مؤسسة الفكر العربي تصدر كتاب «أوروبا الإسلامية سحرُ حضارةٍ ألفيّة»
فكر – المحرر الثقافي:
أصدرت مؤسّسة الفكر العربي، بعد عشرات الكتب المترجمَة مباشرةً عن الصينيّة والهنديّة، ضمن سلسلة برنامج "حضارة واحدة"، كتابًا جديدًا مُترجَمًا هذه المرّة عن اللغة الإسبانية بعنوان "أوروبا الإسلامية سحرُ حضارةٍ ألفيّة". وقد أعدت الترجمة الباحثة اللبنانية البارزة الدكتورة ناديا ظافر شعبان، في مجال دراسة الحضارة الإسبانية.
وجاء الكتاب الذي صدر بالإسبانية في نهاية عام 1991، أساسًا في إطار الاحتفال بالذكرى المئوية الخامسة لسقوط غرناطة (1492م)، آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية. إلّا أن مؤلِّفَيْه وهما المستعرب الإسباني البروفيسور بيدرو مارتينيث مونتابيث، أستاذ شرف في جامعة مدريد ورئيس سابق لها، والمستعربة الإسبانية البروفيسورة كارمن رويث برافو، أستاذة في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد، آثرا الإبقاء على نصّه الأساسي كما نُشِر في ذلك التاريخ، ومن دون أيّ تعديلٍ في مضمونه، وذلك على الرغم من التحوّلات الكبيرة التي شهدها العالم منذ عام 1991.
أمّا السبب الرئيسي وراء إصرارهما فمردّه كما أشارا في مقدّمة الكتاب إلى رغبتهما في الحفاظ على المدلول الذي جسـَّـدَه الكتاب، "وعلى الرسالة التي نقلها، ليكون بذلك أشبه بشاهـدٍ على واقع تلك المرحلة التي نُشر فيها. وهي مرحلة تميّزت بالإصرار على حوارٍ ثقافيّ واجتماعيّ حقيقيّ يستحقّ، أولاً وآخراً، أن يُوصف بالإنساني".
ولئن اختارت مؤسّسة الفكر العربي بدورها هذا الكتاب، فلأن مطلع الألفية الثالثة، وعوضاً عن أن يحمل تباشير حوار حضاريّ بنّاء لصالح البشرية جمعاء، جاء يشهد تشنّجاً وصراعاً متزايدين، ولاسيما بين أوروبا والإسلام.
لقد صال الكتاب وجال بفصوله الخمسة ("تاريخ ألف عام"، "هندسيّة معماريّة ومدن"، "فنون وتقنيات زخرفيّة"، "الحياة اليوميّة"، "في الفنّ والأدب") في ثنايا تاريخٍ عريق، نجح الإسلام فيه خلال أكثر من قرن واحد بقليل تقريباً- منذ الثلث الأول للقرن السابع الميلادي وحتّى أواسط القرن الثامن- في الانتشار على امتداد مناطق شاسعة جداً ومختلفة ومتعدّدة، شملت معظم شبه الجزيرة الأندلسيّة، وقسماً مهمّاً من فرنسا، أو الأرض الكبيرة، كما سمّاها قدماء المسلمين.
وانطلق الكتاب مُعرّفًا بالانتشار الإسلامي الكبير الذي بدأ من منطقة الشاطئ الغربي لشبه الجزيرة العربية، ليتوسّع عبر أراضي آسيا وإفريقيا، ناسجًا علاقة مباشرة لا تنفصم عراها مع العالم المتوسّطي، قبل أن يستقرّ في حدوده الجنوبية. وبالتالي، لم يكتف الكتاب بما حمله الإسلام بذاته إلى أوروبا، بل بما أخذته أوروبا عن الإسلام، ولاسيّما أن الحروب الصليبية والاستعمار (أي الوجود الأوروبي في العالم الإسلامي) عزّزا، كحَدثَين تاريخيّين، الوجود الأوروبي في العالم الإسلامي، وأتاحا للصليبيّين أن ينقلوا معهم ظواهر إسلامية مختلفة إلى بلاد الشرق، كانت قد شاعت ووُطِّنَت في أماكن متفرّقة من أوروبا.
وفي تجواله بين مدن قرطبة، وغرناطة، وطليطلة، وإشبيلية، وبالـيـرمـو، وكذلك بين مدن غير إسبانية، كإسطنبول، فضلًا عن تصويره فنّ الـزخرفـة الإسلاميّة ووظيفتها وعـالـَم السجّاد والكتاب والمعادن وصولًا إلى عالم الأدب، انصبّ همّ الكتاب على تلمّس الإرث الحضاري الإسلامي في تعبيراته المادية وغير الماديّة، التي تتجلّى في الفضاء التاريخيّ الفعليّ كما في الفضاء التخيّلي. ولعلّ اللافت من خلال استعراض المكانة التي احتلّها الإرث الحضاري الإسلامي في إسبانيا– شبه الجزيرة الإيبيريّة- في هذا الإطار، هو تتبّع الإيقاع الإنساني والروحي لتلك العلاقة. هذا الإيقاع الذي كان له دور السحر، لكن من دون أن يَلقى الاهتمام الكافي من قبل المؤرّخين أو غيرهم، على الرغم من تأثيره الفاعل في أوروبا حتّى بعد ألف عام.
ولا بدّ قبل كلّ شيء من القول بأنّ الفنّ الإسلامي شغل حيّزًا كبيرًا في الكتاب، فترصّد المؤلِّفان إسلامية هذا الفنّ بدءاً من الهند وصولاً إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، ومن القرن العاشر وصولاً إلى القرن العشرين. غير أن قيمة هذا الحيّز تكمن في الجهد المنصَبّ على تبيان النماذج المختلفة للفنّ الإسلامي، سواء في الزمن، أم في الشكل، أم في المضمون، أم في المكان، على الرغم من وحدته الجوهرية.
ففي جولتهما التاريخية هذه، بيّن البروفيسور بيدرو مارتينيث مونتابيث، والبروفيسورة كارمن رويث برافو أن مبدأ الوحدة القائم في الفنّ الإسلامي، لا يعني عدم نشوء ظواهر فنّيّة إسلاميّة مختلفة، لأن عناصر الوحدة والتنوّع تأتلف في ما بينها وتتباعد وفقاً للجدلية الخاصّة بكلّ ظاهرة ثقافية تنتمي إلى حضارة معيّنة.
رصد الكتاب ثلاثة نماذج رئيسة للمباني الدينية الإسلامية هي: "الردهة" ذات الأعمدة والباحة الكبيرة، بوصفها أنموذجاً خاصّاً بالإسلام الكلاسيكي العربي؛ "الإيوان"، وهو حيّزٌ كبير، مربّع الشكل ومغلق من جهات ثلاث، ومفتوح من الجهة الرابعة، ومقبَّب، وذلك بوصفه إسهاماً فارسيّاً في فنّ الهندسة المعمارية أساساً، وكان السلاجقة بخاصّة قد شيّدوا مبانيهم على مثاله، فضلاً عن المنغوليّين والتيموريّين.
الأنموذج الثالث، يجسِّده حيّز مركزي، تسقفه قباب كبيرة، وتجاوره مساحات أخرى صغيرة في الغالب، مسقوفة على النحو ذاته، وذلك وفقاً للأنموذج المميّز للهندسة المعمارية العثمانية. غير أن البانوراما الإجمالية للهندسة المعمارية المدنية الإسلامية التي صوّرها الكتاب، أظهرت نماذج مختلفة ومتنوّعة للغاية، لكن انطلاقاً من مبادئ وحدة العناصر المؤسِّسَة. ففي ما يتعلّق بالمباني الأثرية، فإن هذه الهندسة المعمارية المدنية تبنّت، من خلال منهجها الأساسي، القصر البلاطي، والمقرّ الحكومي، والمكان المسوَّر. وكانت هذه المباني – وبخاصّة المسوّرة منها- تشيَّد في الأماكن الأكثر ارتفاعاً، بحيث يكون الوصول إليها أكثر صعوبة. ومن نماذجها: القصبات، والقلاع، والقليعات:alcazabas, alcálas, alcoleas. وهذه التعابير الأجنبيّة مُشتقَّة من اللغة العربية، وهي تسميات تُطْلَق اليوم على مبانٍ أثرية أوروبية عدّة، بما يشير إلى مدلولها الثقافي الإسلامي.
وفي سياق توصيف التفاعل الثقافي بين ما هو إسلامي، وما هو أوروبي، في شبه الجزيرة الإيبيرية، تطرّق الكتاب إلى مختلف أشكال العناصر الثقافيّة تلك، من فنّ، ومأكل، وملبس، وطقوس، وعادات، وصولاً إلى الأدب:" فالمسلم، في المدى الإيبيري، يظلّ هو "الآخر" الأكثر قرباً من الإيبيريين، يشاركهم حياتهم اليومية والدنيوية، بصرف النظر عن أيّ شعور أو اعتبار آخر. وهذا ما يتيح لهم مبدئياً، خيارات أخرى، لمعرفته بطريقة أفضل وأكثر منطقية. ويظهر تأثير هذه المعرفة في السمات الرئيسة، غير القابلة للتغيير، والتي ميَّزت العلاقة الثقافية الإسبانية - العربية في تلك العصور؛ وهي سمات فريدةٌ ومتميّزة، مقارنةً بظواهر ذات طبيعة مماثلة، نشأت في أيّ بلد أوروبي آخر".
فعلى الصعيد الغذائي، ونتيجة الاستقرار العربي - الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، حدث تغيّرٌ ذو أهمّية في التقاليد الغذائية الأوروبية، مثل شيوع استعمال التوابل، بين شرائح واسعة من الشعب، وليس بين الطبقات الميسورة فقط. وقد يسَّرت السيطرة العربية - الإسلامية على المدى المتوسّطي، نقل التوابل، بخفض أسعار نقلها، ومنح التسهيلات لتجّار دار الإسلام. وبعد ذلك، شرع المسلمون في العمل على تكييف نباتات شتّى وأقلمتها مع مناخ الأندلس وصقلية.
ومن بين تلك المزروعات التي تلفت الانتباه، زراعة الزعفران، azafran أو azaafaran، وتظهر هذه الكلمة المحرَّفة عن العربيّة مكتوبةً في وثائق قشتالية، يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر.
على الرغم من أن السكّر لم ينتشر في كلّ أنحاء أوروبا، إلّا بدءاً من القرن السادس عشر، من جرّاء استيراد كميات كبيرة من هذا المنتَج من أمريكا (بعدما يكون قد جرى تكريره في أماكن أخرى، ومنها لشبونة) فإن الثابت- كما يُطلعنا الكتاب- هو أنه استُهلِك بكمّيات كبيرة في الأندلس وصقلّية. فقد كان يستورده القشتاليون والكتالونيون والبرتغاليون والإيطاليون. كما يطلعنا أن اسم هذا المنتَج مأخوذٌ مباشرة من اللغة العربية assukar (مع أل التعريف) أو sukkar (من دون أل التعريف). وهو في اللغة القشتالية azucar، وبالكتالونية والفرنسية sucre، وفي البرتغالية açucar، وفي الإيطالية zucchero. ومن هذه اللغات، يتأتّى اسم sucker في الألمانية أو sugar بالإنكليزية، وباليونانية sakkaran (ويشتق منه الاسم الحالي sacarosa، أو السكّرينا). كما لاقى مزج السكّر مع الفاكهة إقبالاً عظيماً في أوروبا، فصُنِعت منه مجمّدات، ومربّيات، ومرطِّبات، أُطلقت عليها أسماء شرقية مثل arropes (شراب عصير العنب مختلط مع قطع من الفاكهة)، واسم arroke، متأتٍ من العربية (rubb) روب أو (zumo)، وتسبّب انتشار السكّر بشيوع مرطّبات عديدة، من بينها، على الأخصّ، مشروب الليمون limon أو الليموناضة، التي كان المزارعون المستعربون يُضيفون إليها الليمون، الذي كانوا قد نجحوا في أقلمته في سهولهم وبساتينهم، حوالي العام 1000. وقد استُعمِلت الليموناضة في البدء، كشراب طبّي، فضلاً عن استعمالها كمرطّبات.
كما أوجدَ مزْجُ السكّر بالفواكه المجفَّفة- واللوز بخاصّة - حلوى شرقية نموذجية، بقيت منها نماذج عديدة مثل تورون خيخونا، ومعجّنات اللوز، ومرصبان marzapan طليطلة، ولوز دير الكالا دي هناريس، كما بقيت في إسبانيا حلويات تقليدية، يُحفظ سرّ صناعتها بحرصٍ شديد، على الرغم من أن أسماءها تنمّ عن أصلها العربي. ويمكن تبيّن ذلك، من اسم alaju كوينكا، (والتعبير يعني بالعربية الحشو)، ومن اسم alfajor، أي حلوى العسل الأندلسية.
أما في مجال التفاعل الأدبي، ولئن كان المجال لا يتّسع هنا لاستعراض كلّ أشكال التفاعل الواردة في الكتاب، فنكتفي بإيراد ما جاء حول الـ Romancero، وهو مجموعة القصائد الغنائية القصصية التي ظهرت في الأندلس بعد حروب الإسبان وملوك الطوائف. وفيه أن " الشعر الذي نظمه المثقّف خورخي مانريكيه، وكذلك بعض الشعر التقليدي، المجموع في مخزن "الروما نثيرو" الكبير، هما نموذجان صالحان في هذا الخصوص، يمثّل كلّ منهما في بيئته، هذا المناخ الحيوي والجمالي الجديد، ويمثّل نظرة جديدة إلى المسلم، يُخفِّـف المفهوم الفروسي النبيل من خلالها، من حدّة المجابهة بين العقيدتين. آنذاك، تحوّلت غرناطة التي تأمّلها ابن عمّار وعشقها، كما فعل الملك دون خوان، إلى رمز رائع، توحَّدت نظرة المسلمين والمسيحيين إليه.
ولم يكن وجود هذا الرمز مقتصراً على ميدان الشعر وحده، فقد ظهر أيضاً في النتاج النثري، وفي "الرواية الموريسكية" التي قدَّرها بعد مرور قرونٍ عدَّة، شاتوبريان وكتّـابٌ رومنسيون، حقَّ قدرِها، كما قدَّرها كذلك كتّـابُ ما بعد الرومانسية". هذا فضلاً عن تأثر أدبَيْ الباروك (baroque)، والنهضة (renaissance) بالإسلام، وتجلّيه في نتاج كتّاب مثل: غونغورا، لوبيه دي فيغا، كالديرون دي لابركا...، وقبلهما في نِتاج ميغيل دي ثربانتيس (1547- 1616)، الذي عبّـر خير تعبير، في حياته كما في نتاجه، عن وجود "حتميّة" الجزئية الإسلامية في الموضوع الإسباني. فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن بطل الرواية الخالدة "دون كيخوتيه دي لامانتشا" (المعروفة في العربية بـ"دون كيشوت") هو موريسكي، وأن ثربانتيس نفسه، هو من محتِد إسلامي، وقد منعته السلطات الإسبانية من الهجرة الى العالم الجديد، لأنه موريسكي. وكتب مسرحية عنوانها "حمّامات الجزائر" .
لئن كان الإسلام قد شكّل بالنسبة إلى أوروبا المسيحية ذاك الـ"آخر"، فإن أهمّية كتاب "أوروبا الإسلامية- سحرُ حضارة ألفيّة" تُكمن ليس في إطلالته البانوراميّة اللمّاحة على التراث الفنّي الإسلامي العظيم الباقي في أوروبا فحسب، بل في تطوافه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، في ثنايا تراث قادم من مناشئ إسلامية بعيدة أيضاً، خلّفه الإسلام في بلدان أوروبيّة عدّة. وبالتالي عدم اقتصار هذا التطواف على مجموعات النصب الآثارية التذكارية المهمّة؛ ومواكبته كذلك الفنون التي جسّدت اندماج الفنّ الإسلامي بالفنون الأوروبية، ولاسيّما في مجال الهندسة المعمارية الأندلسية، التي انتقلت إلى الغرب المسيحي وتوطّنت هناك. غير أن الإضافة القيّمة للكتاب تكمن في محاولات إظهار كيف أن أوروبا لم تعرف إسلاماً واحداً بقدر ما لم يعرف الإسلام أيضاً أوروبا واحدة. وهو ما يمثّل خروجاً عن النظرة الاستشراقيّة أو العدائيّة للآخر. تلك النظرة التي ناهضها الكتاب، والتي عبّرت عن نفسها سواء في المنهج الذي اتّبعه المؤلِّفان في قراءة العلاقة بين أوروبا والإسلام، أم في تصريحاتهما المباشرة، ومنها ما جاء في كلامهما في خاتمة الكتاب حين ورد عنهما الآتي: " إن التصوّر الجديد الذي اكتسبه العالم الإسلامي - على الأقلّ في جانبه الإيديولوجي - خلال السنوات الأخيرة، وتأثيره المباشر في أوروبا، على الصعيدين السياسي كما الاجتماعي، أسهم في تطوّر أدبٍ لم يستطِع التخلّي عن بعض الموروثات الواضحة. فالأدب، على الرغم من كونه أداة اجتماعية وثقافية، تبقى فعاليته أقلّ بكثير، مقارنةً بتأثير وسائل الإعلام التي ازدادت وتنوّعت كثيراً، والتي تقدّم باستمرار، أيضاً، صورةً للعالم الإسلامي تناسبها وتخدم مصالحها الإيديولوجية والسياسية، لتعزّز فيه الإبقاء على بؤر توتُّـرٍ تُفضي إلى نزاعات مسلّحة، تدخل مباشرة في تسيير المصالح الأوروبية في مناطق مختلفة من النطاق الجغرافي الإسلامي. ويكفينا للبرهنة على ذلك إشارةٌ بسيطة إلى القضية الفلسطينية، حتّى لا نُكثِر من الأمثلة الأخرى التي توالت من بعدها".
يعد كتاب "أوروبا الإسلامية سحرُ حضارةٍ ألفيّة" كتابًا موضوعيًّا في طريقة عرضه، غنيّ بمعلوماته، ساحر بأسلوبه المتفلّت من صرامة التأريخ نحو رحابة الأدب وفضاءاته الحرّة. كتاب يزخر بالحبّ بدلًا من الكراهية الخفيّة أو المعلَنة تجاه "الآخر".
تغريد
اكتب تعليقك