السرد والتاريخ: تلصص بول ريكور على تلصص صنع الله إبراهيمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-02-01 09:52:20

ياسين معيزو

المغرب

بداية، ينبغي الأخذ بالنظر، كون إيرادنا لمفهوم السرد -أعلاه- لا يحيل على المستويات التقنية التي دأبت عليها السرديات البنيوية مع كل من "تودوروف" و"جنيت" وغيرهما، ولكن بوصفه رؤيا جديدة بعدما عرف بـ"نهاية السرديات الكبرى"1، وسقوطها سقوطًا طبيعيًا فرضته الحتمية التاريخية، ورياح ما بعد الحداثة التي قادت المفكر الفرنسي بول ريكور، نحو الدفاع عن حضور السرد، وإعادة اكتشافه على ضوء التفكير الفلسفي في التاريخ.

من هذا المنطلق يمكن طرح سؤال: ما علاقة السرد بالتاريخ؟ والذي نجد إجابته لدى بول ريكور الذي يعد الآلية السردية، مصدرًا مهما في إغناء الفكر التاريخي.

يتناول ريكور التاريخ والسرد2، لتحليل الإشكالية التي تقوم عليها الكتابة التاريخية، بوصفها استمرارًا أنطولوجيًا  تقوم عليه الكتابة السردية عمومًا، بالرغم ما تدعيه الكتابة التاريخية من أصالة السرد الموضوعي الصادق ، وذلك من خلال تتبع الترابط والتعالق القائم بينهما، وهو الموضوع الذي حاول ريكور أن يجعله في صلب كثير من دراساته والظاهراتية والتاريخية، وعلى وجه الخصوص مؤلفه "الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي".

لقد أبان بول ريكور على أهمية السرد في تحديد علاقة التاريخ بالوجود، ودوره في بناء الهوية التي يؤثثها حضور الذات في الوجود والتاريخ. بل يمكن اعتبار السرد من أبرز اللحظات التي مر منها الفكر الفلسفي عند ريكور، لكونه قلص الهوة، إن لم نقل إنه كسر الحواجز بين مبحثين كانا ينظر إليهما - منذ وقت طويل- من زاوية خاصة، تفردهما عن بعضيهما. حيث ضم "السرد" بوصفه محور الإبداع الروائي، إلى "التاريخ" الذي يبحث في الوقائع والأحداث، ويسعى إلى تأريخها، ما جعله ينظر إلى السرد بوصفه، القدرة على قول شيء حدث3.

وللسرد معاني ودلالات؛ من بينها تلك التي تشار إليه، من حيث كونه يمثل التتابع، والتسلسل الزمني، لعرض حدث، أو واقعة في قالب قصصي قد يكون واقعيًا أو تخييليًا، وهو بذلك يضطلع بوظيفة تنظيمية من شأنها إيجاد العلاقات الرابطة بين مجموعة من الأحداث المختلفة والمتباينة. أما التاريخ فيشير إلى جملة من الأفعال والأحداث التي يمر منها الكائن البشري، ويصدق الأمر على الفرد والجماعة على حد سواء، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية والسياسية، إنه بحث شاق في الأمم والمجتمعات4. لكن مهما كانت علاقة السرد بالتاريخ قوية، فهذا لا يعني أن التاريخ سرد وأن السرد تاريخ، بقدر ما هي علاقة تداخل وتبادل وظيفي حسب ريكور نفسه، إذ "تبقى هناك فجوة بين التفسير السردي والتفسير التاريخي، هذه الفجوة تمنعنا من النظر إلى التاريخ بوصفه نوعًا من جنس القصة، ذلك أنه بين أن نعيش، وبين أن نحكي، ينصرف تباعد ما مهما كان ضئيلاً، وهذا التباعد هو الذي يحافظ على كينونة التاريخ بوصفه تاريخًا، وهنا تظهر الحاجة إلى نوع من الجدلية بين البحث التاريخي والكفاءة السردية"5.

إن السؤال الذي ينبغي طرحه –بعد كل ما سبق- هو: ما الذي يجمع بين السرد والتاريخ إذن؟

إن بين السرد والتاريخ علاقة واضحة تمامًا، إذ إن كلاهما يعتمد الحكي والاستذكار والعودة إلى الماضي، وعلى الرغم من كون السرد له صلة وثيقة بالإبداع الروائي، فإن ذلك لا يمنع من القول؛ إن التاريخ يضعنا أمام فرضيات وتمظهرات مغايرة لتلك التي تميز الإبداع.  ولا يمكن الحديث عن علاقة السرد بالتاريخ، دون استدعاء الزمن، ففي السرد يحضر الزمن لارتباطه الوثيق بالتجربة الإنسانية التي يسعى التاريخ إلى بسطها عن طريق السرد. وقد عمل بول ريكور على تناول إشكالية الزمن بكثير من التفصيل في مؤلفه الزمان والسرد، من خلال ما قدمه أريسطو والقديس أوغسطين وكانط إلى جانب هايدغر، فضلاً عن آرائه التي بسطها من خلال تتبعه لمختلف هذه التصورات، والمدارس الفلسفية - إن صح القول- والتي تتخذ مسارين مغايرين يحكمان فلسفة الزمن الريكوري، ويتعلق الأمر بالذاكرة بوصفها خاصية طبيعة (مبدأ حركة الأشياء)،  تتؤطر داخل الزمن الأوغسطيني ضمن معادلة الاعتراف التي تتوقف عليها عملية تشكيل هوية الفرد والجماعة، والتاريخ بوصفه يمثل الزمن الكوسمولوجي الذي يتوخى الموضوعية والحقيقة6. ما يجعل ريكور يمنح تصورًا جديدًا لمفهوم الزمن، تتحدد ضمنه علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالعالم والآخر، فالتجربة الإنسانية في الوجود كما يعيشها المرء في تاريخيه هي تجربة زمنية، وإن الزمن الإنساني هو زمن سردي. من هنا، فإن كل عالم سردي هو عالم الطابع الزمني للتجربة الإنسانية7.

وفي ارتباطنا برواية "التلصص"، سنحاول الاشتغال على هذا النص انطلاقًا مما خلصنا إليه قبل قليل، وذلك عبر مستويين: السردية التاريخية، والزمن السردي.

تتأسس هذه القراءة لرواية التلصص للروائي المصري صنع الله إبراهيم، على فرضية تستحضر التحولات التي تعرفها الرواية العربية المعاصرة، والاقتراحات التي تقدمها على مستوى السرد وتشكيل الهوية السردية عن طريق سرد الذات تاريخها/حياتها، وما يدور حولها من سياقات خارجية، بوصفها تجربة إنسانية فذة.

المضمون الدلالي للرواية:

تسرد رواية "التلصص" مقتطفًا من حياة طفل في التاسعة عشر من عمره، شديد التعلق بأبيه الذي يشرف على دخول عالم الشيخوخة من أوسع أبوابها، محورها السعي وراء دفء المرأة8.  وقد جعل صنع الله من الطفل رأس العنكبوت الذي ينسج دوائر يتحرك داخلها صحبة أبيه الذي لا يطيق الصبي فراقه، ولا يرى العالم إلا من خلاله. إنه يرى ويروي، يسمع ويتوقع، نعرف من طريقه أخبار أخته والجيران، أخبار القصر الملكي، أخبار الأحزاب السياسية، مستجدات المجتمع المصري، وماضيه القريب.. كل ذلك يتخلله حضور الأم في صورة أو خبر. يرسم الصبي بما يحكيه مشاهد عديدة لأربعينيات القاهرة، ولأحوال الطبقة الوسطى التي اندحرت من موقعها الطبقي درجات، وكافحت من أجل الحفاظ على موقعها المدافع عن مصالح الطبقات البرجوازية. نلتقط هذه المعالم عبر زيارات الصبي ووالده لبعض الأقارب والمعارف، ما يتيح للطفل التلصص على مكونات المجتمع المختلفة. يتلصص هذا الصبي "المحايد" على عالم الكبار السري، المتجشئ بالعلاقات المسكوت عنها، إما بالتنصت على حكايات الأب وأصدقائه، أو عبر إطلالاته على غرف الجيران، أو تلصصه على الجارات أثناء اعتنائهن بجسدهن، بل طال تلصصه حتى أباه وهو يضاجع فاطمة (الخادمة) التي تساعدهما في تدبير الشؤون المنزلية. كما تكشف مشاهدات الصبي الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية واليومية، وطقوس الاحتفال بالمناسبات، وطقوس السحر والشعوذة بوصفها أسلحة ميتافيزيقية للقضاء على ما يستعصى على الإنجاز.

كثيرة هي مواقف التلصص التي مارسها الصبي الذي يحاول أن يحرق مراحل عمره، ليتطلع إلى عوالم الكبار –البالغين- الغامضة. كل هذا يتخلله  حضور صورة الأم في صيغ صورية عند كل وضعية سردية تشحذ ذاكرة الصبي، ومن طريق هذه الاستذكارات المنتظمة في الزمان،  تبرق ملامحها في وعي الصبي عبر ذاكرته، أثناء كل موقف سردي، ولا يفهم القارئ مصيرها (الأم) إلا في لمسات ذهنية منثورة على امتداد النص، وحتى صفحاته الأخيرة. وإن أسعفنا قول، لقلنا إن الرواية تمثل تلصص المؤلف على طفولته، من خلال استدعاء ذاكرة الماضي الغابر.

السردية التاريخية:

يتأطر المتن الحكائي لهذا العمل الروائي –تاريخيًا- بين العشرينيات من القرن العشرين وصولاً إلى أواخر الخمسينيات، وهي مرحلة تميزت بالحكم الملكي في مصر بعد حكم أسرة الخديوي العثمانية، والتواجد العسكري البريطاني بالمنطقة، حتى وإن كانت الرواية تمثل شكلاً من التقصي لعلاقة الصبي بالأب وبالعالم، إلا أن ما تقوله الرواية يتعدى مجرد سرد استعادي شخصي، حيث تسرد الرواية الأحداث التي جرت بالقاهرة وأوضاعها السياسية الداخلية، وارتباطها بالصراع العربي الصهيوني، إبان فترة حكم الملك فاروق، وعدائه التاريخي لحزب الوفد برئاسة مصطفى النحاس، وذلك على لسان طفل راو يتلصص على الأخبار إما من خلال الصحف أو عند محادثة الكبار بعضهم أو في طريقه إلى المدرسة.. "أتلصص النظر من بين القضبان (..) أواصل السير. مدرسة اليهود. ملصق يدعو لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين (...) عبارة بطلاء أسود تقول (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء). "9

إن كاميرا الصبي الفاطنة التي ترصد الحقائق الواقعية بدقة، يجعل منها صنع الله  سلاحًا مصوبًا نحو التفاصيل التاريخية التي قد يعدها القارئ العادي ترفًا تصويريًا، إلا أن أسلوبه التوثيقي ينأى عن أي إسفاف قد يصيب السردية التاريخية بانفلاتات قصِّية، الأمر الذي يعجز "السرد التاريخي" عن التقاطها، لدواعي معرفية، وأخرى منهجية وإيديولوجية، ونقصد هنا التاريخ الرسمي والمؤرخ (الرسمي)، ما يفسح المجال أمام الروائي لرصد الجزئيات التي يغفلها المؤرخ تارة، ويتغافل عنها تارة أخرى، بوصفها عناصر تأسيسية لأي حدث التاريخي كيفما كان. كما تسعى هذه الخلفيات التاريخية – إن صح التعبير – إلى تسليط الضوء على المواقف الناضجة والواعية للشعب المصري في شأن القضايا العربية عمومًا والقضايا المحلية على وجه الخصوص؛ فمدرسة اليهود التي يمر من أمامها الصبي كل يوم وهو في طريقة إلى المدرسة، تعطي انطباعًا على بداية تكالب المؤسسات الرسمية المصرية، والعربية عمومًا على القضية الفلسطينية، وهو ما توضحه عبارة "ملصق يدعو لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين"، الذين لم يجدوا في مساحة مصر الشاسعة التي يستغلها الإنجليز واليهود لخدمة مصالح الرأسمالية العالمية، مرتعًا يلجؤون إليه ويحتمون به.  "يقول أبي: دول زودوها خالص. رأفت أفندي، كان في بورسعيد امبارح، ويقول الفلسطينيين ماليين البلد وهاربين من الصهاينة.."10

"يسأل عبد العليم: إنت مخرجتش النهاردة؟ البلد مليانة مظاهرات، والناس تهتف أين الكساء والغداء يا ملك النساء)"11.

"نتدفق إلى الشارع. ننظم إلى تلاميذ المدارس المجاورة. تنطلق المظاهرات في اتجاه الشارع الرئيسي. نردد خلف التلاميذ المحمولين على الأعناق (الله أكبر لله الحمد.. عاش الكفاح المشترك لشعوب وادي النيل.. النحاس زعيم الأمة)."12

 وقد سرد صنع الله في هذا الإطار العام، الأحداث اليومية لحياة الناس ليصور لنا عودته إلى أربعينيات القاهرة، وهو يعتني بالتفاصيل معتمدًا على صلات الطفل الراوي بالبيئة والشخصيات. واختيار الصبي للتلصص على التاريخ ليس اختيارًا اعتباطيًا، بل هو عنوان لتعاطف القارئ مع فعل التلصص اللاأخلاقي، والذي يتخذه صنع الله لسرد تفاصيل تجربته الحياتية، بعيون صبي صغير، يفترض أنه صنع الله ذاته. وتتمثل وسيلة التلصص على التاريخ والمجتمع  في الرواية، في اقتحام الخطوط الحمراء، ليرينا الحقائق المُرة الممتلئة نفاقًا وزيفًا وخداعًا، كما جاء على لسان الصبي.

يمتاز صنع الله إبراهيم بخلق شخصياته وأحداثه بالقاهرة، في إطار الواقع المعاش، مستمدًا من المادة التاريخية الوثائقية متن سروده، وهذا ما يميز نصوصه الروائية وعبرها نص "التلصص" الذي يستلهم الوقائع التاريخية في إطار الأحداث السياسية والاجتماعية خلال القرن العشرين، متحدثًا عن الماضي، مناقشًا القضايا الحديثة في القاهرة (التشكيل)، فيصير الزمن الماضي زمنًا حاضرًا عند القارئ، يتلقاه بعيون معاصرة، معتمدًا على اشتراكه مع الشخصيات والأحداث في التجربة الإنسانية، وقراءته في الأغلب تكون قراءة حوارية ووصفية من خلال الأساليب الفنية، وفي تفاعل مع النص المقروء (إعادة التشكيل).

فإذا كانت الرواية تمثل "تمثيلاً" سرديًا لتفاصيل الحياة المصرية، وتستدعي جوانب  تاريخية عبر السرد الاسترجاعي، فإنها لا تنغلق على ممكناتها التخييلية في حدود هذه الحكاية المؤطرة، وإنما يتوسع كونُها السردي  من خلال برامج حكائية جزئية، تضيء جوانب مختلفة من عصره، وكذا العلاقات السائدة والعادات الطوباوية كـ:(استخدام الشعوذة لفك مغاليق المستقبل..).

الزمن السردي:

لقد أوغلت رواية "التلصص" في زمنين اثنين: زمن تاريخي وآخر سردي؛ الزمن في تعرجاته التاريخية، وزمن الإيقاع السردي، وذلك ضمن منظومة وجودية زمانية، ما يجعل تنوع الأحداث وتكاثفها في زمن الرواية يتعدد، بقدر حركة الشخصيات في زمن النص السردي. فالأحداث التاريخية التي وقعت في زمن لاحق، وتوقفت في حدود الزمن الطبيعي، تتخذ بعدًا آخر في السرد الروائي، انسجامًا وطبيعة الزمن في حركيته بالنسبة للأحداث الروائية، ذلك أن الرواية تتجاوز الزمن التاريخي عن طريق صهره مع الزمن السردي؛ وبما أن التداخل الزمني بين الأحداث وحضورها في عالم الواقع والمتخيل يجعل من العسير تتبع تفاصيله دون التباس. فقد تمكن السارد بقدرته السردية، ومن موقعه السردي أن يوحد بين الزمن التاريخي والزمن السردي في تشكلهما الفني، وقدرة السارد على ضبطهما وفق مقتضيات الخطاب الروائي، وخاصة أن رواية "التلصص" تستمد مشروعية خطابها السردي من الزمن، ودلالاته التاريخية. ذلك أن السرد هو التتابع الزمني،  بينما التاريخ هو اللحظات المستنفدة من الماضي؛ لكن صنع الله إبراهيم يجمع بين هذه المفارقة، بين الواقعي/التاريخي وبين التخييلي من خلال تموقع السارد في الحكي، بوصفه الشخصية التي يقع على عاتقها سرد الأحداث، وفرض حقيقة الفعل الواقعي، ورد الفعل التخييلي وما يدور حولهما من ممارسات عبر ما تلتقطه عدسة  الصبي، أو ما تختلسه أذنه من سماع، مشكلاً بذلك منطقة  صلبة بين الحقيقي، وما يدور في الهواجس من موضوعات يتمثلها، ويرسم لها حدود الاسترجاع في واقعه الآني، ليزاح بذلك البعد التراكمي للأحداث، من أجل الكشف عن مدلولاتها سرديًا.

"ينهض تلاميذ الصفوف الخلفية. الكبار واقفين. صيحات في الحوش. نحمل حقائبنا ونغادر الفصل. ننظم إلى تلاميذ الفصول الأخرى. يردد الجميع: (اليوم حرام فيه العلم). نتجمع في الفناء. الناظر يقف عند باب المدرسة المغلق. أصوات مظاهرة في الخارج. ينهال الطوب على باب المدرسة. ينسحب الناظر يفتح البواب الباب. نتدفق إلى الشارع وننضم إلى تلاميذ المدارس المجاورة. تنطلق المظاهرة في اتجاه الشارع الرئيسي. نردد خلف التلاميذ المحمولين على الأعناق: (الله أكبر ولله الحمد)، (عاش الكفاح المشترك لشعوب وادي النيل)، (الجلاء بالدماء)، (النحاس زعيم الأمة).."13

نلاحظ من خلال هذه المتواليات السردية أن صنع الله إبراهيم يعرض أحداثًا واقعية عرفها المجتمع المصري وذلك حينما أعلن زعيم حزب الوفد المصري ورئيس وزراء مصر آنذاك مصطفى النحاس إلغاء اتفاقية 1936 الشهيرة بين الأسرة الملكية الحاكمة وبريطانيا والتي تقضي بأن تظل مصر في إطار التبعية البنيوية لبريطانيا على المستوى الاقتصادي والسياسي، ردا عن تجاهل بريطانيا للمطالب المصرية المشروعة، والتي كانت تتلخص في جلاء القوات البريطانية عن وادي النيل، ووحدة مصر والسودان، حيث قام مصطفى النحاس بالدعوة إلى تشكيل كتائب من الفدائيين المصريين من الطلاب والتلاميذ وغيرهم، مما عرف تجاوبًا كبيرًا من طرفهم. كل هذه المعطيات الواقعية توضحها المتوالية أعلاه، ويدع السارد لنفسه حق تصوير التفاصيل الصغيرة التي لم يستطع المؤرخ تصويرها والتقطتها عدسة الصبي: كاعتراض الناظر سبيل التلاميذ المحتجين قبل أن يرشقوه بالحجارة ليأمر البواب بفتح الباب. لا يريد هنا صنع إبراهيم إظهار الناظر بالمظهر المحافظ على السير العام للمؤسسة، بل الدور الانتهازي الذي تلعبه الطبقة الوسطى في كبح الإرادة الحرة للشعوب التواقة للتحرر حين تصير هذه الطبقة عاهرة في حضن الطبقة الحاكمة عميلة المستعمر. فافتراض شخصية الناظر وهي تفعل في خضم الحدث التاريخي/الواقعي، تشكل قدرة تخييلية على استرجاع الواقعي في زي التخييلي، وأن محاولة استعادتها مرة أخرى ومعاودة استرجاع أحداثها التي مرت منها سنوات طويلة، تجعل التلاحم بين الواقعي والمتخيل مؤسسا لواقع جديد، هو لا شك، واقع إبداعي آني  له آليته الخاصة، قد يختلف عن الواقع الحقيقي في كونه مشحونًا برؤية فردية خاضعة لقوانين المكان والزمان في تشكلها الذي ينتسب إلى التجربة الروائية.

"يتحدثان عن الغارة. يقول أبي إننا أخطأنا بقبول الهدنة. يقول اللواء إنها كانت ضرورية بسبب فداحة خسائرنا. كما إننا محاصرون في الفلوجا واليهود منعوا الماء عن رجالنا فاضطروا لأن يشربوا بولهم. يسخر مما نشر في الصحف عن حديث بين حيدر باشا وزير الدفاع وأحد الوزراء. قال له الوزير: شد حيلك يا باشا. عيزين نعيّد في تل أبيب. يعلق اللواء: يبقى يقابلني."14

نستشف كذلك انطلاقًا من هذه المتواليات السردية، استحضار سياق زمني آخر عرفته مصر، ويتعلق الأمر باتفاقية الهدنة الأولى التي وقعتها إلى جانب الكيان الصهيوني لإنهاء الحرب، لكن هذا الأخير لم  يقنع بمخرجات الاتفاق، ودأب على خرقه، واستمرار تحركاته وهجماته العسكرية، بشن غارات جوية على الفلوجا، وفي الرواية إيحاءات متذمرة من قبول الهدنة تعكس –في الحقيقة- موقف صنع الله إبراهيم المناضل والمعتقل السياسي السابق قبل الروائي من الهدنة، جسدته شخصية "خليل" والد الصبي التي تدخل في حوار مع لواء سابق أمام عدسة الصبي المتلصصة التي تلتقط تبرير موقف الهدنة، بفداحة الخسائر التي تكبدها الجيش المصري، وإبداء سخريته، في نفس الوقت، من تصريحات  وزير الدفاع المصري آنذاك محمد حيدر باشا. مما ينم عن تسخير ذكي- من صنع الله – للزمن الواقعي الذي يصير طوع بنان الزمن السردي، من خلال إقحام التاريخي في التخييلي عبر توظيف الحوار، بوصفه صيغة سردية تجسد هذا التلاحم والتعبير عن واقع صنع الله الذاتي والموضوعي، وذلك من خلال المتخيل السردي.

خاتمة:

تكتسي رواية "التلصص" أهميتها من خلال اندراجها ضمن هذا الأفق، لما يحتشد فيها من إجراءات سردية وأسلوبية متنوعة، وأحداث ووقائع وممارسات، وانفتاح على التاريخ، وأسلوب حياة "القاهريين"، واستحضار الذاكرة البعيدة. إن نصًّا بهذا الحجم، لا يمكن إلا أن يحفز على مستوى التلقي، وعلى إنتاج دلالات متعددة ومتنوعة، تنسجم والسياق الاجتماعي والإيديولوجي لصنع الله إبراهيم.

 لقد حاول صنع الله إبراهيم في روايته، استعادة أحداث الماضي، بوعي تاريخي أبقى على الحيز التاريخي دون التباس مع السرد، ومكوناته التخييلية الحاضرة، والثبات الدائم في مواجهة اللحظة التاريخية برؤية زمنية ذات معطى إبداعي. ولئن كانت قوة الحدث التاريخي تؤثر بسطوتها الطاغية عبر مقاربة تحاول المساس بحقائقها، فلرب هذا ما أكسب الرواية صفتها السردية،. ولا ريب في أن القارئ -من خلاله- يعثر على جملة من الأحداث هي نتاج ظروف محكومة بالتاريخ، وسط محيط تتماوج فيه الأحداث والشخصيات، وقاع اجتماعي وصفته الرواية وصفًا أنثروبولوجيا، نفذ إلى مستودعات ثقافية عبرت عنها الجمل السردية ، وربما ظلت من الوجهة التاريخية مهمشة تقع في سرداب التاريخ غير الرسمي.

 

الهوامش:

1 -  جنات بلخن، السرد التاريخي عند بول ريكور، منشورات دار الأمان، الرباط، ط1/ 2014 ، ص:32

2 - الحبكة السرد التاريخي، ص11

3 - Paul ricoeur ; capabilies and rights, in transfoming unjust structures (the capability approach) ….

4 - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع.

5 - جنات بلخن، السرد التاريخي عند بول ريكور، منشورات دار الأمان الرباط الطبعة الأولي2014، ص: 54

6 - عبدالله السيد ولد أباه، التاريخ والحقيقة لدى بول ريكور: الهوية السردية والذاكرة الحية، مؤمنون بلا حدود قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، يونيو 2014

7 - جنات بلخن، السرد التاريخي عند بول ريكور، ص69

8 - صنع الله إبراهيم، رواية التلصص، دار المستقبل العربي، ط1 2007 ، ص:91

9 -   صنع الله إبراهيم، التلصص، منشورات دار المستقبل العربي، ص 8

 10 -  صنع الله إبراهيم، التلصص ص 45

11 - صنع الله إبراهيم، ص 45

12 - صنع الله إبراهيم، ص 34

13 - صنع الله إبراهيم، التلصص ص34

14 - صنع الله إبراهيم، التلصص ص57


عدد القراء: 9930

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-