حكايات الحيوان في الشّوقيات؛ دراسة سيميائية
المحرر الثقافي:
الكتاب: "حكايات الحيوان في الشّوقيات؛ دراسة سيميائية"
المؤلف: أ. د. سيدي مُحمَّد بن مالك
الناشر: دار الشّؤون الثّقافية العامّة، بغداد، 2022
عدد الصّفحات: 176 صفحة
عن دار الشّؤون الثّقافية العامّة ببغداد، صدر حديثاً كتاب بعنوان: "حكايات الحيوان في الشّوقيات؛ دراسة سيميائية" للأستاذ الدكتور سيدي محمد بن مالك.
يضمّ الكتاب التّراث السّردي الإنساني كثيرًا من الحكايات على لسان الطّير والبهائم أراد بها واضعوها نقد الأوضاع السّياسية والاجتماعية والأخلاقية، بدءًا بخرافات أيسوب اليوناني وفايدر الرّوماني فحكايات "كليلة ودمنة" الشّهيرة وخرافات لافونتين الهادفة ثمّ حكايات أمير الشّعراء أحمد شوقي.
وإذا كان كتاب "كليلة ودمنة" قد نال حظّه من الدّرس والتّحليل على أيدي نقّاد ودارسين من الشّرق والغرب، وإذا كانت خرافات لافونتين قد بلغت شهرتها الآفاق بفضل جهود الباحثين الّذين عكفوا على بيان شعريّتها، فإنّ حكايات أحمد شوقي قد لقيت إجحافًا من الدّارس وصفحًا من القارئ؛ فالأوّل اكتفى باستجلاء مصادر موضوعاتها وتأويل الرّموز الحيوانية المُتضمَّنة فيها، واقتنع الثّاني بفكرة أنّ شوقي توجّه بها إلى الأحداث لبساطة لغتها ووضوح معناها؛ فَلِمَ قراءتها والاحتفاء بها مادامت لا ترقى إلى مستوى شعره الجزل؟!
والواقع، إنّ من حمل القارئَ على الاعتقاد بأنّ حكايات أحمد شوقي ليست ذات قيمة فنيّة كبيرة وأنّها دون مستوى القراءة النّقدية الجادّة هو الدّارسُ الّذي مضى يؤكّد بآرائه العابرة ما كان قد صرّح به شوقي نفسُه من أنّه وضع حكاياته للنّاشئين.
يقول المؤلف: ولم نبتغ، في هذا الكتاب، إنصاف الشّاعر والتّقليل من جهد النّاقد، بقدر ما ابتغيْنا تأسيس بحثنا على منهجٍ يُحلِّل بنية حكاية الحيوان ويستنبط مدلولاتها بالاستناد إلى خطوات منهجية تتعامل مع الخطاب من البسيط إلى المُركَّب، ومن السّطح إلى العمق، ومن الظّاهر إلى المُضْمَر، مُعتبِرين الحكاية كلاًّ متكاملاً وبنيةً متراصّةً لا مجرَّد شكلٍ تُؤوَّل معانيه عبر تفسير رموز الحيوان. وهذا ما دأب عليه المنهج السّيميائي الّذي يدرس النّصوص الّتي تتجلّى فيها السّردية. وهو المنهج الّذي ارتضيْناه لهذه الدّراسة، وذلك في ضوء بحوث ألجيرداس جوليان غريماس وجوزيف كورتيس وجماعة أنترفرن الّتي تُفيدُ، جميعُها، من جهود الباحث الشّكلاني الرّوسي فلاديمير بروب الّذي يُعَدُّ كتابُه "مورفولوجية الحكاية" مُنطلقًا مفاهيميًا للبحوث البنيويّة والسّيميائية على السّواء.
ويؤكد المؤلف: وقد أماطت هذه المُقارَبة السّيميائية لثلاث حكايات هي "الدّيك الهندي والدّجاج البلدي" و"الأسد والثّعلب والعجل" و"أمّة الأرانب والفيل" اللّثام عن جملةٍ من السّمات النّوعية الّتي تميِّز حكاية الحيوان عن الحكاية الخرافية وتُقرِّبها منها في آن واحد؛ فعلى الصّعيد السّردي، تُعَدُّ حكاية الحيوان محكيًا قصيرًا لا يتعدّى مقطوعتيْن سرديّتيْن اثنتيْن تجسِّد الصّراع بين ذاتيْن أو ثلاث ذواتٍ لامتلاك موضوع القيمة الّذي، غالبًا ما، يأخذ صبغة إنسانيّة (بيت، وأرض) أو يكون الذّات نفسها (العجل). وكثيرًا ما يتجلّى الصّراع بين الخصوم كلاميًا، يعتمد الحِجاج ويصبو إلى الإقناع، ويعبّر عن تعقّل الشخصية الحيوانية أو طيشها، تقنّعها أو طبيعتها، يقظتها أو غفلتها، إقبالها أو تخاذلها، ليؤول هذا الصّراع، في نهاية المطاف، إلى مواجهة ماديّة جسديّة تنتهي نهاية مأساوية لصالح الأقوى فالأذكى. ومن ثمّ، تغدو حكاية الحيوان محكيًا ديناميًا ومُقْفَلًا، على العكس ممّا ذهب إليه تيناز ودولاري، حيث تبدأ، مثل الحكاية الخرافية، بحالة انفصال وتنتهي بحالة اتّصال.
وعلى الصّعيد الخطابي، تُجسِّد حكاية الحيوان عددًا من الموضوعات القائمة على تماثُل المسارات الصّورية. وهذه الموضوعات هي: الحياة، والموت، والقوّة، والضّعف، والذّكاء، والغباء، والتّضامن، والتّفرّد، والخير، والشرّ. كما تسنِد حكاية الحيوان إلى الشّخصيات أدوارًا موضوعاتيّة نمطيّة تتّصل اتّصالًا وثيقًا بهيئة الحيوان الجسدية وطبعه وسلوكه؛ فالأسد، مثلًا، قويّ وشرّير لكنّه يستأهل الحياة، والثّعلب ذكيّ وضعيف وشرّير ويستأهل الحياة أيضًا، والعجل غبيّ وضعيف وخيِّر وهالك لا محالة. لكنّ هذه الأدوار تشي بالتّفكير الإنساني؛ فالأسد حين يُهدِّد الثّعلب بالموت ويفتك بالعجل، فهو يُمثّل سلطة الحاكِم الّتي تُخضِع الحليف وتقهر الخصم، والأرانب حيت تتّحد لتدفع عنها إساءة الفيل، فهي ترمز إلى الشّعب المُتضامِن الّذي يذود عن أرضه المُغتصَبة.
وحكاية الحيوان إذ تُجسِّد الصّراع بين الشّخصيات، لا تحْفَل، كثيرًا، بالأخلاق، بل تجعل الشّر وسيلةً لدرء الموت (الدّيك، والأسد، والثّعلب، والفيل) أو نيْل الحظوة (الذّئب). والشرّير، حينها، لا يُعاقَب أو يُنبَذ، بل يُكافَأ بالحياة والسّعادة، بينما يُعاقَب الطيّب بالموت والتّعاسة، ذلك أنّ حكاية الحيوان تمثِّل ما هو كائنٌ لا ما ينبغي أن يكون مثل ما تمثِّله الحكاية الخرافية. ويُعتبر مبدأ "حب البقاء" حافزًا موضوعاتيًا قارًّا في حكاية الحيوان، وهو حافزٌ نفسيٌّ يأخذ صورة الرّغبة أو الصّبا أو الطّموح أو التّذمّر أو القلق أو التّوجّس...
أمّا على الصّعيد الدّلالي، فإنّ خطاب حكاية الحيوان ينهض على التّباين بين السيمات النّووية المُشكِّلة لمفردات الحيوانات، من أسماء وأفعال وصفات ونعوت. الأمر الّذي يدعِّم، سرديًّا، المظهر الجداليّ للمحكيّ، ويُكسِب، خطابيًا، الشّخصيات أدوارًا موضوعاتية مختلفة. وليست تلك السيمات النّووية للمفردات، في الواقع، سوى تكرار لما هو مُتضمَّنٌ في المعاجم والقواميس. ولكنْ، قد يحصل أن يُجرِّد الخطاب بعض المفردات أو الصّور من سيماتها المعجمية ويمنحها سيمات أخرى، نظيرَ الشّر (الدّيك، والفيل)، والموت (الدّيك)، والغباء (الفيل)، والذّكاء (الأرنب). وإذا كانت السيمات المعجمية والسياقية تحدِّد الدّلالة الداخل نصية لحكاية الحيوان، فإنّ الدّلالة الخارج نصية تتحدّد بالرّموز الّتي يتّخذها الحيوان – الشخصيّة في خطاب الحكاية؛ فقد تكون الدّلالة كونيةً أو دينيةً أو اجتماعيةً أو سياسيةً. وهي دلالات تفوق، في اعتقادنا، إدراك الأحداث وتستغْلِق على فهْم القارئ الحاذق نفسِه ما لمْ يُعتمَد في استجلائها على معرفة مُسبَقة للرّموز الحيوانية وتبيُّن السّياق التّاريخي الّذي وُضِعت فيه.
تغريد
اكتب تعليقك