البدايات المنهجية لنظرية التأويلالباب: مقالات الكتاب
د. روميسا كعبش باحثة من الجزائر |
ملخص:
إن الحديث عن الأصول الأولى لنظرية التأويل أو الهرمينوطيقا يدفع بنا مباشرة إلى العودة إلى النصوص المقدسة ممثلة في كتب العهدين القديم و الجديد (التوراة و الإنجيل) في الثقافة الغربية، إلا أن أصول الهرمينوطيقا الفلسفية المعاصرة تعود إلى القرن 19، عندما أّخرجت من مجال اللاهوتيات إلى مجال الفلسفة على يد الألمانيين فريدريك شلاير ماخر وفلهم دلثاي.
البدايات المنهجية لنظرية التأويل: شلايرماخر ودلتاي:
كانت بداية الهرمينوطيقا الحديثة على يد فريديريك شلايرماخر Freidrich Daniel Ernest Schleirmacher 1755-1834 اللاهوتي الذي أخرج الهرمينوطيقا من الدوائر الكنسية، متجهًا بها نحو الفلسفة في أهم نقلة، لينتشلها من انغلاق الكنيسة ورجال الدين والنص المقدس، ويجعلها منفتحة على باقي النصوص البشرية عامة والأدبية خاصة، حيث كان له الفضل "في أول نقلة نوعية عرفتها الهرمينوطيقا التقليدية، فهو لم يعد يكتفي برؤية الممارسة الهرمينوطيقية وهي تخرج من دائرة الاستخدام اللاهوتي لتمس النصوص الفلسفية والقانونية والتاريخية والأدبية وغيرها من النصوص غير الدينية، بل راح يعارض الكاثوليكية والقبالة ويؤكد على ضرورة التخلي عن الطرائق المقبولة والمعتمدة في تأويل النصوص المقدسة"1 وذلك في إطار سعيه لتعميم آليات وإجراءات التأويل على النصوص الدنيوية بنفس الطريقة التي تطبق بها على النصوص الدنيوية بنفس الطريقة التي تطبق بها على النصوص الدينية. كان شلايرماخر Schleirmacher بمثابة الأب الذي أسس للهرمينوطيقا الفلسفية الحديثة وقد وسمها بطابع نفسيرومنسي يتماشى مع نزعة الرومانسية التي سادت في عصره، يقول جون غرايشJeanGreisch في معرض حديثه عن Schleirmacher
«souvent considéré comme le père de la puhilosophie herméneutique moderne. Freidriche Schleirmacher (1765 - 1834) assigne a celle-ci un rôle assez modeste dans son système des savoirs philosophiques. Dans ses leçons sur l’hermeneutique (1804 -1830)»2
حيث يعتبر أن شلايرماخر هو أب الهرمينوطيقا الحديثة، وهي نظام متواضع ضمن أنظمته المعرفية الفلسفية التي قدمها في محاضراته خلال السنوات 1804 إلى 1830.
لقد وقع شلايرماخر دائرة قراءة النصوص وتأويلها بدءً من النص الإلهي حتى النص البشري وميز بين الفهم وصلاحيته، ليبين أن التعامل مع النص يتطلب نوعية فهم تتفق معه متجها نحو البحث عن الدوافع التي أدت إلى ميلاد الكتابة أو التعبير أو الفعل، أي لابد من تحديد الظروف الزمانية والمكانية التي تجعل المرء يشرع في الكتابة والتعبير والفعل في لحظة ما نتيجة لموقف بذاته3، متجاوزًا مجرد عملية الإيضاح والتفسير نحو عملية الفهم في حد ذاتها، ووضع الآليات والإجراءات التي تتحكم في تحقيق الفهم، وتبعد المؤول عن الخطأ.
ينطلق شلايرماخر Schleiermacher"من أولوية سوء الفهم، أي أننا معرضين تلقائيًا لسوء الفهم، أكثر من كوننا نفهم بطريقة صحيحة مناسبة، خاصةَ إذا تقدم النص في الزمن"4 حيث يخلق ذلك مسافةَ تزيد من إمكانية أو احتمالية سوء الفهم، فنحن في الحقيقة لا نفهم كل شيء إلى أن نصطدم بما لا نفهمه، وإنما ننطلق من البداية من كوننا لا نفهم جيدًا، ولتحقيق الفهم علينا أن نؤول النص في زمنه ولحظة ولادته، على المؤول أن يعيش لحظة كتابة النص من طرف مبدعه، وهي نظرة رومنسية ونفسية واضحة يسم فيها شلايرماخر Schleiermacher الهرمينوطيقا "وهي ما جعلته يقصي تجربة المؤول الراهنة التي تنطلق منها عملية الفهم لصالح تجربة الكاتب الذاتية وعملية الإبداع المولدة للنص واللتين أصبحتا هدف الممارسة الهرمينوطيقية ومدارها"5.
من خلال كل ذلك تبدو بوضوح هرمينوطيقا شلايرماخر Scleiermacher وهي تسعى نحو قهم المبدع في فرديته ونفسيته الخاصة، وفهم النص انطلاقًا من فهم تجربة كتابته، وهو ما سيتم إعادة النظر فيه من قبل فلاسفة الهرمينوطيقا اللاحقين. يمكننا إذًا اعتبار هرمينوطيقا شلايرماخر ثورة ضد الهرمينوطيقا اللاهوتية التي احتكرتها الكنيسة في فهم النص المقدس، وأصبح البحث في المقصدية إجراءً وآليةً ضروريةً وغايةً في الوقت نفسه وهو ما يطرح إشكالاً يتعلق بكيفية عودة المؤول إلى نص مغترب زمنيًا بقرون كثيرة، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن اختصارُ أو إلغاء أو تجاهل أو التعامل مع المسافة التي تفصل بين المؤوِّل (الحاضر) والنص (الماضي)؟ "فإذا كان التأويل وفق شلايرماخر Scleiermacher هو الرجوع إلى المصادر الأولى لإدراك القصدية والمعنى الأصلي، فإن هذا الرجوع يتعثر لأسباب نفسية وموضوعية منها مشكل المسافة الزمنية (بين الحاضر والماضي) ومشكل الاحتكار الإيديولوجي للدلالة الأصلية "خصوصًا فيما يتعلق بتأويل النصوص المقدسة"6 ومن خلال ذلك يتضح أن شلايرماخرSchleiermacher حاول إرساء منهجية صارمة لتحقيق عملية الفهم والتي تكون عن طريق الحيلولة، بأن يكون المؤوِّل هو نفسه مبدع النص يتقمص ويعيش تجربته وهو ما يبتعد كل البعد عن الموضوعية التي حاول التأسيس لها كمبدأ للهرمينوطيقا.
إن الاهتمام الذي أولاه شلايرماخر "للإطار التاريخي والسياقي للعبارة وما تنطوي عليه من فكر أو رأي، يعبر عن فردانية هذا الفكر بمعزل عن صحته أو سقمه [...]. إن التأويل في هذه الفترة لم يعكس فقط فن الفهم والتفسير، وإنما أيضًا فن توظيف الحقائق المكتشفة خلف النصوص لأغراض معرفية [...] كان الإشكال في هذه الفترة منصبًا على المحتوى النفسي (الذات المتعالية) بمعنى علاقة المؤوّل بالنص المراد تأويله."7 والفهم يحدث عند تطابق نفسية المؤول مع نفسية المؤلف لحظة كتابته للنص وهو منحى نفسي واضح تتجه إليه وتتبناه هرمينوطيقا شلايرماخر Schleiermacher وفق منهجية علمية دقيقة تتمثل في إجرائين هما: التأويل النحوي L’interpretation grammatical ، والتأويل النفسي L’interpretation psychologique، يميز بينهما شلايرماخر كالتالي8:
1 - التأويل النحوي: الذي يحلل النص انطلاقًا من لغته متمثلة في الأطر اللغوية والأشكال البلاغية والأدبية ومصطلحات النص التقنية والألفاظ المستخدمة فيه جاعلاً منه فن الوصول إلى المعنى الدقيق للخطاب انطلاقًا من اللغة والاستعانة بها.
2 - التأويل النفسي: انطلاقًا من سيرة الكاتب الذاتية والتي يفهم النص من خلالها سواء كان مكتوبًا أو شفهيًا، فاللغة بقوتها المؤثرة تختفي ولا تظهر إلا كنظام يصنعه الإنسان في خدمة ذاتيته.
يوضح ذلك جون غرايشJean Greisch في قوله:
«… il vaut rendre justice aux deux aspects complémentaires du processus de la compréhension : l’aspect grammatical (étude des contraintes que la langue exerce sur le locuteur et l’aspect technique(étude de l’usage individuel que le locuteur fait de discours). Ce dernier aspect imprime à l’herméneutique de Schleirmacher une tournure psychologique»9
فشلايرماخر يقسم عملية الفهم إلى جانبين متكاملين: الجانب النحوي (دراسة القيود التي تفرضها اللغة على المتكلم) والجانب التقني (دراسة الاستعمال الفردي للمتكلم للغة في الخطاب)، يعطي لهذا الجانب الأخير لهرمينوطيقاشلايرماخر منعرجًا نفسيًا.
إذًا، لتحقيق الفهم يجب أولًا الانطلاق من فهم أشكال اللغة في علاقاتها داخل النص، لنتجاوزها فيما بعد نحو الخارج أي فهم نفسية المبدع وعلاقتها بالنص وهو "ما يقتضي نوعًا من التطابق مع باطن المؤلف والتوافق معه وإعادة إنتاج العملية التي ولدت الأثر الإبداعي"10.
إن هرمينوطيقا شلايرماخر Schleiermacher كانت تسير في الاتجاه المعاكس للتوجه الكلاسيكي السائد في عصره حيث آمن أن الذات لا تخضع للمفاهيم المستقرة واللغة المشتركة بقدر ما تفلت منها، وفي هذا الإفلات تتحقق فرديتها وذاتيتها وتنعكس في العمل الأدبي، وللوصول إلى هذه الفردية يجب المزاوجة بين منهجين هما: التنبؤ (la dévination) والمقارنة11(la comparaison).
يصف شلايرماخر Schleiermacher الدائرة الهرمينوطيقية أو حلقة التأويل كالتالي: "من أجل تحصيل رؤية شاملة عن النص بكليته، لا بد أن نعطي اهتمامًا مناسبًا للتفاصيل والخصوصيات، ولكن لا يمكن معرفة ميزة هذه التفاصيل من دون وجود رؤية واضحة عن النص بأكمله، أي أننا نبدأ بالفكرة ثم نستعين بالنص لتثبيتها"12.
فالحلقة الهرمينوطيقية إذاً تتشكل من خلال علاقة الجزء بالكل، وهي علاقة متبادلة متواصلة باستمرار، وهي من مبادئ الهرمينوطيقا عند شلايرماخر إذ "هي عبارة عن وضعية تفاعلية مستمرة بين أجزاء النص الخاصة وبين كليته الكاملة، حين نقرأ الجزء نبدأ ببناء صورة عن الكل، ثم نعيد اختبار تلك الصورة الكلية عن طريق الرجوع من جديد إلى الادعاءات الكامنة في العناصر الخاصة والجزئية في الكتابة"13 وبهذه الطريقة تتشكل دائرة الفهم عند شلايرماخر Schleiermacher وأهم النقاط التي انبثقت عنها الهرمينوطيقا الحديثة في أهم نقلة لها لتكون فنا مستقلاً بذاته عن أي مجال آخر، ومع ذلك فقد طرحت رؤية شلايرماخر عديد التساؤلات والتناقضات والانتقادات، حيث أن "كلاسيكية هذا الطرح تبتدئ في الحرص على وضع قوانين ومعايير لعملية الفهم [...] إنه يحاول تجنب سوء الفهم المبدئي في أي عملية تفسير من خلال مطالبة المفسر بأن يتباعد عن ذاته التاريخية الراهنة ليفهم النص فهمًا تاريخيًا موضوعيًا وأن يساوي نفسه بالمؤلف وأن يحل محله عن طريق إعادة البناء الذاتي والموضوعي."14
ومن هنا يتجلى التناقض الذي وقع فيه شلايرماخرSchleiermacher والذي سيحاول تجاوزه دلتاي Dilthey فيما بعد حيث يتحدث عن "أولوية التأويل الموضوعي (منهج وصرامة) وإمكانية أن يكشف التأويل الذاتي عن حقيقة النص عبر تجربة التكهن (التموضع في موقع الكاتب)."
لقد كانت النتائج التي وصل إليها شلايرماخرSchleiermacher بمثابة المنطلقات لفلهم دلتاي (1911-1833) Wilheme Dilthey والتي حاول من خلالها تشييد الهرمينوطيقا بوصفها منهجًا لعلوم الفكر، حيث منحها دور الابستيمولوجيا في العلوم الإنسانية، فقد فرق بين منهج العلوم الإنسانية ومنهج العلوم الصحيحة، حيث تعتمد الأخيرة على التفسير، فالطبيعة نفسرها، بينما الإنسان علينا أن نفهمه لا أن نفسره، فصار بالنسبة له التفسير والتأويل منهجين متوازيين لكل منهما مجاله الخاص "وذلك عكس النزعة الوضعية التي جمعت العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على منهج واحد، هو المنهج الاستقرائي التفسيري."16 وقد كان ذلك سعيًا من أنصارها لتجنيب العلوم الإنسانية الذاتية المفرطة، وتحقيق الدقة واليقينية في فهم الإنسان تماشيًا مع العلوم التجريبية وعلم الأحياء "مع دلتاي Dilthey أصبحت الهرمينوطيقا الأساس المنهجي الوحيد والمقاربة العلمية الفريدة التي يمكن أن تلائم علوم الفكر كلها دون استثناء[...] فقد كان يجتهد خاصة لإعادة المعرفة إلى أسسها التأويلية بعد ابتعادها مسافة عنها، عندما أُخضعت لموضوعية خاطئة."17 وبذلك يصبح التأويل عند دلتاي Dilthey هو المنهج العلمي الدقيق الملائم لعلوم الفكر أو العلوم الانسانية حيث إن مادة الدراسة هي الإنسان، والإنسان لا يمكن إلا أن يُفهَم أو يُؤوَل، كما نلاحظ أنه قد فصل فصلاً تامًا بين التأويل والتفسير حتى جعل كلاً منهما يناقض الآخر وله حقل اشتغاله الخاص به، وهذا يدل على مدى صرامة طرحه في محاولته لإرساء الهرمينوطيقا كمنهج خالص وخاص بالعلوم الإنسانية.
كان منطلق دلتاي Dilthey على غرار شلايرماخرSchleiermacher من مشكلة الفهم التاريخي، حيث أراد نقد العقل التاريخي فتمكن من تنسيق تفكير استيمولوجي حول العلوم الإنسانية، إذ كان همه المعرفي هو إيجاد قاعدة علمية تستند إليها الإنسانيات هذه القاعدة هي التجربة كانعكاس مباشر لبنية الوعي البشري.18 تتجه هرمينوطيقا دلتاي Dilthey نحو المنحى النفسي وذلك بتضمينه للوعي البشري الذي يتحقق عن طريق التجربة النفسية والتي تعد أحد أهم مقولاته وقواعده في تأسيسه للهرمينوطيقا باعتبارها منهجًا علميًا لعلوم الفكر "فقد جعل من عقل الفكر مجالاً للفردانيات النفسية وربط بصورة جوهرية بين علوم الفكر وهذه القيمة الفردية التي تميز كل ما هو إنساني [...] فالتعبيرات الإنسانية اللغوية وغير اللغوية هي تجل لنفسيات مفردة ومتميزة والفهم هو (الانتقال والتسرب) إلى هذه النفسيات."19 فالفهم إذا هو الطريقة التي تمكننا من الوصول إلى نفسية الإنسان من خلال الأشكال اللغوية وغير اللغوية والتي تجعلها تبدو وتتجلى أمامنا، وبذلك نلاحظ أن دلتاي Dilthey يواصل مشروع شلايرماخرSchleiermacher حيث "تعمق السمة السيكولوجية التي وسم بها شلايرماخر عملية الفهم [...] لتغدو الأهمية القصوى للهرمينوطيقا هي فهم هذه الفردية النفسية من خلال الشكل الخارجي"20 ليكون – وفقًا لذلك- السياق الخارجي والتجربة الفردية أهم دليل يؤدي بنا مباشرة نحو فهم الإنسان في جوهره بما هو مادة للعلوم الإنسانية "فالفهم هو إدراك حياة ، لهذا كان دلتاي يردد في الغالب: "إننا نفسر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية، لأن الطبيعة علامات وقوانين والنفس هي وحدة ذهنية وروحية مركبة، تدرك ذاتها بشكل حسي مباشر."21
لقد كان المنحى العلمي الذي اتبعه دلتاي Diltey يسير بالهرمينوطيقا نحو المنهجية إلا أنه وقع أيضًا في فخ المثاليات. لقد كان من أهم ما تطرق له هو نقد العقل التاريخي أو المثالية التاريخية لتغدو بذلك "تجربة الإنسان في التاريخ الأساس الفلسفي في المنظومة الدلثية [...] فمهمة الهرمينوطيقا لا تنحصر في إعادة بناء النص بعيدًا عن ظروف التجربة الإبداعية التي صحبته، ولا باستحضار تجربة الحياة بمفهومها البسيط، وإنما بإعادة إنتاج الحدث الأصلي الذي يتم إنتاج الأثر فيه، عند ذلك لم يعد بالإمكان فهم الأثر بشكل كاف على أنه تعويض لتجربة غريبة من خلال تجربة ذاتية"22 فإعادة إنتاج الحدث الأصلي، وحدها يمكن أن تضمن الموضوعية الكافية لتحقيق الفهم، لأن ذلك سيخلص النص من مجموع الترسبات التي علقت به عبر الزمن، ففهم النص يكون لحظة ولادته وبفهم الحدث الذي أدى إلى هذه الولادة، ومن ذلك يتضح أن دلتاي Dilthey قد أعاد بلورة خطاب سلفه شلايرماخرSchleiermacher بصورة أوضح وأجرأ مركزًا على علاقة التجربة المعاشة بالتاريخ، وذلك في إطار المنحى السيكولوجي الذي أرساه شلايرماخر مع التركيز دائمًا على نقد العقل التاريخي المثالي.
بالنسبة للدائرة الهرمينوطيقية عند دلتاي Diltey فهي لا تختلف كثيرًا عنها عند شلايرماخر حيث "يؤكد دلتاي Dilhtey على أنه لا يمكن للفهم أن يكتمل وسيطًا أو يبلغ غايته المرجوة إلا إذا وقف بتمعن وتريث، بل بعشق عند كل مل هو جزئي لذاته قبل وصله بغيره من الأجزاء، داخل ما يعرفه بحلقة الفهم أو الهرمينوطيقا، حيث يُسلِمنا الجزئي [...] إلى الذي يليه"23 فدلتاي Diltey يضيف إلى علاقة الجزئي بالكلي في النص تجربة الحياة نفسها، فتُشكِّل التجارب الجزئية التجربة الكلية، وتكتسب معناها من خلالها، وفي الوقت نفسه لا تعني التجربة الكلية إلا تراكم مجموع التجارب الجزئية.
إذًا، فإن ما تميز به مشروع دلتاي Diltey هو محاولة جعل الهرمينوطيقا منهجًا لعلوم الفكر مواز لمنهج العلوم التجريبية. يقول في ذلك سيلفي ميزيرSylvie Mesure:
«l’herméneutique fournissait désormais aux sciences humaines un paradigme de la compréhension : pour autant, le projet se trouvait-il ainsi mené a bien de faire accéder ces disciplines à celui des sciences de la nature»
يوضح القول إن الهرمينوطيقا كانت تقدم نموذجًا للفهم للعلوم الإنسانية، وكان المشروع ناجحًا في الحصول على هذه التخصصات في درجة من العلمية مشابهة لتلك التي تتسم بها علوم الطبيعة.
وفي معرض حديثه عن عملية الفهم والمنحى السيكولوجي لهرمينوطيقا دلتاي Dilthey يقول Sylvie Mesure:
«Diltey n’a cessé en fait s’interroger sur la compréhension. Il l’avait d’abord conçue comme un effort pour retrouver, derrière phénomènes à étudier, la signification que les acteurs eux-memes leur avaierentattribuee. En ce sens, l’historien devrait pour ainsi dire revivre ce que d’autres ont vécu : la compréhension exigerait alors une mystérieuse et subjective participation, par « sympathie » à la vie psychique d’autrui»
إن دلتاي بالفعل لم يتوقف عن التساؤل حول الفهم، حيث كان أولاً قد تصور أن الفهم هو محاولة لإيجاد-خلف الظواهر المدروسة- المعنى عينه الذي قصده المؤلفون أنفسهم بهذا المعنى، يجب على المؤرخ –إن جاز التعبير- أن يسترجع ما تعرض له وعاشه الآخرون، فالفهم إذا يتطلب مشاركة غامضة وذاتية في الوقت نفسه وذلك بالتعاطف مع الآخرين.
وبهذا نكون قد تطرقنا لهرمينوطيقا دلتاي Dilthey، بشمولية واختصار اقتضاها مقام البحث، لنكتفي بالوقوف عند أهم مقولاته في تأسيس الهرمينوطيقا بوصفها منهجًا، ليتضح أن دلتايDilthey قد بالغ في الاتجاه العلمي الدقيق الذي منحه للهرمينوطيقا والتي يرى أنها في الوقت ذاته تظل خاضعة للتجربة المعاشة، مما يجعل التناقض الذي وقع فيه شلايرماخرSchleiermacher يبدو بشكل أوضح مع خلفه Dilthey. "حيث يبدو جليًا تأرجحه بين النزوع العلمي في إيجاد قاعدة كونية تستند إليها العلوم الإنسانية، وبين تاريخية الفهم الإنساني التي تفيد التناهي والنزوع الذاتوي" .
نشير أخيرًا إلى أن ما قدمه هذان العلمان معًا، كان الأساس الذي بنيت عليه فيما بعد الهرمينوطيقا الأنطولوجية في نسختها عند هيدغر M.Heidegger وصولاً إلى فهم الفهم عند غاداميرH.G.Gadamer.
الهوامش والإحالات:
1 - عبدالكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة (دراسات تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة)، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائر، ط7، 2007،، ص 25.
- 2Jean Greisch, (la circulité herméneutique (F.Scleirmacher), http://www.universalis.fr/encyclopedie/hermeneutique/, le 17/12/2018, p2.
3 - ينظر: محمد شوقي الزين: (عالمية هرمينوطيقا غادامير) تر: كاميليا صبحي، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، عدد 59، ربيع 2002، ص 155.
4 - عبدالكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ص ص، 25-26.
5 - المرجع نفسه، ص 31.
6 - محمد شوقي الزين: الإزاحة والاحتمال (صفائح نقدية في الفلسفة الغربية)، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائرط 1،2008، ص 54.
7 - المرجع نفسه، ص 34.
8 - محمد شوقي الزين: (عالمية هرمينوطيقاغادامير)، ص ص، 155، 156.
9 - Jean Greisch : ( la circularité herméneutique( F. Schleirmacher)), http://www.universalis.fr/encyclopedie/herméneutique/ , le 17/01/2018.
10 - عبدالكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ص 30.
11 - ينظر: عبدالكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ص27.
12 - دايفيدجاسبر: مقدمة في الهرمينوطيقا، تر: وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائر، ط7، 2007، ص 39.
13 - المرجع نفسه، ص 122.
14 - نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ص 21.
15 - محمد شوقي الزين: الإزاحة والاحتمال، ص 54.
16 - نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ص 21.
17 - عبدالكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ص 56.
18 - محمد شوقي الزين: الإزاحة والاحتمال، ص 56.
19 - عبدالكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ص 33.
20 - عبدالكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ص 33.
21 - محمد شوقي الزين: الإزاحة والاحتمال، ص 57.
22 - بارة عبدالغني: الهرمينوطيقا و الفلسفة (نحو مشروع عقل تأويلي)، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائر، ط1، 2008، ص 189.
23 - المرجع نفسه، ص 195.
24 - Sylvie Mesure : ( DilteyWilhelme, de la psycologie à l’hérmeneutique), http://Wilheme-diltey/ , le :2/2/2018, p1.
25 - Ibid, p1.
26 - محمد شوقي الزين: الإزاحة والاحتمال، ص 57.
تغريد
اكتب تعليقك