الشوفينية المصريةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 12:33:55

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد

بالعودة إلى التاريخ العربي، لا نجد انفصالاً بين الأقاليم العربية يجعل كل واحد منها مستقلاً عن الآخر، بالرغم من وجود بعض الانفصالات في بناء الدولة عن الدولة المركزية في العراق، فالقوميات في تلك الأزمان لم تكن مصرية وعراقية وسورية ومغربية، وإنما كانت قومية واحدة يتداخل فيها المكون الديني بالعرقي بالجغرافي.

وليس من الممكن التتبع لهذه الحالة القومية للبلاد العربية منذ القرن الرابع عشر حين ظهرت الدولة العثمانية أو -ربما- قبله بقليل، غير أن المعلوم أن الدعوات القومية الأوربية في القرن الثامن عشر كان لها انعكاس على الحالة القومية في البلاد العربية، وإن كان هذا الأثر لم يظهر إلا بالقرن التاسع عشر.

وقد بدا هذا الأمر في حالة الدراسة بين أيدينا، وهي مصر، عندما تميزت في نمط الحكم عن سواها من البلاد العربية، إذ تولى حكمها ملك مستقل بملكه، وهو محمد علي، وإن كان يعلن التبعية للباب العالي، -وهو كما قلت- ما منحها استقرارًا واستقلالاً عن الأقاليم العربية وجعلها تمارس هذا الحالة بعلاقاتها الخارجية سواء مع الأقاليم العربية الأخرى أو الباب العالي أو الدول الأوربية، وإن كانت محاولته مد نفوذه إلى الحجاز والشام تؤكد الصلة الآنفة الذكر.

ويمكن القول أيضًا إن البلاد الأوربية المستعمرة بتعاملها مع كل إقليم على حدة قد عززت هذه النزعة الانفصالية لكل إقليم عن الآخر، والاستقلال بنفسه عما كانت عليه حاله سواء تحت حكم الأمويين أو العباسيين وربما أيضًا السلاجقة.

لكن الدارسين يؤكدون على أن الشعور القومي المصري الحقيقي إنما بدأت شرارته من خلال حركة مقاومة الانتداب الإنجليزي على مصر خاصة بعد حادثة عرابي التي يعود إليها الفضل -إن صح التعبير- في تبلور قضية يجتمع حولها الدعاة والمصلحون ويتخذونها غاية ينذرون لها أنفسهم، ويوجهون إليها جهودهم. هي في هذه الحالة "مصر"، والتي ينسب إليها الفرد بـ"مصري"، دون أن يكون هناك مفهوم محدد سواء لمصر (الوطن) أو ما يكون عليه من ينسب إليها.

وهو ما نستطيع أن نجد ملامحه في خطب تلك الحقبة (آخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين)، التي تتحدث عن الاستقلال أو الصراع مع الإنجليز بوصفه عماد الحركة الوطنية. كما في بعض المقطوعات التي يتحدث فيها رواد الحركة الوطنية عن مصر حديثًا رومانسيًا كحديث مصطفى كامل في حب مصر:

"هل يستطيع مصري أن يتهور في حب مصر؟ مهما أحبها فلا يبلغ الدرجة التي يدعو إليها جمالها وجلالها وتاريخها والعظمة اللائقة بها، ألا أيها اللائمون انظروها وتأملوها وطوفوها، واقرأوا صحف ماضيها، واسألوا الزائرين لها من أطراف الأرض، هل خلق الله وطنًا أعلى مقامًا، وأسمى شأنًا، وأجمل طبيعة، وأجل آثارًا، وأغنى تربة، وأصفى سماء، وأعذب ماء، وأدعى للحب والشغف من هذا الوطن العزيز؟ أسألوا العالم كل يجيبكم بصوت واحد إن مصر جنة الدنيا، وإن شعباً يسكنها ويتوارثها لأكرم الشعوب" (مصطفى كامل، ص425).

وهي لا تعدو أن تكون قطعة إنشائية يراد منها تأجيج العواطف وإثارة الحماسة تجاه بلدهم، تذكرنا بالمرحلة التي نشأت فيها القوميات الأوربية وهو عينها الحقبة الرومانسية، ما يعني -بالتأكيد- أن المشاعر الوطنية هي مشاعر رومانسية بالمقام الأول.

يمكن القول إن فكرة استقلال مصر عن البلاد العربية أو الخلافة الإسلامية أصبحت فكرة مألوفة لدى النخب المصرية في أوائل القرن العشرين، وكان السؤال الملح في تلك الحقبة هو سؤال الهوية عن مصر وعن حقيقتها.

فذهب بعضهم إلى الجامعة الإسلامية تحت مظلة حكم آل عثمان، وذهب آخرون إلى القول بالفرعونية القديمة، في حين رأت فئة منهم أن تكون مصر المعاصرة لا عربية إسلامية ولا فرعونية قديمة وإنما هي قطعة من أوربا، مما امتلأت به صفحات تاريخ الأدب، ويعزز استقلال مصر عن الأقاليم العربية.

وأما القول بعروبة مصر، فقد ذكر عدد من الدراسات أن الحديث عن العرب والعروبة لم يظهر في الأوساط السياسية المصرية إلا في العقد الثالث من القرن العشرين في حين كانت الثورة العربية الكبرى في الحجاز قد بلغت ذروتها في العقد الثاني منه.

وهذا يجعلنا ندرك أنها كانت متأثرة بما يدوربالحجاز خاصة إذا علمنا أنها تنسب إلى عزيز المصري الذي أسس جمعية العهد، وهي جمعية تعنى بالضباط العرب في الجيش العثماني، وكان متأثرًا بحركة الشريف حسين.

بل إن هذه المساهمة على وجه الحقيقة لا تعد شيئًا لأن عزيز المصري كان يعمل تحت إمارة الحجاز، ولذا فإن البداية الحقيقة للدعوات بدأت في العقد الرابع، حين كان عدد من الأحزاب المصرية قد تبنى الدعوة إلى الوحدة العربية، وفي هذه الأثناء كان طالب المرحلة الثانوية جمال عبدالناصر يهتف في المظاهرات مع الوحدة العربية.

ونستطيع أن نقول مع مارلين نصر بأن هذا هو الذي ألهم الرئيس عبد الناصر -فيما بعد- دوائره الثلاث في واجبات مصر. مما يبين مقدار التحول الذي صارت إليه رؤية أبناء مصر إلى مصر؛ من أن تكون جزءًا من العالم العربي والخلافة الإسلامية ثم تصبح كيانًا مستقلاً لا صلة له بالعالم العربي ثم تصبح مصدر الفعل في العالم العربي ومركز القرار.

والذي يؤكد النتيجة التي صارت إليها هذه المراحل أن حزب "مصر الفتاة" حين تحول إلى "الحزب الوطني الإسلامي" "شدد على كون مصر زعيمة الكتلة العربية" (التصور القومي العربي في فكر جمال عبدالناصر، ص81).

ومع أن الأمر المهم أن هذه الدعوات إلى القومية العربية قد آتت أكلها، فأصبحت هي المعتمدة في تحديد الهوية المصرية، فإنه يمكن القول بأن "الناصرية" مثلت أوج ازدهار الدعوات إلى القومية العربية في مصر، فهي الحركة التي قامت على حركات النضال الوطني قبل الثورة باختلافها ثم تحددت في مكونين اثنين القومية العربية والاشتراكية.

وغير خاف أن "الناصرية" مشتقة من اسم عبدالناصر، والسؤال المطروح هو ما هي "الناصرية" على وجه الدقة، وما علاقتها بـ"المصرية"، أو يمكن صياغة السؤال بصورة أخرى، إذا كانت مشتقة من اسم عبدالناصر الذي هو رأس هرم السلطة في مصر، فهل تعني شيئًا آخر غير "المصرية"؟

 ومع أنها اعتمدت على القومية العربية كمكون رئيسي، فقد اعتمدت في الوقت نفسه الاشتراكية الاجتماعية بوصفها الإيديولوجيا التي تؤمن بها القومية العربية، وتتميز عن غيرها من الاتجاهات التي تدعو إلى القومية العربية وإن لم تقدم نموذجاً تفصيليًا للبناء الاجتماعي الذي تمثله الوحدة.

لكننا حين نعود إلى بعض التفصيلات حول ما ينبغي أن تكون "الناصرية "عليه في البعد الاجتماعي، نجدها تقوم على المحددات التالية: (ثورة اجتماعية وطنية، إصلاح زراعي، مجتمع اشتراكي ديمقراطي تعاوني حر)، وهي الإجراءات التي قامت بها الحكومة المصرية، ما يعني أن القومية العربية والوحدة التي تقوم عليها هي نوع من تعميم النموذج المصري، وهو ما أكدت عليه نصر حين تنص على أن "معظم المفردات القومية العربية في الخطاب الناصري...تنحدر من أساس وطني مصري، كأنها انبثقت عن المفردات الوطنية باتساع نطاق هذه الأخيرة حتى أصبحت تشمل كل الحقل العربي". (ص116)، أو حين تقول في موضع آخر: "إن هذا الجهد التنظيري قد تم انطلاقًا من الواقع السياسي والاجتماعي المصري" (ص233).

أو يمكن إعادة صياغة الفكرة بصورة أخرى هي أن "الناصرية" تجربة في الحكم تطبق في مصر أولاً ثم تعمم على سائر الأقاليم العربية المنضوية تحت الوحدة. أي أن الوحدة العربية القائمة على القومية المتمثلة بـ"الناصرية" هي نوع من تعميم النموذج المصري على سائر الأقاليم العربية بوصفه النموذج الأسمى الذي يمكن أن يصير إليه العالم العربي.

وفي هذه الحالة نستطيع أن نقول إن الفرق بين "القومية المصرية" و"القومية العربية"، والنضال "القومي" و"المصري"، و"العربي" هو فرق في هذه الأسماء، وأن التحول في استعمال هذه المفردات في الخطاب الناصري -كما تذكر نصر،( ص115)- لا يعني تحولاً في المفاهيم فالتبدل بالأسماء لا يعني بالضرورة تبدلأً بالمسمى خاصة إذا أدركنا أن هذه المصطلحات تتبدل بناء على تبدل المصلحة المصرية (انظر: نصر، ص229).

وإذا ما عدنا إلى الوحدة العربية التي بين سوريا ومصر، وبحثنا في أسباب الانفصال نجد المؤرخين يعدون منها الإجراءات التعسفية التي قام بها السراج رئيس الحكومة السورية التابعة لعبدالناصر والمتمثلة ببناء أجهزة قمعية وقهرية فرضت سيطرتها بصورة بوليسية عاتية لم يعرفها السوريون من قبل، فلم تكن الأجهزة المصرية المسئولة عن الشئون العربية سوى أجهزة مخابرات. (حركة القوميين العرب، ص، 119، 151)، بالإضافة إلى تأميم البنوك والمعامل والشركات الصناعية الكبرى على النموذج المصري وما صاحبه من القول بطمع المصريين بثروات سوريا (نصر، ص221)، وانتقال عدد كبير من العمال المصريين إلى سوريا ومزاحمتهم السوريين في أعمالهم.

ومن خلال النظر إلى هذه الأسباب نجد تقديمًا للنموذج المصري على النموذج السوري، بالرغم أن النموذج السوري الأصلي كان مؤيدًا "للقومية العربية" و"الوحدة العربية" أيضًا، لكنه لم يكن مناسبًا للحالة المصرية سواء من الناحية الأمنية أو من الناحية الاقتصادية، كما نجد تفضيلاً للعمالة المصرية على السورية في سوريا نفسها الأمر الذي جعل السوريين يتذمرون من ذلك، وهو ما لم يكن لولا أنهم مدعومون بقوة حكومة المتحدة.

ويمكن القول في تبرير سلوك "الناصرية" والحكومة الموالية لها بأن الحالة السورية لم تكن تسير على نمط القوى التقدمية والمجتمعات الثورية، وإنما هي لا تزال تتسم بالرجعية، وترزح تحت قوى التخلف والإقطاع.

وهذا جزء من المشكلة، فالنموذج المصري يوصف بأنه ثوري وتقدمي ووطني في حين توصف النماذج الأخرى بنعوت الرجعية والتخلف والإقطاع، وتشحذ همم الشعوب العربية لمحاربتها والثورة عليها لصالح النموذج المصري.

ولا شك أن هذه الرؤية هي رؤية شوفينية في المقام الأول، تحل المصريين محل الصدارة، وتمنحهم الحق في التصرف في شئون البلاد العربية الأخرى تحت اسم محاربة الرجعية، أو نشر قيم "الناصرية"، أو بعث "القومية" وتحقيق "الوحدة" وحماية مصالح "الأمة العربية"، في الوقت الذي تطالب فيه في مصر بالعدل والمساواة. فأين المساواة في فكر يرى صلاحية النموذج المصري وتفضيله على ما سواه من نماذج ووجوب تعميمه بقوة السلاح؟ إنه يؤمن بوجود نمطين من الشعوب العربية: شعب ينبغي له العدل والمساواة، وشعوب أخرى درجة ثانية تصاغ على مقدار حاجات الشعب الأول ووفق أهوائه ومتطلباته.

والأمر المؤلم أن هذه الرؤية التي نظرت لها "الناصرية" ومنحتها شرعية الوجود، وجعلتها حقيقة واقعة، ليست رؤية تاريخية، أو نتيجة لمعطيات تاريخية معينة زالت بزوال أسبابها، وإنما تجد ملامحها في الفكر المعاصر كما يبدو في مقالة عبدالرزاق توفيق بعنوان: (الأشجار المثمرة وحجارة اللئام والأنذال) الذي لم يتورع فيها عن وصف الآخرين العرب بـ"الحفاة العراة"، و"اللئام الأنذال"، و"محدثي النعمة"، و"التوافه"، و"دويلات"، "أبواق"، "أقزام"، "مرتزقة"، "فراغ" في مقابل إسباغ النعوت المفخمة والمبجلة للمصريين من أمثال: "مصر زينة الدنيا وأم الدنيا"، أسيادهم"، "هي الشموخ والعزة والكرامة، والأصل والحضارة".

كما نجد في المقالة من مثل قوله: "مصر هي حجر الزاوية في المنطقة..صاحبة الدور المحوري الذي يشكل وجود وبقاء الأمة العربية، وحتى يعرف اللئام والأقزام أن مصيرهم مرهون ببقاء ووجود مصر العظيمة..ولن نتحدث عن الماضي البعيد الضارب في جذور التاريخ من عظمة وثقل وحضارة مصر وفضلها على الجميع".

والمقال أجمع يكاد يكون قطعة إنشائية تعيدنا إلى القطعة المنقولة من حديث مصطفى كامل في مطلع المقال، والتي نعتناها بالحديث الرومانسي. وهو ما يعني أن تلك المشاعر الطفولية الأولى لم تتبدل في الفكر المصري الحديث بالرغم من النضج العلمي -كما أظن- والتطور الذي يفترض أن تكون قد مرت به الشخصية المصرية، وأن هذه المعاني الشوفينية تظهر مرة مظهرًا رومانسيًا كما في حديث مصطفي كامل وتظهر أخرى بصورة نظرية سياسية تقدم رؤية لحكم البلاد العربية، وأخرى في مقالة تزعم أنها تدافع عن حق مصر في الوجود تجمع بين الرومانسية والسباب.


عدد القراء: 2300

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-