«الكوشي التائه».. محاولة جديدة لتزمين أصول مملكة «الفونج» السودانية

نشر بتاريخ: 2017-07-08

فكر – المحرر الثقافي:

 

الكتاب: "الكوشي التائه، أغلوطة تأويلية في أصول الفونج"

المؤلف: ميرغني أبشر

الناشر: دار المصورات السودانية

عدد الصفحات: 112 صفحة

 

في بلد أُهملت كثير من وقائعه التاريخية، تبقى مملكة "الفونج" الإسلامية، التي قامت على التراب السوداني، ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، نقطة بداية لتأريخ أكثر دقة، حول رقعة كانت دائما محل هجرات.

ومن الإسهامات التي تؤرخ لهذه المملكة، التي تُسمى أيضًا "السلطنة الزرقاء"، صدر، حديثًا، كتاب "الكوشي التائه، أغلوطة تأويلية في أصول الفونج".

وتزامن الكتاب مع بدء احتفالات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسسكو) بمدينة سنار، معقل "الفونج"، الواقعة جنوب شرقي السودان، كعاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2017.

والكتاب موزع على ثلاث فصول يبحث في أصول إثنية الفونج، وإن كانت جذورهم تعود إلى الممالك النوبية الوثنية، التي اعتنقت، لاحقًا، المسيحية.

وتأسست هذه المملكة في 1504، كتحالف بين الفونج، الإثنية غير العربية، وقبائل "العبدلاب" العربية، لتبسط سلطتها على غالب الحدود السودانية الحالية، قبل أن تنتهي على يد الدولة العثمانية في 1821.

ويستعرض مؤلف الكتاب، الذي يغطي الفترة ما بين 1504 – 1762، "منشأ مسمى الفونج، وجذور التكريس، وطقوس التنصيب لملوكهم، وعوائد قصورهم ورعاياهم".

ويعتقد أن هذا المنشأ يقود إلى "تأسيسات مُوغلة في القدم، نرحل من خلالها إلى المدنيَّات السابقة لظهور الدولة السنارية بقرون سحيقة (ص 17)".

وفيما تعتبر "الفونج" أول دولة عربية إسلامية قامت على التراب السوداني، بعد وصول العرب والتصاهر مع السكان الأصليين، يربط مؤرخون بين نشأتها وانهيار الأندلس في 1492.

ويرتكز المؤلف في كتابه على القراءة التفسيرية والتأويلية للتاريخ، حيث يطرح على القارئ تساؤله "هل كان (التأسيس) وليد مكون محلي محض؟ أم جاء نتيجة لتلاحمات ثقافية مهاجرة أم منوعة ومتعددة مع المكون الثقافي المحلي؟".

ويستدرك أبشر بعلامة استفهام أخرى، "أم نتج عن إرادة واعية لمنتصر "غريب"، أنشأ نسقه الفكري وعمائره الحضرية على أنقاض مغلوبيه؟".

والتساؤلات المطروحة في الكتاب، تهدف لمعرفة العوامل الرئيسة التي أدت إلى هذا التصاهر الإثني، واستمراره بذات القوة، لأكثر من ثلاث قرون، هي عمر المملكة.

ويستدل أبشر بحقب وحضارات مختلفة، منها مملكة سوبا المسيحية النوبية، التي تأسست في القرن السادس الميلادي، قبل انهيارها على يد الفونج.

ويشير الكاتب إلى حالة من "عدم اليقين" في الدراسات التي تناولت أصل الفونج وأرض نشأتهم، بل ويمضي إلى أبعد من ذلك، بتعميمه لهذه الحالة على تاريخ السودان الحديث.

ويرى المؤرخ السوداني أن ثمة "أغلوطة" في الأثر، إذ أن "صعود الفونج في المشهد التاريخي، في العصر الوسيط، لم يكن نتاج أيدولجية الإسلام أبدًا، كما دلَّلت محاضر التَتْريخ والوثائقيات المتروكة من تلك الفترة (ص 31 – 32)".

ويستشهد بأن "أول مسجد جامع اختطَّ للناس في سنار كان عام 1645م، وهو المسجد الذي اختطه السلطان الثاني عشر في ترتيب ملوك السلطنة الزرقاء، أي بعد مائة وإحدى وأربعين سنة من تاريخ قيام دولة الفونج".

ورأى أن ذلك "يعني أن الوعي به (المسجد) كمؤسسة تُشكِّل مظهرًا ثقافيًا من مظاهر مدنية السلطنة، وإسلاميتها عند شاغلي البلاط السناري، جاء متأخرًا جدًا (ص 31- 32)".

ويخلص أبشر إلى أن "المجتمع المسلم آنئذٍ لم يكن في غالبيته عربًا مهاجرة، بل الغالبية العظمى هم عرب مستعربة من قبائل الكوشيين (النوبيين) غير العربية من نبت السودان، لم تتعرف على الإسلام في بيئته الأصلية قط".

ومن شواهد ما ذهب إليه الكتاب "إننا نقف على ضرب من السحر والوثنية الكوشية ( في إشارة إلى الممالك الكوشية التي نشأت ما بين 2400 ق م- 300م) العميقة الجذور، يخالطها إسلام صوري لا يتعدى المفاهيم العريضة".

فالمراكز القديمة للديانة الوثنية السحرية، يقول الكاتب، "حافظت على ميزاتها الاجتماعية والاقتصادية، بدخولها إسلامًا صوريًا، وذلك للزحف المتواصل للإسلام المصحوب بقوة عسكرية، مؤخرًا قادمة من مصر (ص 37)".

ويتطرق الكتاب، في فصله الثاني، إلى ظهور "العنج"، حيث تشير إليهم مصادر، كمجموعة بشرية استوطنت السودان الوسيط، في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، قبل ظهور دولة الفونج.

وبالمقابل، يرى أن الوثائقيات التي ورد فيها مسمى "عنج" أقدم من ذلك بكثير، مستخدمًا مقاربات لغوية ودينية وإثنوجرافية، يخلص منها إلى نسبة العنج للأسرة الخامسة والعشرين، وجهيرها الملك النوبي، بعانخي، الذي حكم مصر من السودان.

وفي الفصل الثالث، يناقش الكتاب مُجمل الأطروحات التي افترضها المؤرخون لأصول الفونج، إذا يستبعدها كلها، ليرد هذه الإثنية إلى أصول قبائل سودانية مختلفة من شمال البلاد وغربها، بجانب قبائل من وسط أفريقيا، وجنوب السودان حاليًا.

وحول هذا الشأن، أفاد أبشر بأن "التمييز بين مسمى فونج وعنج ظهر في فترة متأخرة، لعب فيه انتساب الفونج المتأخر للإسلام، وإلى البيت الأموي على وجه الخصوص، القدح المعلى".

وبسبب هذه النزعة الإسلامية، "صمتت المصادر عن الأصل الوثني الكوشي للفونج، وتغيّب أي انتماء مسبق للفونج إلى دولة علوة المسيحية (النوبية)، حتى يتعزز الانتماء الأصيل الأوّلي إلى الإسلام والعروبة (ص 79)".

ويرى المؤرخ السوداني أن "الفونج هم أحد البيوت الحاكمة الوثنية، من قسم الكوشيين العنج، الذين خرجوا من سوبا (عاصمة علوة) إثر انشقاقات وانقسامات، لعب فيها ظهور الدين المسيحي، وسيطرة النوبة المُهاجرة، المدعومة من بلاد الأحباش، على وجه التحديد، دورًا مميزًا".

ورجح أن "الوثنية هُزمت على أيدي المسيحية المهاجرة، المدعومة من بلاد الأحباش، وخرجت من سوبا للتوطن في إقليم فازغلي (صار لاحقا من معاقل الفونج، في الجنوب الشرقي)".

ويشكك المؤلف في "الادعاء بإسلامية السلطنة الزرقاء، قبيل سيادة الهمج (أحد أفرعها) على مقاليد الأمر في سنار، على الأقل، وعن مسميات فونج ونوبة وعنج، ما يضعنا إزاء تعريفات جديدة لهذه المسميات".

ومن شأن هذه التعريفات، كما يخلص الكتاب، التأسيس لـ"تراتبية وتَزْمين جديدين لوقائع وأحداث تاريخ تلك الحقبة من تاريخنا الوسيط (ص 101)".

ويعد "الكوشي التائه"، ثالث كتاب لميرغني أبشر، الحائز على منصب سفير السلام من قبل فيدرالية السلام العالمية في نيويورك (غير حكومية)، بعد سفريه، "السرانية"، و"موتُ وَثَن".

ومن أعماله أيضًا، مسرحيتي "عذراء الدم الملكي"، و"الأكذوبة".


عدد القراء: 3921

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-