أدب الرسائل وثقافة البوح
خاص - مجلة فكر الثقافية
يُعد أدب المراسلات أحد ألوان الأدب العربي، وهو قديم أرجعه البعض كناصر الدين الأسد وشوقي ضيف إلى أيام الجاهلية. وإذا كان الشعر ديوان العرب، فلم لا يكون النثر ديوانهم - حالياً على الأقل - كونهم تفوقوا في الشعر حينها، والآن يوجد شعر ونثر عربي في الوقت نفسه.
تنبع أهمية المراسلات بين الشخصيات العامة من كونها تلقي الضوء على جوانب مهمة من ظروف وانطباعات الشخصيات التي تكتبها، لذلك يزخر الأدب العربي المعاصر بمراسلات شعراء وأدباء كرسائل شاكر السياب، ومراسلات محمود درويش وسميح القاسم، و«رسائل الحب والحياة» لخليل حاوي و«سيرة شعرية» لغازي القصيبي وغيرهم.
لم يكن هناك اهتمام بأدب الرسائل اهتمامًا كافيًا في العالم العربي، على الرغم من أن هذا النوع قد يكون التعبير الأصدق عن هوية كاتبه. فرسالة كافكا إلى والده شكلت مدخلاً لفهم سوداوية كتاباته وقسوتها، وانطوت رسائل الشاعر ريلكه العشرة «إلى شاعر شاب» على شهادة قيمة حول الإبداع الشعري.
ومن أجمل المراسلات كانت بين الأديب الروسي الشهير مكسيم جوركي، وبين أنطون تشيخوف، الذي استقبل رسائل جوركي بكلِّ اهتمام وصدق، ثم امتدّ بينهما الزمن ليكونا صديقين، يثق أحدهما بالآخر، ولهذا، نجد أنَّ جوركي كتبَ في مراسلاته التي كان يفشي فيها شيئًا من أسرارِ حياته، إذ يقول: «وما تحدثت عن هذه النَّفس إلا لمخلوق أضمر له الحب، إني أطلق على هذا النوع من الحديث اسم «غسل الرُّوح بدموعِ الصمت»، ذلك لأنَّ الكلام ضربٌ من العبث، فالمرء يتكلم كي لا يقول شيئًا، ولن يتفوه المرء بما تبكي منه الروح». قراءة هذه المكاتبات تعرفنا على الفنان أي الإنسان، الإنسان في حالات قوته وضعفه ونضاله ويأسه، وإيمانه وقلقه. وبتعبير جوركي: «ما نحن في الحقيقة إلا غير كائنات جديرة بالشفقة».
وفي الوقت الحالي إنَّ مجرد الانحناء على ورقةٍ بيضاء لكتابة "رسالة" إلى أحدهم، باتَ مشهدًا محذوفًا في مسرحِ حياتنا المتسارعة.. لم تعد تلكَ الصورة قائمة، من يحمل القلمَ ويكتب على الورقِ في دجى الليل، ثم يجيلُ فيها النَّظر مرارًا، قبل الختم باسمه، لتصل زاهية إلى القلبِ المنتظِر!
أما أدب الرسائل عربيًا، فظل محدودًا ونادرًا تكاد تكون مؤلفاته معدودة وقد يكون أشهرها رسائل جبران لمي زيادة. مرد ذلك إلى أن الثقافة العربية تستسيغ الكتمان وتجافي البوح والمكاشفة، علمًا بأن هذه الرسائل قد تشكل «حالة مخَاض، وقد ترسم ملامح أخرى لا يتسع لها النصّ الإبداعي».
وللأسف أيضًا إن ما نشر من رسائل الأدباء يعد ضئيلاً مقارنة بما لم ينشر، لأن تلك الرسائل تحتوي على أسرار لا يجوز إفشاؤها لما يسببه نشرها من حرج لمرسلها علاوة على أن معظم الأدباء يرون أن نشر المؤلفات وتدبيج المقالات أهم من نشر الرسائل التي قد تجلب عليهم بعض المشكلات مع أصدقائهم ولا تعود بالفائدة على القارئ.
وهناك من يطالب بإعدام الرسائل الأدبية باعتبارها «أوراقًا خاصة»، من هذا الفريق وديع فلسطين الذي يقول مذهبي الذي لا أريد أن أغيره أن البريد الأدبي حتى وإن تناول شؤونًا أو شجونًا عامة، فهو في النهاية مكاشفة شخصية بين صديقين لها خصوصيتها الحميمة الذي لا يسعني تجاهها إلا الدعوة إلى طي هذا البريد ودفنه بإكرام.
وهناك من يرى خلاف ذلك مثل نقولا يوسف الذي يقول: «لست من القائلين بإعدام هذه الرسائل باعتبار أنه لم يقصد بها النشر، فهي بعض من آثاره لا يقل قيمة عن ملابسه المحفوظة في المتاحف مثلاً ومازلت أرى في نشر ما لدى من رسائل الأدباء فوائد أدبية للدارسين والنقاد والقراء جميعًا.
أدب الرسائل عند العرب قديمًا:
كانت الكتابة والقراءة أقل شيوعًا عند العرب في الجاهلية لم يكن لفن الرسائل دور في حياتهم الأدبية والاجتماعية في ذلك العصر، وهذا خلافًا للفنون الأخرى كالشعر والخطابة والأمثال التي كانت منتشرة عندهم، ومزدهرة لكن مع مجيء الإسلام تغيرت الحال، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب كان يشجع المسلمين على تعلم القراءة والكتابة وقد اتخذ كتابًا يكتبون له القرآن الكريم، كما يكتبون له الرسائل التي كان يبعث بها إلى زعماء المناطق، ورؤساء القبائل، وملوك الدول كما فعل مع كسرى عظيم الفرس، وقيصر عظيم الروم. ولما كانت الخطابة والشعر قادرين على أداء الدور العلمي الذي تؤديه الرسالة حين تنقل ما يتصل بسياسة الدولة من مراسيم سياسية حول تنظيم الحكم أو توجيهات أو تعليمات إدارية حول الحروب والغزوات، ومن هذا المنطلق التاريخي نافس الكاتب المترسل الشاعر والخطيب. كما شجع الخلفاء الراشدون أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي ـ رضي الله عنهم ـ على تعلم القراءة والكتابة، واتخذوا لهم كتابًا فدوّن القرآن الكريم على مرحلتين، الأولى في عهد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، والثانية في عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فكان القرآن الكريم أول نص عربي اتخذ شكل كتاب. كما دون الحديث النبوي فيما بعد مع بداية العصر العباسي.
وعندما قامت الدولة الإسلامية أنشئ ديوان الرسائل، وهذا الديوان يعنى بشؤون المكاتبات التي تصدر عن الخليفة إلى ولاته، وأمرائه، وقادة جنده، وملوك الدول الأخرى، وقد كان الخليفة في أول الأمر هو الذي يملي الرسائل على كاتبه، ثم بمرور الزمن أخذ الكتاب يستقلون بكتابتها ثم تعرض على الخلفاء، وكان أسلوبها آنذاك تغلب عليه البساطة والوضوح، ويخلو من التأنق والتصنع. لكنه شهد نقلة كبيرة في عهد هشام بن عبدالملك عندما تولى مولاه سالم رئاسة ديوان الرسائل في عهده ثم في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية الذي تولى أمر ديوانه عبدالحميد بن يحي الكاتب، وقد عرف بالبراعة في فن الترسل حتى غدت مكاتباته مضرب المثل في الجودة والإتقان حتى قيل «بدئت الكتابة بعبد الحميد». وبعد قيام دولة بني العباس أخذ أمراؤها يولون كتابة الرسائل عناية أكثر من سابقيهم، ولهذا السبب كثر الكتاب، ونبغ كثير منهم في فن الترسل، وغدا مؤهلاً للوصول إلى منصب الوزارة، ونستحضر في هذا المجال أسماء: يحي بن خالد البرمكي، وابنه جعفر، ومحمد بن عبدالملك الزيات، وأحمد بن يوسف الكاتب، وابن العميد، والصاحب بن عباد، وعبدالعزيز بن يوسف وضياء الدين بن الأثير، وغيرهم. وقد بلغ فن كتابة الرسائل أوجه في القرنين الثالث والرابع الهجريين بحيث يمكن لنا أن نصف هذين القرنين بأنهما يمثلان الفترة الذهبية لهذا الفن.
رسائل أبو حيان التوحيدي
في رسالة قاسية ومؤلمة لمفكر عربي وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة أبو حيان التوحيدي، يشكو بؤسه وفقره وسوء حظه إلى صديقه أبي الوفاء، ويرجوه أن يأخذه إلى مجلس الوزير البويهي أبي عبدالله العارض، فربما يرقّ في نفسه إذا رآه ويعطف على حاله، يقول في رسالته: «خلّصني أيها الرجل، من التكفّف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضُّر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، اكفني مؤونة الغَداء والعَشاء. إلى متى الكُسَيرة اليابسة، والبُقَيْلة الذاوية، والقميص المرقَّع»؟!.
وحدث أن حضر التوحيدي مجلس الوزير سبعًا وثلاثين ليلة جمعها في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» وفي آخر هذا الكتاب تقرأ رسائل للتوحيدي يتوسّل فيها ذلك الوزير ويقبّل التراب تحت قدميه أن يعطف على حاله، ويقول إنه مستعد لأي شيء يفعله من أجل مرضاته، أن يبيع الدين والمروءة، ويتعاطى الرياء والنفاق.. أي شيء لمجرد أن ينتشله بما يلقى من الهوان.
نماذج من القرن الماضي
ومن أشهر الرسائل الأدبية في العصر الحديث، الرسائل المتبادلة بين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وتلميذه محمود أبورية فقد امتدت المراسلة بينهما أكثر من عشرين عاماً، وقد عهد «أبورية» بعد رحيل أستاذه إلى نشر تلك الرسائل في كتاب بعنوان «من رسائل الرافعي» صدرت طبعته الأولى عام 1950، ثم أعيد طبعه عام 1969 بعد أن أعاد ما حذفه في الطبعة الأولى من عبارات جارحة كان قد كتبها الأستاذ الرافعي في بعض حالات ضيقه وتبرمه من الناس والحياة، وقد أحسن «أبورية» صنعاً حينما طبع تلك الرسائل الثمينة في كتاب حفظها من الضياع أو الاندثار فبقيت شاهداً على بلاغة وأسلوب الرافعي الذى أفاض في الحديث عن أسرار حياته وأحوال معيشته ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة.
وهناك كثير من رسائل الأدباء فيها الاستجداء والذل والتسول وفقدان الكرامة. هذا هو الشاعر بدر شاكر السيّاب يكتب رسالة إلى الشاعر اللبناني يوسف الخال يخبره فيها: «إنني في فقر مريع. إنني مفلس. قاتل الله الشعر لأنه لا يشبع من جوع ولا يكسي من عري»!.
ومن رسائل السياب كذلك عندما يرسل قصائده لأستاذه أدونيس لنشرها والتعديل عليها فمن ذلك رسالته في الستينيات يقول فيها: «أرسلت لك بالبريد جريدة الحرية فيها قصيدة جديدة لي بعنوان "نبوءة" بودي لو أمكن نشرها في لبنان، إن كانت تستحق النشر في مجلة (شعر) أو (الآداب) فهل لك أن تحقق ذلك؟ وهناك غلطة مطبعية أرجو تصحيحها ففي البيت التاسع عشر منها جاء: "هل يحيا في البلاد " والصواب "في بغداد".. ثم يختم بقوله: بلغ سلامي للأخ يوسف الخال، وللأخ نذير العظمة، وللأستاذ ماجد فخري، والأستاذة سلمى الجيوسي وللآنسة نازك الملائكة، وللأخ رفيق الدرب رفيق معلوف،..».
وتكتب نازك الملائكة إلى عيسى الناعوري رئيس تحرير مجلة القلم الجديد الأدبية، تشكو بدر شاكر السياب الذي ينسب إلى نفسه أنه مكتشف الشعر الحر (قصيدة التفعيلة) والملائكة ترى أنها أحق بتلك النسبة فهي مكتشفتها من خلال ديوانها (شظايا ورماد) 1949 وقصيدة (الكوليرا) 1947 التي كتبتها تعاطفًا مع الشعب المصري إثر تفشي الكوليرا بين أبنائه، حيث حصدت أرواح الناس بالمئات آنذاك.. وتعيب على السياب أنه في ديوانه (أزهار ذابلة) يدّعي ما ليس له به حق، بينما الاكتشاف يعود إليها قبل صدور ديوانه في أواخر الأربعينيات، وإن كانت تنشر في الصحف والمجلات قبل أن تجمع أشعارها في دواوين فتقول في إحدى رسائلها: «من الممكن طبعًا أن أكتب إلى مجلة الآداب أو الأديب لأعلن رأيي في القضية إلا أنني في الواقع لا أجد شيئًا أتفه ولا أقبح من أن أثير ضجة حول قضية تافهة مثل: من صاحب الحق في الشعر الحر؟ نازك الملائكة أم بدر شاكر السياب؟».
وتصاب بخيبة وأنت تقرأ رسائل الشاعر معروف الرصافي إلى أحد أعيان بغداد مظهر الشاوي، فإنها تختصر مأساة شاعر كان يسكن في دار بائس يجاور المبغى تستعمله «العاهرات» في كثير من الأحيان.. إنه يريد أن يعيش بأية طريقة بعدما بلغت به الحاجة مداها وتنكّر له كل من حوله من الناس، حتى قرر أن يجري الشاوي راتبًا بسيطًا يعين الرصافي على الدنيا.
ومن أكثر الرسائل مرارة كانت رسالة الأستاذ عباس محمود العقاد، التي يتسول فيها من صديقه محمد لطفي جمعة مساعدة من المال، يقول في سطورها:
أبثكم تحياتي وأشواقي. وبعد فأذكر أني سمعت منكم يوم لقيتكم أنكم تسرون بتقديم المساعدة إليّ عند الحاجة إليها، ولقد سمعت هذا الكلام من كثير غيركم، فما خطر لي أني سألجأ يومًا إليهم أو أقول شيئًا عليهم، ولكني فهمت من كلمتكم غير ما فهمت من كلماتهم، وبعثت إليكم بهذا الخطاب لأقول لكم إني في حاجة إلى تلك المساعدة، بل لا أظن أن هناك شيئًا مما يحتاجه الحي في حياته، لست أنا في أشد الحاجة إليه الآن، وكفى بذلك تصريحًا وإيضاحًا.. فإن كانت مساعدتي في وسعكم، فأنا أنتظرها منكم اليوم»!.
وهناك كتاب بعنوان «كتابات نوبة الحراسة» الذي صدر في سنة 2011، للناقد المصري محمّد شعير يضمّ رسائل عبد الحكيم قاسم، الروائي الذي رحل عن خمسة وخمسين عامًا سنة 1990، صاحب «أيام الإنسان السبعة»، الذي يُعدّ من أبرز أدباء جيل ستينيات القرن العشرين الفائت في مصر، وكان كتبها أثناء فترة اغترابه في ألمانيا خلال السنوات 1974 ـ 1985. فقد سافر قاسم إلى ألمانيا سنة 1974 للمشاركة في ندوة أدبية، لكنه بقي فيها إحدى عشرة سنة عاشها في برلين، وشرع في الإعداد لأطروحة دكتوراه عن الأدب المصري، وأساساً عن «جيل الستينيات» المتمرد على قواعد الكتابة الكلاسيكية وعلى دور «الآباء»، أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، لكن سرعان ما أخذته مشاغل الحياة في برلين وظل يلهث وراء لقمة العيش إلى أن عاد إلى مصر خالي الوفاض سنة 1985.
إن إحدى سمات تلك الرسائل تتمثل باختلاط العامّ بالخاص في نطاق كتابة متحرّرة تبدأ من الأمور الشخصية ولا تقفز عن الحديث حول الهم العام.
وللنمذجة على ذلك تحديدًا، نشير إلى أنه في إحدى الرسائل التي كتبت بالتزامن مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت (1982)، كتب عبدالحكيم قاسم: «إنني الآن أدرك كيف أنني عشت العمر كلّه أواجه في وطني قهرًا حقيقيًا وإذلالاً حقيقيًا، وأعيش مع ناسي مقاومة غير جادة، وثورة مغشوشة، وحماسة مدخولة. العمر كلّه أمشي في تظاهرات، وأحضر اجتماعات، وأسمع خطابات.. تلك نهاية جيلنا، جيل فشل نهائيًا، وعلى كلّ المستويات، وبعد الانتصار الإسرائيلي، سيكون على نطاق العالم وضعٌ شاذ مؤدّاه إذلال أمّة كاملة في كلّ مكان».
ومن أدب المراسلات مراسلات محمّد برادة مع محمّد شكري.
ومعروف أن هذا الأخير أوقف نصَّه على هتك ستائر وأحجبة عن أدب البوح، جاعلاً إيَّاه يحلّق في فضاءات لم تكن مألوفة في الأدب العربي المعاصر.
وقد صدرت هذه المراسلات في كتاب حمل عنوان "ورد ورماد" سنة 2000، بموازة صدور كتاب جديد لشكري، بعنوان "وجوه" يشكّل، حسب قوله، الجزء الثالث من سيرته الذاتية، "لكنه مكتوب بطريقتي الخاصة ولا يخضع للطريقة التقليدية ولا لتقنيات كتابة السيرة الذاتية المتبعة لدى الآخرين، فكتابتي تتخللها اليوميات والصور الدقيقة، وهي لا تعتمد على بطل محدّد بل تركّز على وجوه مستقلة، كل واحد قد لا يلتقي بالوجه الآخر، وهي وجوه مغربية أو أجنبية". ضمّ "ورد ورماد" رسائل متبادلة بين برادة وشكري في الفترة ما بين 1975 و1994.
وفي "إشارة" تصدير هذه الرسائل، كتب برادة في ما كتب: «... أظنّ أن كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمية، نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع. وللأسف أن تقاليدنا في المراسلات بين الأصدقاء المبدعين قليلة إن لم تكن منعدمة. ومن ثم وجدت، ومعي الصديق شكري، أن نشر هذه الرسائل قد تكون مضيئة لبعض التفاصيل التي التقطتها الرسائل وهي في حالة مخَاض، وقد ترسم ملامح أخرى لا يتسع لها النصّ الإبداعي".
لكن مهما تكن الملامح التي يقول بها برادة، فإننا نقرأ في إحدى رسائل شكري المقولة التالية: "من لم ينغمس في دم الحياة، لا يحقّ له أن يتكلم عن الجرح».
ومع تطور الطباعة وتطور البريد كان له دور كبير في رواج هذا الشكل الأدبي، فظهرت في الساحة الثقافية العربية أعمال تنتمي بشكل حصري إلى أدب الرسائل، وكان نصيب الشهرة الأكبر للرسائل الثنائية بين الأدباء سواء امرأة ورجل، مثل: رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، في كتاب «الشعلة الزرقاء»، وهي رسائل غرامية تعلوها مسحة ثقافية، ورسائل بين الناقد أنور المعداوي والشاعرة فدوى طوقان التي بلغت 17 رسالة.
في كتاب «رسائل زمن الحماقات الجميل»، كما أسمتها الأديبة السورية غادة السمان، حطت هذه المرة عند الشاعر اللبناني الراحل انسي الحاج. فبعد ربع قرن على نشر السمان رسائل الكاتب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني لها، أعادت نشر رسائل صاحب «الرأس المقطوع» التي كان قد أرسلها لها في العام 1963. كما في المرة الأولى، انشغل الوسط الثقافي العربي نقاشًا وسجالات بين مؤيد ومعترض على نشر الرسائل. في المرة الأولى لأنها انزلت كنفاني من صورة المناضل الذي تحول رمزًا بعد استشهاده في 1972. وفي المرة الثانية لأنها استخدمت رسائل الحاج لتعود بها إلى الضوء بعد احتجابها أدبيًا، ما خلا بضع مقالات صحافية. والحق أن الرسائل لا تكشف عن شيء ولا تضيف شيئًا إلى كتابات انسي الحاج المعروفة.
ويعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسلة عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار، لقد فتح جبران فتحًا جديدًا ورائعًا في دنيا الأدب العربي عندما تحول من التأليف بالعربية للتأليف بالإنجليزية، وقصته مع «مي زيادة» مثال رائع للحب الفريد في تاريخ الأدب وسير العشاق، ومثال للحب النادر المتجرد من كل ما هو سطحي ومادى، لقد دامت هذه العاطفة بينهما زهاء عشرين عامًا دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح والخيال الضبابي فكان جبران في مغارب الأرض مقيمًا، وكانت مي في القاهرة، لم يكن حب جبران وليد نظرة فابتسامة فسلام فكلام، بل كان حبًا نشأ ونما عبر مراسلة أدبية طريفة ومساجلات فكرية روحية ألفت بين قلبين وحيدين وروحين مغتربين ومع ذلك كان أقرب قريبين وأشغف حبيبين. فمن إحدى الرسائل المتبادلة بينهما رسالة مي لجبران.
رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد
في عام 2018 قام الإعلامي سمير حداد، أخ الأديبة الأردنية ثريا حداد التي رحلت عام 1996، والتي عملت أستاذة اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة جونز هوبكنز، بنشر 30 رسالة، كانت قد كتبتها الشاعرة فدوى طوقان لأخته ثريا حداد بين الأعوام 1977 و1996 (طباق للنشر والتوزيع – رام الله)، وقد حرر هذه الرسائل وقدّم لها الشاعر المغربي عبداللطيف الوراري. هذه الرسائل التي لا تحمل ردود ثريا حداد، هي مرايا عاكسة لمزاج فدوى طوقان، ولأسرارها الدفينة وتجربتها العاطفية غير المُثمرة والحزينة، فهي أحيانًا غاضبة وأخرى عاتبة. كما تُفضي فدوى طوقان، في رسائلها عن غُربتها في الوطن، وعن معاناتها في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وعن الحصار الثقافي والقطيعة مع العالم العربي، ومنع وصول الكتب إليها، وعن عيشها في جو العائلة وتعلقها بأختها المريضة، وعن إقامتها في لندن بين عامَي 1962- 1963. تتحدث فدوى في الرسالة الأولى المؤرخة في 2/9/1977 والمُعَنْوَنَة من قبل المُحَرر بـ«نفثات حُب جريح»، عن زيارة ثُريا حداد لها عام 1961 بصفتها رئيسة رابطة راهبات الوردية في عمان، التي تعرفَت إلى فدوى بعد أن استضافتها في أمسية شعرية في عمان. لكن مُعظم الرسالة بَوْحٌ عن تجربة حب فاشل بينها وبين أخ ثريا المذيع في قناة الجزيرة الإعلامي سامي حداد، الذي توفي في يناير 2021. فتقول فيها «هل حدثك سامي عن الصمت الجليدي الذي اكتنف صداقتنا الحميمة؟ إن الصمت لغة الغرباء، فهل قال لك إننا أصبحنا غُرباء؟ في قلبي أشياء، وفي نفسي أشياء وفي عقلي أشياء، ولكنني أصمت وأنكفئ على نفسي، لأن ما أريد قَوله لا يُقال إلا في جلسة أكون معك خلالها وجْها لوجه، وليس عبر هذه المُحيطات التي تفصلنا». وتكتب في هذه الرسالة باللغة الإنكليزية أن سامي خذلها Sami has let me down .
وفي رسالة أخرى من تاريخ 8/12/1977 تكتب فدوى «ولن يهون عليّ (سامي) أبدًا. وإذا كان لا بد من أن ينتهي كل شيء في هذه الحياة فليس من المحتوم أن يتم ذلك في جو مشحون بالمرارة وسوء الظن. سيظل سامي صديقًا حبيبًا مهما باعدت بيننا المسافات والحواجز التي تقيمها الكبرياء والمُكابرة». وفي رسالة أخرى بتاريخ 14/6/1980 تبوح فدوى بخلجات قلبها تجاهه «سُعدتُ هذا الصيف بسامي كما لم أسعد من قبل. وعرفته كما لم أعرفه من قبل. سامي الحقيقة، وليس فقط سامي خيالي ورؤياي. إنهُ حقيقةٌ جميلةٌ يُختصر فيه كل الجمال الذي في هذا العالم. كَم هو حبيبٌ إلى قلبي وروحي». وفي الرسائل قصيدة بعنوان «سلامٌ من نسيم التيمز» كتبتها فدوى عام 1980 أثناء وجودها في لندن، جاء فيها: «سلامٌ من نسيم «التيمز» أنْدَى/ وشَوْقٌ يا ثُريا ليس يهْدا/ هُنا فَدْوى، هنا سامي المُفدى/ صَفا لهما اللقاءُ وطابَ وِرْدا».
مرسلات عبدالرحمن منيف ومروان قصاب باشي
الأديب عبدالرحمن منيف والرسام مروان قصاب باشي التقيا لأول مرة عام 1956م ثم مرة أخرى بعد 34 عاما في سنة 1990م فنشأت بينهما صداقة تعلقت بحبال «الرسائل» و«الأدب» و«الفن» فخلفت إرثًا في أدب الصداقة.
«في أدب الصداقة» كتاب يجمع صداقة الأديب عبدالرحمن منيف والرسام مروان قصاب باشي بحوالي 140 رسالة متبادلة بينهما كانت تقطع مسافات طويلة بين دمشق وبرلين.
استمرت رسائل الصداقة بينهما نحو 14 عامًا، بذات الطريقة التقليدية التي بدأت بها، يكتبان الرسائل بخطهما فتجد على أطراف الورق كواليس الحياة الخاصة بهما بكل تعرجاتها وأخطائها وعثراتها، ورغم تطور التقنية وظهور وسائل التواصل كالفاكس والبريد الإلكتروني ووجد الهاتف إلا أنهما أصرا على مواصلة كتابة الرسائل اليدوية لبعضهما وإرسالها بالطرق التقليدية كالبريد أو مع بعض المسافرين من الأقارب والأصدقاء، ولم يمنعهما تواصلهما أحيانًا بالهاتف من مواصلة أدب الرسائل، حتى بقيت إرثًا أدبيًا جمع في كتاب حمل صورًا من رسائلهم بشكلها الحقيقي دون تجميل أو تهذيب.
كادت تلك الرسائل أن تحول الأديب عبدالرحمن منيف إلى رسام، وأن تحول الرسام مروان قصاب إلى أديب، فقد كانا يتبادلان الأدوار أحيانًا في رسائلهما، وحوت الرسائل على مخطوطات أعمال عبدالرحمن منيف الروائية كما حوت لوحات فنية رسمها مروان قصاب، لتبادل المشورة والاستنارة برأي الصديق.
وأسفرت بعض تلك الرسائل عن كتاب ألفه عبدالرحمن منيف عن صديقه الرسام بعنوان «مروان قصاب باشي.. رحلة الفن والحياة» بعدما حاوره حوارًا عميقًا عن سيرته وعن فنه وسط تلك الرسائل.
رحل عبدالرحمن منيف في 24 يناير 2004 وتبعه مروان قصاب باشي في 23 أكتوبر 2016 وبقيت رسائلهم توثق صداقة مرت عبر الأدب والفن والرسائل، ورغم أنها لم تكتب بقصد النشر إلا أنها نشرت بعد وفاة منيف.
تغريد
اكتب تعليقك