يجب القول إن الزمن تغير… وقائع محمومة لطفرة تثير القلق
المحرر الثقافي:
الكتاب: "يجب القول إن الزمن تغير… وقائع محمومة لطفرة تثير القلق"
المؤلف: دانييل كوهين
الناشر: ألبان ميشال
تاريخ النشر: 29 أكتوبر 2018
اللغة: الفرنسية
عدد الصفحات: 230 صفحة
يدقّ الاقتصادي دانييل كوهين ناقوس الخطر في كتابه الجديد، ويقول إن مستقبل المجتمع البشري غير آمن، خصوصًا مع تقدم الآلة لتحتل مكانةً رفيعة في دورات الإنتاج الرأسمالية.
نادرًا ما يعبّر الاقتصاديون عن مشاعرهم ، لكن هذا ما فعله دانييل كوهين بالتحديد، وهو ما نلمسه في عنوان كتابه الجديد "يجب القول إن الزمن تغير… وقائع محمومة لطفرة تثير القلق"، ويلخص فيه هدفه بجملة واحدة: “حدثت تغيرات غريبة جعلتنا ننتقل من عالم إلى آخر يختلف تمامًا عن العالم الذي أنجبه”.
عصر رقمي
التغير الهائل الذي يشغل الجزء الأساسي من الكتاب أو الانتقال من عالم إلى آخر، كما يشرحها الكاتب، تتمثل في دخول مجتمعاتنا عصرًا ثالثًا بعد عصري الثورتين الزراعية والصناعية، وهو "العصر الرقمي" مع بطله الرئيس "هومو ديجيتاليس" أو "الإنسان الرقمي".
كوهين ليس أول من يطرح فكرة "هومو ديجيتاليس"، لكنه أول من يتناول الموضوع من جوانب مختلفة تتعلق بأساسات مجتمعاتنا الاقتصادية، مع ربطها بمختلف المجالات الأخرى، الاجتماعية والسكانية والنفسية في الماضي والحاضر، ثم طرح وجهات نظر فلاسفة ومحللين نفسيين ومتخصصين في الذكاء الاصطناعي وعلماء فيزياء وبيولوجيا، قبل أن يعرّج على وجهات نظر كتاب ومخرجين سينمائيين ومغنين، لا سيما بوب ديلان.
جمع كوهين هذه العناصر المتفرقة في تحليل يتمتع بالجدة والأصالة، وبطريقة تجعلنا نقف أمام بانوراما مليئة بتفاصيل مترابطة، تسهل علينا فهم الدينامية المعقدة التي تميّز هذه التحولات والطفرات التي نشهدها، والتي تقلب عالمنا بشكل يجعلنا نضيع مساراتنا كأفراد وكجماعات في زمن صعب وخطر، حسب الكاتب.
ما بعد الصناعية
يشرح الكاتب ما مضى من الزمان، ويتوقف عند المجتمع الذي نشأ بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ثم تطور ليقوم على إنتاج الثروة بالاعتماد على معامل ومصانع مكتظة بالعمال، وبهدف تلبية طلبات مستهلكين، تتزايد حاجتهم إلى بضائع ومعدات وأجهزة وما إلى ذلك من منتجات تلائم الحضارة العصرية، مثل متطلبات السكن والسيارات والطائرات والأجهزة… إلخ.
بمرور الزمن، تطوّر هرم اجتماعي واضح، وعانى العمال ظروفًا قاسية، غير أن أجواء الاستهلاك الاحتفالية وارتفاع مستوى القدرة الشرائية وضمان حياة أفضل للأطفال عوّضت بشكل عام كل جهد يبذل خلال ساعات العمل.
شيئًا فشيئًا، تمكن العامّة من التمتع بمكاسب النخبة إلى حد ما، وتمكنت الرأسمالية من الحصول على دعم شعبي، بفضل إيمان كامل بأن كل جيل سيأتي سيعيش حياة أفضل، وبأن المجتمع ماض نحو التقدم لا ريب. في هذه الظروف والأجواء تمكن العمال عبر نقاباتهم من التفاهم مع أرباب العمل، وتوصلوا إلى اتفاقات معهم تضمن مصلحة الطرفين بشكل عام.
ثورة مالية
لكن الأمر تغير اليوم، بحسب كوهين، وكانت بداية التدهور في سبعينيات القرن الماضي، عندما تراجع النمو بعض الشيء، ثم ما لبث أن توقف، فانهار المجتمع الصناعي، وانهارت معه البنى التحتية الاجتماعية، التي كانت تسنده، واحتضرت النقابات وفكرة التطور ومستقبل أفضل ينتظر الجيل الجديد، ثم ما لبثت البطالة أن سجلت مستويات قياسية.
في الثمانينيات، تحرك أصحاب الأموال والمساهمون في الشركات والمؤسسات، وقرروا أخذ زمام المبادرة بأيديهم، ثم أعلنوا ثورة مالية راحت تفرض على الشركات والمؤسسات خفض كلف الإنتاج بأي ثمن.
كان الحل المثالي إلغاء العاملين وتقليص عددهم إلى حد كبير جدًا، ومن يبقى منهم سيكون عليه أن يعيش حياته في عالم ليس فيه وقت فراغ. كان تكثيف العمل الوسيلة الوحيدة لجني ثمار الإنتاج إذًا، ثم ساهم انخفاض كلف الاتصالات في تسهيل الحصول
على مصادر خارجية بطريقة عابرة لحدود المؤسسات والدول والقارات.
رابحون وخاسرون
ما لبثت حصص الرواتب وأجور العاملين ضمن الثروات المنتجة أن انخفضت مقابل تزايد مردود رؤوس الأموال المستثمَرة. بالطبع، كلما كان عدد العاملين في مؤسسة ما أقل، زادت المكاسب وكبرت.
حاليًا، يمكن شركات مثل نيتفلكس وغوغل مضاعفة أرباحها من دون الحاجة إلى زيادة عدد العاملين فيها. يعني ذلك أن هناك عددًا محدودًا من الرابحين وعددًا كبيرًا جدًا من الخاسرين، ما أدى في النتيجة إلى اعتقاد عام هو أن الرأسمالية المتوافرة أدت إلى إفقار الطبقات الدنيا، وقضت على مبادئ التضامن والتفاهم والتكافل، التي خلقها العالم الصناعي رغم هرميته.
تدريجًا، شهد العالم انكماش عدد العاملين في كبريات المؤسسات الصناعية التي تخلت عن أكثر من ثلث العدد الأصلي لمصلحة فئات أخرى، مثل العمال الحرفيين والعاملين في مجال اللوجستيات والسوق وعمال من نوع جديد يركزون على الربط بين العميل ومؤسسات الإنتاج.
مستقبل غير آمن
يرى متخصصون في علم الاجتماع أن انعدام الأمان الاقتصادي والاجتماعي يلتهم العلاقات الاجتماعية ويدمّرها، ويدفع أفرادًا لا يتوقف عددهم عن التزايد إلى الشعور بالعزلة والتهميش والإهمال. ومن هذه المشاعر تولد الشعبوية.
هذا التحليل ليس جديدًا، لكنه يؤشر إلى ما سيحدث في المستقبل، ذلك أن ازدهار الرقميات في كل مجالات الحياة تقريبًا، واستبدال العمال بآلات وروبوتات أكثر دقة وأحسن أداءً، وتعميم اللوغاريتمات في تشغيل المؤسسات وفي العديد من النشاطات، كل هذه الأمور عبارة عن ثورات تكنولوجية متلاحقة راحت تقلب حياتنا رأسًا على عقب، وتغيّر سلوكنا أفرادًا ومجتمعات، بل تغيّر شكل مجتمعاتنا وطريقة عملها.
مهمّشو العصر
في معرض حديثه عن المستجدات عبر التاريخ، ينبّه كوهين إلى أن العديد من الاختراعات التكنولوجية والصناعية تجاوزت أهدافها الأصلية، مثل الآلة البخارية التي اخترعت بداية لضخ الماء إلى مناجم الفحم وتشغيل القطارات. وأديسون أيضًا ما كان ليتخيل التطبيقات اللامحدودة للكهرباء.
مجمل القول هنا إن كل اختراع تقني جديد يقتل مهنًا ويخلق أخرى، غير أن عصرنا الحاضر يشهد تغيرًا في العلاقات التقليدية المعروفة بين الإنسان والآلة، بسبب حجم التحولات التقنية والاقتصادية والاجتماعية التي خلقتها الثورة الرقمية.
في هذا الصدد، علينا القول إن هناك بعض المهن التي لا يمكنها بسبب طبيعتها الخاصة إنتاج ثروات أو الرفع من إنتاجيتها، وعادة ما يتسلم العاملون فيها مرتبات ضعيفة. من المرجّح أن تبقى هذه المهن، غير أن عدد من يعمل فيها سيزداد، ليؤلفوا طبقة المهمشين في العالم الحديث. مع ذلك، علينا أن نعلم أن الإنسان أقدر من الروبوت متى تعلق الأمر بأداء مهمات عديدة في وقت واحد، لذا سيعتمد مستقبل عمل الإنسان على مجتمع قادر على تحقيق تكامل أفضل بين الإنسان والآلة، وفيه عجز كبير في النمو وفرص العمل.
حلول ممكنة
في الصفحات الأخيرة من الكتاب، يرى الكاتب أنه سيكون على الدولة اتخاذ إجراءات صارمة لتحقيق توازن صحيح، منها: متابعة وتنظيم نشاطات غافا (غوغل، أبل، فايسبوك أمازون)، ثم متابعة بيع المعلومات والمعطيات والحدّ منها، مع إعادة الاعتبار إلى مؤسسات عامة مثل المستشفيات والمدارس.
يقر الكاتب بأن هذه الإجراءات صعبة التنفيذ، وربما غير كافية، لكنه يحث في الوقت نفسه على تشغيل الخيال وإيجاد حلول جديدة ومشاريع اقتصادية وسياسية وديمقراطية بمستوى الانقلابات الكبيرة التي نشهدها.
ينبه الكاتب إلى أن أفضل حل تلجأ إليه الرأسمالية في مواجهة أزمات اقتصادية ضخمة هو خوض الحروب، حيث يتم تدمير كل شيء كي تعود الأمور إلى بداياتها من جديد.
يرى كوهين أن هذا الأمر غير مستبعد، لا سيما أن ترسانات العديد من الدول مليئة بأسلحة متطورة جاهزة للاستخدام. لكن هناك بعدًا آخر قد يغيّر الأمور هذه المرة، وهو السرعة التي ترتفع بها درجات الحرارة في الكرة الأرضية بشكل غير متوقع، وهو ما قد يجبر المسؤولين على التقليل من انبعاث الغازات ومن إنتاج السيارات والطائرات على سبيل المثال لا الحصر. لكن كلفة النقل التي سترتفع ستدفع كل بلد إلى نقل مؤسساته الصناعية والزراعية المنتجة، ولو جزئيًا، إلى مناطق حدودية.
بالنتيجة، سيخلق ارتفاع درجات الحرارة رغبة في اختراع وسائل جديدة لتلبية الاحتياجات الحقيقية، ما قد يخلق أملًا بالمستقبل.
تغريد
اكتب تعليقك