سيرة ترنسترومر في «ذكريات تراني»
فكر – المحرر الثقافي:
كتاب "ذكريات تراني" تقديم روبن فلتون، وترجمة طلال فيصل، والصادر عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، هو السيرة الذاتية للشاعر السويدي توماس ترنسترومر، والذي جاء حوله في تقرير الأكاديمية السويدية عند منحه جائزة نوبل للآداب عام 2011 "إن أعمال ترنسترومر تعيد قراءة الذاكرة والتاريخ والموت بشكل أعمق".
يستهل توماس ترنسترومر ذكرياته في كتاب "ذكريات تراني" بقوله: "حياتي".. حين أفكر في هذه الكلمة أبصر إزائي شعاعا من الضوء، أتفحصه عن قرب فيتخذ شكل مذنب؛ له رأس وذيل، الطرف الأكثر التمامًا، هو الطفولة وسنوات التكوين، ونواته، الجزء الأكثر كثافة، هي بواكير الطفولة: الفترة الأولى التي تتحدد فيها الملامح الأهم لوجودنا. أحاول أن أتذكر، أحاول أن أخترق وصولاً إلى هناك، لكن الوصول إلى تلك المناطق الكثيفة صعب وخطير، ويمنحني الشعور بأني أقترب من الموت ذاته، أبتعد، يزداد ذيل المذنب نحولا، هذا هو الطرف الأول والأكثر خفة، ولكنه كذلك الأكثر اتساعا. إنني الآن في الستين وأنا أكتب هذا الكلام.
ويواصل: ولي ذكرياتي القابلة للتأريخ فهي شعور، شعور بالفخر، كنت قد بلغت الثالثة، وتمّ التعامل مع ذلك باعتباره أمرًا بالغ الدلالة، والآن إنني شخص كبير على السرير في غرفة شديدة الإضاءة، أتمكن بعد محاولات جاهدة من النزول إلى الأرض مدركًا على نحو مدهش أنني حدث كبير. كانت لديّ دمية منحتها أجمل اسم يمكنه أن يخطر ببالي: كارين سبنيا، والتي لم أكن أعاملها باعتبارها أما، لكن بشكل أقرب لكونها رقيقة أو حبيبة.
ويذكر: طوال فترة طفولتي كنت مفتونا بالمتاحف. في البداية كان متحف التاريخ الطبيعي بفريسكاتي، في الطرف الشمالي لستكهولم. وذات يوم التقيت شخصًا ما، كلاً، لم يكن زائرًا، كان أستاذًا في العلوم أو شيئًا من هذا القبيل يعمل في المتحف، كان ضئيل الحجم مثلي، تحدث بصوت خافت لنفسه ثم ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا نتناقش في المحار والرخويات… بفضل وجوده، انتهت محاورتنا بالسماح لي بدخول قسم من المتحف غير متاح. منحني نصائح طيبة عن إعداد الحيوانات الصغيرة قبل أن أدلف إلى القسم الذي كان مجهزا بأنابيب زجاجية دقيقة.
ويضيف: كنت أنزلق إلى المكتبة كل يوم تقريبًا. كان أكثر اهتمامي مكرسًا للكتب غير الأدبية، تركت الأدب لمصيره، وكذلك رفوف كتب الاقتصاد ومشاكل الاجتماع. كانت الجغرافيا هي ركني المفضل، كنت مخلصًا تمامًا لرف أفريقيا، الممتد أمامي، أستعيد عناوين مثل "جبل إلجون"، "صبي السوق في أفريقيا"، و"لوحات للصحراء". يخطر في بالي تساؤل عما إذا كانت تلك الكتب التي تملأ الرفوف أيامها لا تزال موجودة.
ويقول ترنسترومر: "اثنان فحسب من زملاء فصلي في المدرسة الابتدائية، استكملوا الدراسة بمدرسة ثانوية، ولم يتقدم بأوراقه لمدرسة سودرا للنحو اللاتيني سواي".
ثمة ذكرى بارزة ليومي الأول في مدرسة سودرا، خريف 1942 وهي كما يلي: أجدني محاطًا بعدد من الصبيان في الحادية عشرة، لا أعرف منهم أحدًا، كانت معدتي ترتجف، وكنت قلقا ووحيدا، بينما الآخرون يبدو أنهم يعرفون بعضهم البعض جيدًا… من اللحظة الأولى بدا واضحًا أن مدرسة النحو أمر مختلف تمامًا عن المدرسة الابتدائية، كانت مدرسة سودرا خشنة، فكانت مدرسة بنين فقط، مثل دير للرهبان، أو ثكنة عسكرية، ولم يتمكنوا حتى سنوات قليلة خلت من تهريب سيدتين داخل طاقم المدرسة.
ويضيف: كنت أحد الطلاب المتفوقين لكني لم أكن الأفضل. كان علم الأحياء هو مادتي المفضلة، لكن في معظم فترة الدراسة الثانوية كان مدرس الأحياء الخاص بي طاعنا في السن. في زمن مضى كان قد لطخ سجله الوظيفي، وتم توجيه التحذير له، وصار بعد ذلك مثل البركان المشتعل. كانت المواد المفضلة بالنسبة إليّ هي الجغرافيا والتاريخ. كان لديّ فيهما مدرس مساعد يدعى بروثمان، ذو بشرة حمراء، متفجر الطاقة، وكان شابًا صغيرًا ينتصب شعر مقدمة رأسه إذا مسه الغضب، وهو ما كان يحدث كثيرًا.
ويذكر: ذات شتاء وكنت في الخامسة عشرة من العمر، أصبت بنوع مفرط مرضيّ، بدأ ذلك في أواخر الخريف، ذات مساء ذهبت إلى السينما وشاهدت فيلم "الأيام المهدورة" الذي يدور حول رجل سكير، ثم ينتهي إلى حالات من الهذيان متتالية مروعة، ربما تبدو لي اليوم طفولية، لكنها لم تكن كذلك وقتها.
تغريد
اكتب تعليقك