأواخر مراحل رحلة مِلْ إلى الاشتراكية، بالتركيز على فصلي "الحالة السكونية" و"مستقبل الطبقات العاملة" في كتاب "المبادئ". فالحالة السكونية مثّلت عنده "نقطة انطلاق إلى تحسن جوهري في الظروف الراهنة. وبترك البلدان الأقل تقدمًا لتركز على زيادة الإنتاج، رأى أن تتحرك الدول الأكثر تقدمًا مبتعدة عن هذا الهدف". وهو أمل في ازدهار أحوال الطبقة العاملة، "فلا أحد يسَعُه أن يكتنز ثروة تتخطى ما يمكن لإنسان أن يكسبه طوال حياته"، بحسب مِلْ.
في الفصل العاشر، العدالة والملكية الخاصة في عملَيه "المبادئ" و"فصول عن الاشتراكية"، يتناول روزن كتاب مِلْ فصول عن الاشتراكية، فيقول إنّ الباعث على إصداره تمرير منشور الإصلاح لعام 1867 الذي منح السلطة في بريطانيا أول مرة "لمن يحيون على أجور أسبوعية، وليس لديهم حافز كاف لمساندة عدم المساواة الحالَّة في الملكية". يقول روزن إنّ مِلْ انطلق من إقراره بعشوائية القوانين الموجودة حينئذٍ وإجراءات حيازة الممتلكات وإدارتها، وبأنها لا تمتّ بصلة إلى مبادئ العدالة والمنفعة، والبديل عنها نظام شيوعي قائم على عدالة توزيع الملكية.
دين الإنسانية
في الفصل الحادي عشر، عدالة التوزيع ومذهب المنفعة العامة، يقول المؤلف إنّ شعور الأفراد بالأمان على حيواتهم وعلى ممتلكاتهم وتطلعاتهم كمبدأ للعدالة، يقود مِلْ إلى مناقشة الحقوق. ويثير الكلام عن عدالة التوزيع في مبدأ المنفعة تساؤلات تتناول العلاقة بين العدالة والمساواة، وتطبيق مبادئ العدالة على أرض الواقع في ضوء علم النفس والهوية القومية، ودور الحرية في مثل هذا التطبيق. ويسأل روزن: هل كان مِلْ اشتراكيًّا؟ ويحيب قائلًا إنّ مِلْ "كان ذا شخصية عامة خلقية يُتوقع أن تتخذ موقفًا وتعطي إجابة حاسمة عن هذه القضية. كان مِلْ فيلسوفًا ورجل منطق، عمل في إطار العلوم وعلم النفس والأخلاقيات، وحلل جوانبَ هذه المسائل، وأعطى إجابات، وإن كانت غير مطلقة عن مسائل مثل تلك التي تمس إيمانه بالاشتراكية. وإذا كان قد استطاع الإجابة عن السؤال بدرجة ما، فلأنه تفهم علم النفس والهوية القومية".
في الفصل الثاني عشر، الإله وديانة الإنسانية، يقول روزن إنّ مِلْ كتب في رسالة إلى كونت أنه لم يؤمن مطلقًا بالإله، إلا أنه لم يعارض بعض صيغ الدين، حتى أنه أدخل فكرة "دين الإنسانية". وهو يتحفظ في مناقشة مسائل الدين في أعماله المنشورة، ويتجنب الإشارة إلى الدين. ويتناول المؤلف مناقشة مِلْ في "أوغست كونت والفلسفة الوضعية" مسألتي الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية، وديانة الإنسانية، ونبذه المعتقدات الطوباوية التي تتضمن حكم الفلاسفة أو طبقة صفوة المتعلمين، وانتقاده كونت "لوصفه حكمًا استبداديًّا روحيًّا بمنحه سلطة غير محسوبة في عالم التعليم لحفنة من الفلاسفة، ولخلقه طغيانًا زمنيًّا بإخفاقه في بناء مؤسسات تحاسب السلطة الزمنية".
أخيرًا، في الفصل الثالث عشر، الخلاصة: الحرية والطغيان في كتاب "إخضاع النساء"، يقدم روزن خاتمة لكتابه، يبين فيها معالجة مِلْ قضية الاستبداد والحرية، واعتقاده أنّ استعباد النساء في المجتمعات الحرة الحديثة يتبع النمط القديم نفسه، وتأكيده أهمية مناقشة وضع المرأة في هذه المجتمعات الحرة بالمعايير الصارمة للعبودية والظلم والاستبداد، بدلًا من اللغة العاطفية والتقوى المتكلفة التي يتسم بها العصر الفيكتوري، وتبيانه تأثر الشخصية الأنثوية بذلك. يكتب: "إذا كان إنهاء الاستعباد المقنن من خلال إصلاح تشريعات الزواج وما يرتبط بها من لوائح الملكية يشكل الخطوة الأولى نحو الليبرالية، فإنها خطوة أولى فحسب، حيث ينبغي تحرير المرأة من القيود التي تكبل شخصيتها من أجل القضاء على الاستبداد في نطاق الأسرة وفي الحياة الاجتماعية".
فريدريك روزن: أحد أبرز المتخصصين بالفلسفة النفعية، أستاذ فخري لمادة تاريخ الفكر السياسي وباحث فخري أول، زميل في مشروع بنثام في جامعة لندن، من مؤلفاته: الأفكار الفلسفية في السياسة، وجيريمي بينثام والديمقراطية التمثيلية.
عاطف يوسف سليمان: باحث ومترجم حائز الدكتوراه في الصناعات الهندسية من جامعة القاهرة. له بحوث علمية بالعربية والإنكليزية والروسية، وترجمات عدة منها: منظور جديد لكونيات الفيزياء الفلكية، ومصادر الطاقة غير التقليدية.
تغريد
اكتب تعليقك