المدن.. على خارطة الأدب
مجلة فكر الثقافية:
لا تزال المُدن بصخبها الذي يهزُّ الأحياء ومعمارها الذي يملأ الوعي تَفتن الأدباء، فإما يفرّون منها إلى الطبيعة أو بالعكس يندمجون في ضجيجها فيحولونه مصدر إلهام. وكما تتعدد أبعاد المدن في الواقع، فهي تستحيل في نصوص الفن استعاراتٍ.
لو أمعنّا النظر في بنية الروايات العربية لنستكشف كيف رسم كتابها المدينة داخلها، وكيف عبّرت تلك الروايات عن روح المدن، وكيف كانت المدينة بتصميمها ومعمارها وبنائها عاملاً مؤثرًا وفارقًا في عدد من الأعمال الروائية العربية، لاسيما تلك التي اهتمت بالمدينة بمفهومها الواسع بشكل كبير.
ولطالما راودني شعور غامض عن تلك المدن كيف يجب أن تكون؟ لأذهب إلى برشلونة، هذه المدينة الأدبية الأولى في أوروبا ومنذ القرن التاسع عشر حين تمتعت بوجودها العالمي كمركز ساهمت في ترويج الأدب الإسباني والكتلاني بشكلٍ مزدهرٍ ومستقل، أدبٌ بلغة يقرأه شبه الجزيرة الأيبرية في الجنوب الغربي الأوروبي، وقارة أمريكا الجنوبية ودول أخرى كثيرة، لتتضاعف المكتبات العامة في شوارع مدينة برشلونة، مما أضافت للاقتصاد المليارات، ومدت قطاع الأدب من معارض وترويج بالديناميكية الكبرى.
المدينة في الرواية المصرية
عرف القارئ العربي القاهرة من خلال روايات نجيب محفوظ قبل أن يراها، ولربما حتى أولئك الذين رأوا القاهرة فعليًا لم يعرفوها بالقدر الذي وفره نجيب محفوظ في رواياته لقرائه، غير أن المدينة التي تبنى داخل النص الروائي لن تكون مطابقة للمدينة الواقعية. فالنص الأدبي عمل تخييل حتى وإن اتخذت لها من أزمنة وأمكنة وأحداث واقعية مرجعًا. فاللغة التي هي أداة ووسيلة العمل الأدبي لها استقلاليتها عن عالم الأشياء، ولا يمكن إلاّ أنْ تشير إلى هذه الأشياء من دون أن تكون إياها.
وعناوين رواياته مؤشر دال على ذلك. فقد عبرت هذه العناوين عن كل الفضاءات المتواجدة في هذه المدينة بشكل واضح وصريح بدءًا من روايته التي حملت عنوان هذه المدينة في حد ذاتها، كما في رواية "القاهرة الجديدة" ومرورًا بثلاثيته الشهيرة التي جاءت عناوينها حاملة لأسماء فضاءات هذه المدينة، "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، وقل نفس الأمر عن مجموعة أخرى من رواياته التي كانت فيها مدينة القاهرة حاضرة بقوة. إن الروائي المصري نجيب محفوظ قد غاص في عمق الأحياء الشعبية القاهرية واستطاع أن يعبر عنها بكل براعة، بحيث تجلت هذه المدينة بكل تناقضاتها، وبكل بهائها أيضًا في هذه الروايات. و كما ارتبطت مدينة القاهرة بكتابات نجيب محفوظ الروائية فقد ارتبطت مدينة الإسكندرية أيضًا بكاتبين روائيين مصريين آخرين هما إدوار الخراط وإبراهيم عبدالمجيد، فقد كتب عنها الأول بشكل شاعري فاتن في روايته "ترابها زعفران" التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية بهذا العنوان "الإسكندرية، أرض الزعفران"، كما كتب عنها أيضًا في كولاج روائي، حمل عنوان "إسكندريتي..مدينتي القدسية الحوشية"، في حين كتب عنها الثاني في رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" وفي رواية "الإسكندرية في غيمة".
ما فعله «محمد ربيع» في رواية (عطارد 2014) حيث قدَّم تصويرًا كابوسيًا سوداويًا لما ستكون عليه القاهرة بعد عدة أعوام (2025)، حيث يتعرّض عدد من معالم المدينة للهدم والتدمير، كذلك ما قدمه «أحمد ناجي» في روايته (استخدام الحياة 2014) حيث يصوّر بطريقة سوداوية أيضًا واقع القاهرة ومدى ما يعيشه فيها شبابها من بؤسٍ وما يلاقونه من صعوبات، ولا شك أن تلك القراءة يمكن أن تنسحب أيضًا على روايات أحدث تناولت رسمًا وتفصيلاً أكثر دقة لمدن ربما لم تكن العاصمة بينها، مثلما فعلته داليا أصلان في روايتها (المختلط 2016)، حيث جعلت من «المنصورة» مركزًا ومحورًا لأحداث روايتها التي أدارتها في فترة زمنية واسعة، واستطاعت من خلالها أن تحكي التاريخ الشعبي لمصر في تلك المدينة.
ولاشك أن عددًا من الأعمال الروائية، لاسيما الحديثة، قد تناولت القاهرة بشكل خاص بطريقة مختلفة، والتي ربما تشترك مع رواية «يوتبيا» التي تناولتها الدراسة من حيث هي «قاهرة ماذا سيحدث للمصريين».
المدينة في الرواية السعودية
هناك عدد من الروايات «السعودية» التي وتستعرض المدينة بشكلِ مفصّل لدرجةٍ تبدو فيها المدينة عاملًا مؤثرًا في السرد الروائي، من ذلك مثلًا ما قدمه الروائي «محمد حسن علوان» في روايته (سقف الكفاية 2002) حيث تحضر «الرياض» كمدينة شديدة القتامة تمارس ضغوطها على الأحياء، في مقابل مدينة «فانكوفر» الكندية التي تغرّب فيها رغم أنه مسكونٌ بمدينته التي قتلت فيه الحب والحياة.
على نحوٍ من ذلك أيضًا تحضر بقوة رواية رجاء الصانع «بنات الرياض 2005» التي عرضت شكل حياة الفتيات في تلك البيئة، وذلك المجتمع المنغلق، وكيف مثّلت المدينة/الرياض فضاءً سرديًا ضاغطًا ومؤثرًا على بطلات الرواية، وكيف استطاعت الروائية أن تعبّر عنه بكل صدق.
رواية « ترمي بشرر» ورواية «مدن تأكل العشب» وراية «صدفة ليل» لعبده خال التي ظهرت مدينة جدة حاضرة على امتداد سطور الروايات الثلاث، وحيث وصل الروائي إلى فرز للمدينة بالغ الدقة بين الما قبل والما بعد. بين المدينة كذاكرة والمدينة كواقع معاش. رواية «ميمونة» لمحمود تراوري التي تدور أحداثها في مكة، تذكرنا برواية حامد دمنهوري «ثمن التضحية» الصادرة في عام 1959م التي تدور أحداثها فترة الخمسينيات في مكة المكرمة والقاهرة، وكذلك رواية «ومرت الأيام» التي تدور أحداثها أيضًا ما بين مكة وجدة متمثلاً البعد البيئي والجغرافي بأسلوب بسيط غير معقد لهاتين المدينتين، إلا أن ما يميز هذه الرواية (التي يراها بعض النقاد أنها الأضعف فنيًا) هو المونولوج الداخلي، حيث لم يسبقه أحد من الروائيين السعوديين إليه. ورواية «البحريات» لأميمة الخميس التي تدور أحداثها في مدينة الرياض، وبدرية البشر في رواية «غراميات شارع الأعشى» شارع الأعشى أحد شوارع مدينة الرياض في حي منفوحة.
وتناول روايات عبد الرحمن منيف «خماسية مدن الملح 1988» كروايات دالة ومعبّرة عن مرحلة تحوّل المدن الخليجية إلى مدن نفطية، وأثر ذلك في شخصيات أبطال الرواية، فإنه كان من المهم الإشارة إلى روايات روائيٍ معاصر مثل عبده خال الذي اهتم بتشريح المجتمع السعودي في الفترة التالية لمرحلة الثورة النفطية، كما قدم قراءات مهمة لتلك المدن من وجهة نظرٍ أخرى مهمة في رواياته «مدن تأكل العشب 1998» حتى روايته «ترمي بشرر 2008» التي فازت بجائزة بوكر العربية، وتناولت مدينة «جدة» السعودية وما يدور فيها بين الأثرياء أصحاب القصور الفخمة والفقراء المعدمين الذين لا يجدون قوت يومهم.
قدّم عبدالرحمن منيف علاقته بمدينة عمّان في كتابه: «سيرة مدينة- عمّان في الأربعينيات»، لقد حيث استحضر فيها ذكرياته والشخصيات التي طبعت فضاءاتها وخلفت أثرًا في حياته، ومنح منيف تلك العلاقة طابعًا سيريًّا، إذ لم يفصل تحوّلات المدينة عن تحوّلاته الفرديّة. سنجد تشابهًا في طبيعة الرواية التي كتبها هؤلاء الروائيّون جميعًا، على الرغم من اختلاف هويّاتهم، ولغاتهم، إنّهم امتلكوا هذا الوعي المدينيّ، رغم تباين إمكانيّات مدينة مثل دانتسيغ عن إسطنبول، عن عمّان.
المدينة في الرواية الجزائرية
وحضرت المدينة في الرواية الجزائرية على سبيل المثال روايات «الزلزال» للطاهر وطّار و«بم تحلم الذئاب» لياسمينة خضرا (2000) و«ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي التي تجسدت في «قسنطينة» و«باريس»، وبعض الأعمال الروائية لمالك حداد وفضيلة الفاروق أو وهران في «الرعشة» لأمين الزاوي و«قضاة الشرف» لعبدالوهاب بن منصور والجزائر العاصمة في «طيور الظهيرة» لمرزاق بقطاش و«سيدة المقام» لواسيني الأعرج، ويقدم الأعرج مرثية مهمة وبديعة للقدس في روايته «سوناتا لأشباح القدس 2008» رابطًا فيها الحاضر بالماضي ومآسي الأندلس القديمة بمآساينا الحالية المتجددة، و«توابل المدينة» لحميد عبدالقادر وأدرار وسعيدة في «تلك المحبة» و«زمن النمرود» للحبيب السايح، و«مملكة الزيوان» لأحمد الصديق الزيواني.
المدينة في الرواية السورية
وتمثلت مدينة دمشق في روايات فواز حداد، الذي شكلت له صورة دمشق بؤرة الواقعي والتخيلي، ففي روايته الأولى «موزاييك دمشق»، انعكست المدينة بمعالمها الكبرى وشوارعها وأزقتها. أما في الرواية الثانية «صورة الروائي»، تناول حداد بدايات الهدم في أحياء دمشق القديمة في أوائل التسعينيات وتداعي ذاكرة المكان وانهياره، على وقع التحديث العنيف المتسارع غير المدرك لقيمة المكان. لكن الروائي بقي وفياً لمدينته فسرد بواقعية الأماكن والبيت الدمشقي.
كذلك تحضر صورة مدينة اللاذقية في أعمال حنا مينه. وكان تصويره لعمران أحياء اللاذقية بمثابة وثيقة معمارية، إذ يحمل الحي في رواياته طابع الحي الشامي القديم في اللاذقية؛ هنا يتحول العمران إلى نطاق حميم تخترقه الممرات الإنسانية الضيقة، التي تتخلل مجموعات من الساحات المفعمة بالحركة الإنسانية والجمال الطبيعي.
في الوقت ذاته يحاول مينه أن يرسم المشهد الاجتماعي داخل المدينة، عبر تشريح منازل المدينة، بحيث تعكس طوابقها العليا والسفلى حالة اجتماعية واقتصادية، وكان التقسيم الطبقي للحي ملحوظًا فقط في بيوت السكن، حيث الطوابق العليا للأغنياء والطوابق السفلى والأقبية للفقراء.
وتكتمل صورة العمران الشامي في الرواية لروايات حنا مينه وغادة السمان وخيري الذهبي.
المدينة في الرواية اللبنانية
وما يقال عن مصر والخليج والجزائر، يمكن أن يقال مثله عن لبنان مثلاً، التي نذكر من روايتاها المهمة التي تناولت «بيروت» تحديدًا ثلاثية ربيع جابر «بيروت مدينة العالم 2003» ورواية حنان الشيخ «بريد بيروت 1996» ورواية هدى بركات «حارث المياه 2000» وغيرهم الكثير.
وتبقى مدينة «بيروت» إحدى أكثر المدن العربية استثمارًا من قبل الروائيين، العرب والأجانب، بالنظر للدور التاريخي والثقافي والأدبي الكبير الذي لعبته هذه المدينة؛ هي التي وصفها سمير قيصر، في كتابه المهم «تاريخ بيروت»، بكونها «جمهورية الآداب العربية»، عبر ما قدمته مدينة «بيروت» من إنتاج أدبي عربي، على مستوى كتابة الشعر والنثر والسرد والمسرح، والفن عمومًا، وخصوصًا على مستوى ما لعبه كتابها، من ناحية، ودورياتها ومطابعها ودور النشر فيها ومعارضها، من ناحية ثانية، من أدوار طلائعية في هذا المجال، وأيضًا عبر ما وفرته المدينة من خدمات وإمكانات لافتة للإبداع والتجديد، منذ خمسينيات القرن الماضي، فضلاً عن كونها شكلت، منذ فترة مبكرة، ملجأ مفتوحًا لعديد الأدباء والكتاب العرب والأجانب، وأرضية انطلاقة ناجحة لمعظمهم.
فبقدر ما أولى الروائيون العرب والأجانب مدينة بيروت اهتماما كبيرًا في كتاباتهم الروائية، بقدر ما وفرت لهم بيروت الكثير من الإمكانات للكتابة والنشر، فمنها انطلقت شرارة الرواية العربية باحثة عن اتجاهات روائية جديدة، وكاشفة عن كوكبة جديدة من الروائيين اللبنانيين، وغيرهم، ممن أثروا مدونة الرواية العربية، دون أن ننسى الدور الرائد والممتد لبيروت في احتضان الرواية العربية واللبنانية، ونشرها وتوزيعها على نطاق واسع.
هذا، وارتبطت بيروت، تاريخيًا وتخييليًا، كغيرها من المدن العربية الشهيرة روائيًا، بعدد مهم من الروايات العربية والأجنبية على حد سواء، في انحدارهم من جغرافيات مختلفة، من سوريا ومصر وتونس والعراق والمغرب والكويت والبحرين والسعودية وفرنسا والشيلي والبرتغال وإيطاليا وكندا، وغيرها من الأقطار، بما هي روايات تتخذ من «بيروت» فضاء رئيسًا لها، بأمكنتها الشهيرة، وحكاياتها المتجددة، وأزمنتها الموغلة في التاريخ القديم والحديث والمستشرفة للمستقبل، وفي ارتباطها، أيضًا، بشخوص تنتمي إلى أجيال ومشارب متنوعة، عاكسة بذلك أحداثًا روائية مختلفة، وصراعات وأوجه مشرقة وداكنة، بصورها ومشاهدها المتداخلة والمتناقضة والمتنافرة، إذ أن «بيروت» تعتبر في نظر البعض «مدينة لكل شيء»، حيث تبدو مدينة للموت في بعض الروايات، ومدينة للحياة في روايات أخرى.
فاعلت الروايات المكتوبة بالإسبانية والبرتغالية والإيطالية والإنجليزية مع «بيروت» بأشكال مختلفة. ويكفي أن نشير، هنا، إلى نصوص الروائية الشيلية إيزابيل الليندي، في روايتيها «باولا» و«بلدي المخترع»، وإن تم توظيف «بيروت» فيهما بأشكال متباينة على مستوى كثافة المحكي البيروتي، وانطلاقًا مما خبرته الكاتبة في بيروت من أحداث وما عاشته من وقائع ذاتية، إذ يتم سرد بعض أجواء هذه المدينة، انطلاقًا من طبيعة العلاقة القائمة مع المكان تحديدًا، أي مع «بيروت» الخمسينيات من القرن الماضي، بذكريات المكان، وبتأثيراته النفسية القوية، وبتقاطعاته الاجتماعية والتاريخية…
الأمر نفسه بالنسبة للروائي البرتغالي خوصيه ساراماغو، في روايته «الإنجيل بحسب يسوع المسيح»، والروائي الإيطالي أنطونيو فيراري في روايته «بيروت المجنونة»، والروائي اللبناني- الكندي راوي الحاج، في روايته «لعبة دي نيرو» بالإنجليزية، وفيها يبدأ السرد من بيروت، عبر استيحائه للحرب الأهلية، ولأحداث أخرى موازية، كحادث اغتيال بشير الجميل، ومجزرة صبرا وشاتيلا...
ومن بين أهم الروايات النسائية، التي جعلت من «بيروت» الستينيات ومن أجوائها مسرحًا لها، رواية «أنا أحيا» لليلي بعلبكي، الصادرة عام 1958، والتي اعتبرت من أنجح الروايات اللبنانية لحظة صدورها، مجسدة بذلك حداثة وجرأة وتمردًا على الشكل الروائي الكلاسيكي وعلى القيم السائدة.
وصورت الروايات بيروت بعدة صور كما في رواية «الأنوات المتبخرة للحروب الضائعة» لغسان فواز (بالفرنسية)، و«المدينة المملة» في رواية «الرجل الأخير» لإلياس الديري، و«المدينة الفارغة والموبوءة والفاسدة» في رواية «المدينة الفارغة» لليلى عسيران، و«المدينة الطاحونة» في رواية «طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد، و«المدينة المغرية»، و«المدينة الحجرية»، و«بيروت المتاهة»، و«مجوهرات ساحرة» في رواية «بيروت 75» لغادة السمان، و«المدينة الميتة» في رواية «حبيبتي تنام على سرير من ذهب» لمحمد عيتاني، و«باريس الشرق الأوسط» و«المدينة الرائعة» في رواية «بلدي المخترع» لإيزابيل الليندي، و«المدينة الغريبة»، و«العاصمة التي تحترق» في رواية «قامات الزبد» لإلياس فركوح، و«مدينة الأوهام والإلهام» في رواية «المدينة الملونة» لحليم بركات، و«المدينة المستمرة» في رواية «بيروت المدينة المستمرة» لزاهي وهبي، و«باريس الشرق» في رواية «بيروت بيروت» لصنع الله إبراهيم، كما أنها «المدينة المتوسطية الجميلة» في رواية «حجر الضحك» لهدى بركات، و«كذبة حرية ومجموعة من البالونات الملونة» في رواية «فردوس الجنون» لأحمد يوسف داود، و«مملكة الغرباء» في رواية إلياس خوري بنفس الاسم، و«باريس الصغيرة» في رواية «رسالة بعد الموت» (بالفرنسية) لدومينيك إدي Eddé، و«مدينة المتناقضات» في رواية «في شقتنا خادمة حامل» لعبدالله المدني، و«المدينة المحاصرة» في رواية «بيروت: رسائل من مدينة محاصرة» لعبدالقادر بنعلي، وغيرها من صور هذه المدينة وتجلياتها المتحولة في النصوص التي استوحتها من زوايا مختلفة.
المدينة في الرواية المغربية
في الكتابة الروائية المغربية نجد أن كتابات محمد شكري قد ارتبطت بمدينة طنجة وتألقت كثيرًا من خلالها حتى وإن لم تحمل أي من رواياته السيرية اسم هذه المدينة، واكتفى البعض منها بحمل اسم فضاء معين فيها مثل روايته «السوق الداخلي». كما نجد أن مدينة فاس هي كذلك قد حضرت في بعض الروايات المغربية مثل روايات عبدالكريم غلاب، وفي بعض روايات محمد عز الدين التازي، وروايات محمد برادة، ورواية أحمد المديني التي حملت عنوانًا دالاً عليها بقوة هو «فاس.. لو عادت إليه»، وقل نفس الشيء بخصوص معظم المدن المغربية. وبخصوص مدينة الدار البيضاء فقد حضرت في العديد من الروايات المغربية، لكنها لم تحضر في عناوينها بشكل مباشر سوى في رواية الكاتب المغربي محمد صوف التي حملت عنوان «كازابلانكا» في تناص قوي مع عنوان الفيلم الأمريكي الشهير «كازابلانكا» للمخرج السينمائي العالمي مايكل كورتيز، كما حضر أحد أشهر فضاءاتها الكبيرة «درب السلطان» في ثلاثية روائية حملت اسمه للروائي المغربي مبارك ربيع، وكتب نور الدين محقق روايته «بريد الدار البيضاء» كما كتبت عن مدينة باريس في روايتي «إنها باريس يا عزيزتي» واستحضر من المدن لاسيما مدينة ستراسبورغ وباريس أيضًا في كل من رواية «شمس المتوسط» و«النظر في المرآة».
المدينة في الرواية العراقية
تعيد إنعام كجه جي عبر علاقتها بالمدينة إنتاج كلّ من بغداد، والديوانيّة، والموصل في روايتها «طشّاري»، هذه المدن المتفاوتة في حضورها التاريخيّ، يتتبّع النصّ التاريخ السياسي والحزبي للعراق ودور النساء فيه، عن طريق الدكتورة وردية التي تحكي حياة أسرتها المسيحية.
ويحاول الروائي العراقي سنان أنطون في روايته «فهرس» أن يوثق فيها ذاكرة العراقيين والتغيرات التي اجتاحت مدينة بغداد عقب إسقاط النظام والاحتلال الأمريكي لها، والتضارب في ردود الأفعال إزاء ما حدث، بين مؤيد ومعارض، في داخل العراق وخارجه.
بينما لجأ أحمد سعداوي إلى رسم شخصية «فرانكشتاين في بغداد» (2014) الذي يظهر في المدينة إثر كمية الدماء التي سالت ليُجسد المفهوم التجريدي للرعب.
رواية «خاتون بغداد» لشاكر نوري التي تروي سيرة مس بيل، الشخصية النسائية الإنجليزية، سكرتير المندوب السامي الإنجليزي في العراق، التي لا تزال تثير النقاش في الأوساط العراقية حتى يومنا، وتتباين مواقف العراقيين تجاهها بين القبول والرفض والتحفظ. اقتحمت مس بيل بقوةٍ عوالم المجتمع العراقي المحافظ، وتعددت أدوارها بين العمل الاستخباراتي والسياسي والثقافي، حيث أسّست المكتبة الوطنية العراقية والمتحف العراقي، وأرست دعائم النظام السياسي الملكي في العراق.
ومع ظهور وفعالية التغيير والتحولات في المدينة لدى الروائيين العراقيين، كما هي الحال لدى فؤاد التكرلي، في «المسرات والأوجاع»، وعبد الرحمن مجيد الربيعي في «هناك في فج الريح»، وخضير عبدالأمير في «هذا الجانب من المدينة»، ولطفية الدليمي في «عشاق وفونو غراف وأزمنة»، ومحي الدين زنكنه، في «بحثاً عن مدينة أخرى»، وعلي بدر، في «بابا سارتر»، وسعد محمد رحيم في «ظلال جسد ضفاف الرغبة»، وميسلون هادي: في «العيون السود»، وسنان أنطون في «يا مريم»، وبرهان شاوي، في «مشرحة بغداد»، وهدية حسين، في «ريام وكفى»، ولؤي حمزة عباس في «مدينة الصور»، وإنعام كجه جي في «النبيذة»، وأخيرًا غائب طعمة فرمان، في جميع رواياته.
المدينة في الرواية اليمنية
يعيد أحمد زين بمقاربة مشابهة لباموق، مدينة عدن إلى قلب العالم الروائيّ، وقد عنون روايته أيضًا باسم ميناء «ستيمر بوينت»، ولعلّ صفة الميناء تفصح عن نفسها من خلال حركة القادمين والمسافرين، والعابرين، وكانت نقطة الانطلاق ستينيّات القرن العشرين، حيث حرب اليمن الأهليّة.
ويتخذ الروائي اليمني علي المقري من مدينة عدن في روايته «بخور عدني» مكانًا لأحداث روايته في الفترة بين الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي، تلك الفترة الحافلة بالمتغيرات والصراعات: الحرب العالمية الثانية تطحن بأتون نيرانها الجميع، وعدن تحت الاحتلال البريطاني.
وترصد الرواية فترة صعود الحركات المنادية بالتحرر من الاحتلال البريطاني، وكيف ترافقت مع انقسام البلاد بين الأحزاب السياسية المختلفة التي عملت على إقصاء الآخر، محوّلةً «عدن» إلى مدينة يتفشّى التطرف فيها، ويزداد العنف، مما أفقدها جمالها كمدينة تحتضن الجميع بكل اختلافاتهم، مدينة كانت توصف بأنها «أرض الشمس المشرقة والألوان البراقة».
إذا تتبّعنا حضور المدينة في الرواية العربيّة بشكل عام، التي تنمّ على علاقة الروائيّ العربيّ بمدينته، سنجد خطّين واضحين: رثاء المدينة الكوزموبوليتانيّة، والحنين إلى المدينة المحليّة الضائعة في المنفى.
نشأ روائيّون محظوظون في مدن عربيّة يمكن وسمها بالـكوزموبوليتانيّة، أو الكبيرة، أو الحيويّة، عواصم كانت أو مدنًا مركزيّة، فارتبطت القاهرة روائيًّا بنجيب محفوظ، والإسكندريّة بإبراهيم عبدالمجيد، وحلب بوليد إخلاصي ونهاد سيريس… وثمّة مدن عظيمة لكنّها أقل حظًا على الصعيد الروائيّ من مثل دمشق، التي قاربها كلّ من خيري الذهبي وفوّاز حدّاد، وكذلك بغداد التي انتعشت روائيًّا مع إنعام كجه جي وسنان أنطون، ولعلّ الظروف السياسية والأيديولوجية هي التي لعبت دورًا في توجيه هذا الحظّ، فحصل طمس للتعدّد المشوب برؤية استعماريّة لم تجد فيها الدعوة القوميّة الراديكاليّة سوى مصدر للخطر والعداء الأيديولوجية. ونشأت مؤخّرًا علاقات روائيّة مع مدن من مثل: الرياض وبدرية البشر، ومكّة ورجاء عالم، ونجد شغفًا لدى المتلقّي لمعرفة مثل تلك العلاقات المغيّبة، لكنّنا نشعر أحيانًا بالمعاناة في الحفر الطبقيّ والوصول إلى الخريطة الروائيّة للمدينة عبر النصّ مما قد يسيء إلى المعالجة الفنيّة.
تظهر علاقة الكاتب مع المدينة العربيّة في الكتابات الروائيّة المتأخّرة أكثر نضجًا ممّا كانت عليه قبل تسعينيّات القرن العشرين، إنّها تقاطعات بين رؤية قومية أو وطنيّة تنتمي إلى الصفاء أو الذات، ورؤية كولونيالية تنتمي إلى الآخر، تلك التي تتسم بالموضوعية الظاهرية، على الرغم ممّا فيها أحيانًا من جهل، أو مبالغة، أو أيديولوجيا. تؤكّد تلك النصوص على التعددية الثقافيّة للمدينة في مجتمعات ما بعد الاستعمار، ممّا يشير إلى الرغبة في تدمير واحديّة النسق الاستعماريّ المسيطر، فالتعدّد هنا قوّة اجتماعيّة وثقافيّة، يدلّ على غنى حضاريّ تاريخيّ، تتمسّك به الكولونياليّات في صراعها مع القوّة المسيطرة، التي غالبًا ما تجيء من منطلق تفوّقها الأنثروبولوجيّ الثقافيّ، سواء كان دينيًّا أو عرقيًّا، فيظهر التأكيد على مدينية المدينة العربيّة بوصفه جزءًا من استراتيجية تفكيكية للاستعمار.
تحظى المدن المفتوحة على البحر بامتياز روائيّ مصدره دراميّة الحركة عبر الماء، تمامًا كما يصف باموق إسطنبول، والسفن في البوسفور: «إنّ القدرة على رؤية البوسفور بالنسبة لأهل إسطنبول، ولو عن بعيد، مسألة ذات أهميّة روحانيّة، وربّما يفسّر هذا أنّ النوافذ المطلّة على البحر تشبه المحراب في المسجد، والمذبح في الكنيسة، والهيكل في الكنس». (أورهان باموق، إسطنبول- الذكريات والمدينة). وتزداد أهميّة البوسفور وقت الحرب طبعًا، وتحيلنا هذه العلاقة بينهما إلى العلاقة العضويّة بين طنجة ومحمد شكري.
المصادر:
1 - إبراهيم عادل، المدن العربية في الأدب: نحو تحليل معماري للرواية،
https://www.ida2at.com/arab-cities-in-literature-an-architectural-analysis-of-the-novel/
2 - شهلا العجيلي، الخريطة الروائية للمدينة العربية، مجلة الفيصل، أغسطس 31, 2017، https://www.alfaisalmag.com/?p=6118
3 - د. جمال شحيد، المدينة في الرواية العربية،
https://maamri-ilm2010.yoo7.com/t1509-topic
4 - شاكر النابلسي: جماليات المكان في الرواية العربية. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994.
5 - قادة عقاق: دلالة المدينة في الخطاب الشعري المعاصر. دمشق، اتحاد الكتـّاب العرب، 2001.
6 - عبد الصمد زايد: المكان في الرواية العربية. الصورة والدلالة. تونس، كلية الآداب ـ منوية / دار محمد علي، 2003.
- مختار أبو غالي: المدينة في الشعر العربي المعاصر. الكويت، عالم المعرفة، 1995.
7 - جورج هنري لاري (الرواية والمدينة) مجلة الثقافة الأجنبية، العدد 3 / 1983 ـ ص 8.
المصدر السابق ص 22.
8 - نقلاً عن (الطفل المنبوذ) ميلان كونديرا.. ترجمة رانية خلاّف ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة ط1 / 1998.
9 - تنامي صورة «المدينة» في روايات بيروت، مجلة نزوى، 1 يناير 2014.
10 – نور الدين محقق، الكتابة الروائية وسيرة المدن، صحيفة عكاظ، 9 أكتوبر 2015، https://www.okaz.com.sa/article/1020694
11 - الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
تغريد
اكتب تعليقك