العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

المثقف المنسحب؟!

كنت أقول دومًا أن المثقف إن لم يكن جزءً من الحل فهو جزء من المشكلة! بحيث كلما حدث هناك طارئ أو وقعت حادثة أو حصلت أزمة شائكة إلا وتوجهت أسماع الناس وعقولهم لما يقوله المثقفون تعليقًا أو تحليلاً حول هذه الأزمة أو الحادثة، على أساس أنهم الفئة المستنيرة والعالمة في المجتمع. في حين أن السياسي أو الخطاب السياسي هو جزء من هذه الإشكالية التي تتطلب الاستيضاح والاستفهام.

إلا أن ما يوقع من اشكال في هذا السياق هو تحديد مفهوم المثقف أو تبيان نوع هذه الطبقة محل الأنظار والانتباه. عادة ما يرتبط مفهوم هذه الفئة لدى العامة بالعلم والتعلم. وهذا التصور في الحقيقة ليس بالبعيد عما ذهب إليه المختصون والمفكرون لولا أنه يعيب عليه العموم وعدم التدقيق، حيث يعرف عالم الاجتماع السياسي الأمريكي «سيمون مارتن ليبست» (1922- 2006) المثقف قائلاً: «إنني سوف أعرف المثقفين بصورة مستقلة عن انتماءاتهم أو ارتباطاتهم الاجتماعية ومنفصلة عن نزعاتهم السياسية. فالمثقفون هم هؤلاء الشخاص الذين يمكن أن ننظر إليهم ـ مهنيًا ـ باعتبارهم تلك الفئة المستغرقة في انتاج الأفكار: كالباحثين، والفنانين والصحفيين، والعلماء…الخ، وكما هو الحال أيضًا بالنسبة للطلاب الملتحقين بمعاهد ما بعد الثانوية، الذين يعدون نواة لهذه المهنية».

إلا أن هذه الفئة على درجات ومستويات وأنواع مختلفة ومتباينة، كما أنها تعرف نوعًا من العزلة أو الاغتراب عن الذات وعن المجتمع. وهذا اللون من الاغتراب يختلف من ثقافة لأخرى ومن مجتمع لأخر. ففي حين يرى عالم الاجتماع المعاصر، الأمريكي «ألفين وارد جولدنر» سبب هذا الاغتراب راجع إلى وقوع هؤلاء المثقفين في دائرة الثقافة الخاصة بالأسلوب النقدي (Gri tical)، ووقوع بعض العوائق حائلاً دون تحقيق غرض أعلى للحراك الاجتماعي لهؤلاء المثقفين. يرى الباحث المصري في علم الاجتماع «عاطف أحمد فؤاد» بأن السبب راجع «إلى ما يمكن تسميته بأزمة المثقف في علاقته بالسلطة». وإن كان يخص بهذا القول المثقف المصري إلا أننا نراه ينطبق على جميع المثقفين العرب ودول العالم الثالث عمومًا. وكما يرى الدكتور عاطف أحمد فؤاد بأن هذه الأزمة قد انبثقت عن وجهين: وجه إيجابي ووجه سلبي. أما الوجه الإيجابي فيتمثل في المثقف ذو النزعة الثورية وصاحب الموقف المعارض لنظام الحكم. في حين يمثل الوجه السلبي المثقف المرتزق التابع للسلطة. وهنا يمكن إضافة لهذا الوجه السلبي للمثقف نوع آخر وهو (المثقف الاجتماعي) أو (المثقف المنسحب) المتقوقع على ذاته المنزوي في دائرته، أو المثقف النرجسي المتعالي. فكل هؤلاء المثقفين اللإجتماعيين يدخلون في دائرة الوجه السلبي للمثقف. وإن حاولوا اقناع أنفسهم بغير ذلك. فالخطاب مهما كان نوعه أولونه فلن يكون له وجود أو معنى إن لم يوجه إلى واجد له يفك رموزه ويعطي معنى لدلالاته.

المثقف المنسحب والسلطة:

ولأجل ما سبق ذكره فإن الأنظمة الحاكمة تحرص دومًا على إيجاد هذا اللون من المثقفين المرتزقين التابعين للسلطة المتصيدين للمناصب واللاهثين وراء المصالح، كما تعمل على خلق جو غير موائم يشجع على إيجاد هذا النوع من المثقفين المنسحبين، اللاجتماعيين، أو النرجسيين المتعاليين. ولذلك فإن التصور الذي تحمله الأنظمة الحاكمة للمثقف كما يقول الاستاد عاطف يكمن في «الدور الذي يجب أن يلعبه المثقف في المجتمع، لا كما ينبغي أن يكون عليه هذا الدور». وبمفهوم أكثر وضوحا، أن السلطة تريد من المثقف أن يترجم إرادتها وتقبل ما هو كائن، لا في أن يعبر عن سلطة المثقف وما يجب أن يكون عليه الوضع.

ولهذا السبب فقد وجد التيار اليساري في منتصف القرن الماضي نفوذه وسطوته حينما رفع مصطلح الانتلجنسيا ( (Intelligentsiaالذي «استخدمه الأوربيون الشرقيون والذي يشير إلى أولئك المفكرين الذين يعنون أساسًا بنقد السلطة القائمة، ويلعبون أدوارًا رئيسية في الحركات الثورية». ولقد كان هذا الأمر فعالًا وناجعًا في الدول الأوربية، وأمريكا الجنوبية وغيرها، إلا أنه لم يكن غير مجرد ارجاع صدى وتقليد من قبل المثقفين العرب لأن الأنظمة العربية بالأساس في تلك المرحلة قد تبنت في أغلبها النظام الاشتراكي وأخذت بالتوجه اليساري مما جعل توجه المثقفين إليه مجرد تعبير عن إرادة السلطة السياسية مرة أخرى، هذا من ناحية، كما أن الأيديولوجية الأصلية العربية الإسلامية فيها الكثير من الجوانب الاجتماعية ومظاهر التكافل الاجتماعي، وهذا ما عبر عنه أمير الشعراء «أحمد شوقي في رائعته» ولد الهدي في مدح الرسول الكريم بقوله:

«الاشتراكيون أنت إمامهم

لولا دعاوي القوم والغلواء»

أي أن التيار اليساري والنظام الاشتراكي في سياقاته الإيجابية لم يأتي بجديد بالنسبة للعالم العربي الإسلامي، إلا ما ادعى فيه من إباحية ونزع الملكية وقمح للحريات، وهذا هذا ما أدى بالأساس إلى فشله وانهياره.

في حين أن المبدأ والهدف الأساسي للمثقف هو الحرية والدعوة إليها، وكما يرى الأستاذ عاطف أحمد فؤاد دومًا أن هذا الأمر لن يتأتى إلا بتوفر شرطين هما: «العقلانية والثورة فكرًا وفعلاً في الحياة». إلا أنه يجدر الإشارة هنا أن العقلانية عقلانيات ولا توجد عقلانية نموذجية واحدة لابد للناس من أن تتقيد بها، وقد تحدثنا عن ذلك في مقالنا السابق «الإبداع بين ما يمكن وما يجب ان يكون» وأشرنا إلى ما ذهب إليه الفيلسوف العربي الكبير طه عبدالرحمن في هذا الموضوع. كما أن شرط الثورة أيضا له خلفياته الأيديولوجية المختلفة والمتباينة وهنا يجب تحديده بما يمكن أن يوافق ثقافة وحضارة الشعب أو المجتمع، لأن الثورة الحقيقية لا تستورد ولا تقوم بالوكالة

مثل ما يسمى بثورة الربيع العربي المزيفة والفاشلة والتي لم تنجح بسبب خلفياتها الأيديولوجية المستوردة ودوافعها الأجنبية المغرضة ولو أنها حاولت أن تلعب على وتر الحرية والديمقراطية، لكن السؤال المهم: بأي خلفية أيديولوجية كانت؟

المثقف المنسحب والمجتمع:

قد يخلط البعض بين أدب الهامش وثقافة المنسحب أو المثقف المنسحب. على أساس أن المثقف المنسحب يعيش في الهامش وفي معزل عن المجتمع. ولذا لابد من مقاربة أدب الهامش وتعريفة حتى نرفع اللبس.

فالهامش مصطلح يقابل المركز وهو مثله مرتبط بعدة مجالات، فنجده في المجال السياسي وفي المجال الاقتصادي، وكذلك في المجال الاجتماعي والثقافي وغيرها من المجالات.. أو كما يقول أحد الباحثين الاجتماعيين فانسون باير: «فالهامشية بين المنحرف والمتشرد من الناحية القانونية، وبين المجنون والمدمن من الناحية الصحية، وبين الأمي والمهاجر من الناحية الثقافية، وبين الفقير جدًا والعاطل من الناحية الاجتماعية والاقتصادية». ويعرف الأدب الهامشي أو أدب الهامش على أنه كل أدب ينتج خارج المؤسسات الرسمية سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو أكاديمية.. وأخذا بمبدأ القياس، وبما أن الأدب جزء من كل فإن ثقافة الهامش هي كل ما ينتج خارج المؤسسة الرسمية التي تحكمها السلطة بمفهومها الواسع سواء أكانت سلطة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو أكاديمية.. أي بإمكاننا القول أنه الأدب أو الثقافة المتمردة على القواعد أو الإجراءات أو القوالب أو الأشكال الرسمية والتي تحمل بالمقابل في طياتها هما اجتماعيًا وسياسيًا أو انشغالاً فلسفيًا له صلة بالواقع والمجتمع. ولو أن الأكاديميين يصنفونه في خانة الأدب أو الثقافة الشعبوية الدونية. لكنه برأينا أن هذا تعريف متعال ومتكبر، لأن البحوث الأنثروبولوجية الحديثة تعتبر مثل هذا الأدب أو الثقافة بؤرة أو مؤشر على طبيعة المجتمع وثقافته العميقة. كما أننا يمكن أن نصف العديد من شعراء الفصيح في خانة الكتاب الهامشيون في بعض شعرهم على الأقل، مثل شعر الصعاليك، وبعض أشعار أبي نواسى أو مظفر النواب وغيرهم. فهي أعمال من صميم معاناة المجتمع وتعبر عن رغباتهم وعواطفهم وطموحاتهم المسكوت عنها والمرفوضة أو المضطهدة رسميا. لكن السؤال الذي يظل عالقًا معنا في هذا السياق هو:

من هو المثقف المنسحب؟ وما طبيعته؟

قد يتبادر إلى أذهاننا عند سماع هذا المصطلح أن المقصود به هو ذلك المثقف المنسحب من الساحة الثقافية بإرادته تحت ضغط معين أو بتأثير من اللاجدوى التي قد تلمّ بالمثقف من حين إلى آخر حينما لا يلقى استجابة لما يبتكر أو يبدع. إلا أن هذا الانسحاب وفي هذا السياق ينسحب على المثقف بعينه لا على الفعل الثقافي في حدّ ذاته، وهو الأمر المقصود في هذا المصطلح والذي نعني به أن يستغرق الانسحاب الفعل الثقافي، فيكون منسحبًا بطبيعته لا بفعل فاعله. وبعبارة أكثر وضوحًا أن يكون الفعل أو المنجز الثقافي سواء أكان فكرًا أو أدبًا أو فنًا يتضمن صفة الانسحاب في طبيعته، من خلال خلوه من الرؤية الجادة المهتمة بالبعد الفكري أو العلمي أو الإبداع الواقعي والاجتماعي الإنساني. وانغماسه في الوجه السالب من الرؤية، كاللجوء إلى الانبطاح والسعي وراء المطامع المادية الضيقة، أو الاختلاف من أجل الاختلاف، أو الادهاش من أجل الادهاش، أو المعارضة من أجل المعارضة. والمنسحب برأيي هو من يحاول أن يتواجد في المركز بفكر أو أدب او ثقافة هامشية، لا تحمل أي هم فلسفي له صلة بالمجتمع ولا تعنيه من قريب أو بعيد. مثل أفكار العديد من المنشقين المنسحبين عن ثقافة مجتمعهم، والمنبهرين بثقافة الآخر، أو مثل إبداع الكثير من الفنانين والكتاب المزيفين الذين لا يملكون من الابداع غير إصرارهم البائس على أنهم شعراء أو فنانين أو مثقفين. وبالتالي فإن الفرق بين المثقف الفاعل والمثقف المنسحب، أن هذا الأخير متواجد بذاته وغائب بثقافته، أما الأول حتى ولو كان غائبًا بذاته فهو حاضر بثقافته.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

منير مزليني

كاتب من الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى