تونا كيرمتشي .. ارحل قبل أن أنهار
فكر – الرياض:
ارحل قبل أن أنهار رواية لـ " تونا كيرمتشي "، عندما يقوم المرء بكتابة مذكراته ، فإنه لا يجب عليه أن يقرأها إلا بعد مرور سنوات طويلة من وقت كتابتها ، فالكلمات والأسطر التي كتبت منذ ثلاثة أيام يمكن أن توقع بك في شعور عميق بالخجل من ذاتك إن قرأتها ، بينما نفس الأسطر والكلمات ستصبح معجزات إذا ما تم قراءتها بعد ثلاثة وعشرين عاماً ، فالكتابة لها دورة حياة خاصة بها ، ولو قُلنا بأن الكتابة تولد بعد أن يغادرها سن القلم ، فإن ثلاثة وعشرين عاماً فترة كافية لنمو هذه الكلمات وتطورها حتى تصبح كياناً مستقلاً عن كاتبها.
يختار كيرمتشي في روايته - وهي ضمن منشورات العربي في القاهرة بترجمة عمرو السيد (2015)- بطلته امرأة في الأربعين من عمرها، تستعيد مذكراتها حين كانت في السابعة عشرة، تقارن بين نظرتها البريئة حينذاك للعالم المحيط بها، وتغير تلك النظرة بفعل التجربة والخبرة، وكيف أن السنوات أنضجتها وأكسبتها معرفة أكثر واقعية ودقة بعالمها والأشخاص القريبين منها.
وتعد رواية "ارحل قبل أن أنهار" مرآه لثمانينيات القرن الماضي، التي تعكس مشاعر وأحاسيس فترة المراهقة التي مر بها الكاتب الشاعر تونا كيرميتشي. يتعرض كيرميتشي من خلال أحداث هذه الرواية لمجموعة من المشاعر الإنسانية المختلفة مثل الحب، الموت، نهاية مرحلة الشباب، الحنين للوطن، لحظات الميلاد والسعادة من خلال تجسيده لشخوص هذا العمل ومشاعرهم المختلفة.
يناقش كيرميتشى على لسان أبطال روايته أسئلة عديدة شغلت بال الإنسانية منذ مئات السنين وذلك من وجهه نظره الشخصية. يحكى كيرميتشى روايته مستخدماً التكنيك السينمائى المعروف بـ 'parallel editing' "الخط الموازي" الذي يستخدمه للربط بين الأحداث في فترتين زمنتين مختلفتين بطريقة تتسم بالبساطة والسلاسة مما يشد القارئ ويجعله متابع لأحداث الرواية بشغف.
المرأة الأربعينية "أردا" تعاين ماضيها بعيدًا عن أية رغبة بالانتقام أو التهرب، بل من باب اكتشاف التغيرات والمستجدات، واستعادة الدروب التي أوصلتها إلى ما أصبحت عليه. فالمراهقة التي كانت غرفتها الصغيرة تشكل بالنسبة لها عالمها الرحب، تحولت إلى أم وزوجة، وترك عليها الزمن آثاره العميقة، وتراها تخوض صراعاتها في أكثر من اتجاه.
يعبّر تونا عن مشاعر المراهقة التي عاشتها بطلته "أردا"، ويفسح لها المجال لسرد اعترافاتها، وكيف أنها كانت تعتبر غرفتها متحفًا لها، وكانت تحارب شياطين مراهقتها هناك، ولم تستطع أسرتها أن تقدم لها أية مساعدة في حربها الشخصية.
ويصف الروائي محطة منتصف العمر بأن المرء يعبر عتبة لا يراها، ويهرب عندها عصفور الشباب من نوافذ جسده، ولا يدرك التغير الذي حدث له قبل مرور بعض الوقت، وقبل المرور ببعض الريبة والشك، فإنه يحتاج إلى مَن يلكزه في كتفيه كي يوقظه، يحتاج إلى لافتة مرورية تقول له إنه بعد صعود طويل وصل إلى السطح المستوي لهضبة منتصف العمر، كما يحتاج إلى أسلوب مختلف لفهم هذه الفترة وعلامات مختلفة لإدراكها.
يركز كيرمتشي على مشاعر المراهقة والنضج، وكيف أن كل محطة تكون جسرا بين مرحلتين، فحين يصل المرء إلى السابعة عشرة يشعر بداخله أنه بين أمرين، فقد اقترب من الرشد لكنه لم يغادر الطفولة كلية، وفي هذه السن يكتشف أنه لا يحتاج إلى سحر كي يحول غرفته إلى مفكرة له.
ويصف كيرمتشي مدينة إسطنبول بطريقة توافق حالة بطلته النفسية، فالراوية تتذكر لقاءها الأول بإسطنبول وتقول إنها كانت تعرف أن هذه المدينة ستنقض عليها من اليوم الأول بأبراجها وقصورها ومنازلها، وأنها لن تهدأ حتى تترك في نفسها انطباعا، وحتى تتمكن من أن تحول السبعة عشر عاما التي عاشتها في الحياة إلى شريط مسح بغير قصد، وقبل أن تحول المدينة التي ولدت ونشأت فيها إلى مركز ريفي صغير.
تغريد
اكتب تعليقك