فيروس كورونا: كل الأشياء الصلبة تتلاشى في الهواءالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-06-01 02:10:25

البشير عبدالسلام

باحث ومترجم – المغرب

السوسيولوجي: بوافنتورا دي سوسا سانتوس

 Boaventura

ترجمة: البشير عبدالسلام

تشهد العلوم الاجتماعية نقاشًا مهمًا حول حقيقة مؤسسات المجتمع وجودتها، وهل يتم التعرف عليها بشكل أفضل في حالاتها الطبيعية وأداءها الاعتيادي، أم في حالاتها الطارئة والاستثنائية إبان الأزمات؟ ولعل الحالتين معًا كفيلتان بأن تقودنا لمعرفة ذلك، بيد أنهما من دون شك سوف يسمحان لنا أن نعرف ونكشف أمورًا أخرى مختلفة، فما التصورات والمعارف المحتملة التي يمكننا أن نستخلصها من فيروس كورونا؟

حين يصبح الاستثناء أمرًا عاديًا

إن الوباء الحالي ليس حالةَ أزمة معاكسة بشكل كلي للحالة الاعتيادية، فمنذ عقد الثمانينيات وتحديدًا حين نصّبت النيوليبرالية نفسها كممثلة لهيمنة الرأسمالية وأخضعت الأخيرة نفسَها بشكل مضطرد لمنطق القطاع المالي، دخل العالم في حالة أزمة مستديمة، وهي حالة شاذة بشكل مضاعف؛ فمن ناحية تغرق فكرة الأزمة المستديمة في المفارقات، حيث أن الأزمة بالمعنى اللغوي هي حالة استثنائية ومؤقتة بطبيعتها وتتيح فرصة للتغلب عليها وتفتح المجال للانتقال إلى حالة أفضل، ومن ناحية أخرى فعندما تكون الأزمنة عابرة فإن تفسيرها يجب أن يتم من خلال العوامل التي كانت سببًا في ظهورها، ولذلك فعندما تغدو الأزمة حالة مستديمة فإنها تصبح هي العامل الذي يُفسِّر كل شيء آخر، إذ يتم استدعاء الأزمة المالية - على سبيل المثال- لإعطاء تفسير للتدهور الذي تشهده السياسات الاجتماعية (الصحة، التعليم، الرفاه الاجتماعي) أو الاقتطاعات في الرواتب، وبهذه الكيفية يتم الحؤول دون التساؤل عن الأسباب الحقيقية للأزمة، ذلك أن هدف الأزمة  المستديمة  يكمن  في عدم إيجاد حل لذات الأزمة، وعليه يحق لنا أن نتساءل: ما غاية هذا الهدف؟!

ثمة هدفان مركزيان، أولهما هو إضفاء الشرعية على التمركز الفاضح للثروة وثانيهما هو الحؤول دون اتخاذ تدابير فعالة  لتجنب الكارثة البيئية الوشيكة، وقد أمضينا الأربعين سنة المنصرمة في هذا الاتجاه، ولهذا لا يقوم الوباء إلا بمفاقمة حالة الأزمة التي كان سكان العالم يقبعون في أسرها من قبل، وهنا يكمن خطرها تحديدًا، لا سيما إذا علمنا أن الخدمات الصحية العمومية في كثير من دول العالم كانت قبل عشرة أو عشرين عامًا من اليوم أكثر استعدادًا لمواجهة الجائحة.

مرونة الاجتماعي

إن أساليب العيش السائدة عبر كل حقب التاريخ (العمل، الاستهلاك، الهوايات، التعايش) أو تلك المتعلقة بتوقع الموت أو محاولة تأجيله، تكون صارمة نسبيًا، حتى يبدو وكأنه قد تم استلهامها من قواعد نُقِشت على حجر الطبيعة الإنسانية، وصحيح أنها تتغير تدريجيًا، لكن التغيرات غالبًا ما تمر دون أن ينتبه إليها أحد.

لا يرتبط ظهور جائحة معينة بهذه التغيرات، ويستدعي بالمقابل القيام بتعديلات جذرية، وهي تعديلات تصبح ممكنة فجأة بعدما كانت تبدو مستحيلة، إذ يغدو البقاء في البيت أمرًا غير مستحيل، كما هو أمر الحصول على وقت كافٍ لمطالعة كتاب وتمضية وقت أطول مع العائلة وتخفيض الاستهلاك والاقلاع عن عادة تمضية الوقت بالمراكز التجارية أو مشاهدة ما يُعرض للبيع  حتى ينسى الفرد  ما يريده هو فعلا، و هو شيء يمكنه الحصول عليه بطرق لا علاقة لها بالاقتناء.

هكذا إذن بدأت تتبدد تلك  الفكرة المحافظة التي لا ترى بديلاً ممكنًا لأسلوب العيش المفروض من قبل الرأسمالية المفرطة التي نعيش في كنفها، لكن كيف للبدائل أن توجد وقد وجد النظام السياسي الديموقراطي نفسه مضطرًا للتوقف عن مناقشة البدائل؟ ذلك أنه مع  طردها من النظام السياسي فإن البدائل ستدخل وبشكل مضطرد إلى حياة المواطنين من الباب الخلفي، أي عبر الأزمات الوبائية والكوارث البيئية والانهيارات المالية، ما يعني أن البدائل ستعود بأسوأ صيغة ممكنة.

هشاشة الإنساني 

إن صلابة الحلول الاجتماعية تثير في الفئات الأكثر استفادة منها شعورًا غريبًا بالأمان، فبالرغم أن الإحساس بانعدام الثقة لطالما كان موجودًا، إلا أن هناك طرق وموارد تقوم بتخفيفه، من قبيل الرعاية الطبية، سياسات التأمين، خدمات شركات الأمن، حصص علاج نفسي، صالات رياضية... إلخ . وهذا الشعور بالأمان يرافقه  شعور  بالغطرسة بل  قد تصحبه إدانة لجميع أولئك الذين يشعرون بأنهم ضحايا لنفس الحلول الاجتماعية. بيد أن تفشي الفيروس يقوم بتعطيل هذا الشعور العام ويقضي بين عشية وضحاها على الإحساس بالأمان، سيما أن الجائحة كما هو معلوم ليست عمياء ولها أهداف مختارة بدقة، لكنها رغم ذلك تثير وعيا بالوحدة على المستوى الكوني وبطريقة ديموقراطية نوعا ما، ذلك أن مصطلح الجائحة - ايتيمولوجيا - لا يستثني أحدًا بل يشير بدقة إلى الشعب بكامل مكوناته، وتكمن المأساة الثانوية خلف هذا الوضع في أن الأسلوب الأحسن لإعلان التضامن يتمثل في عزل بعضنا عن بعض دون القدرة حتى على المصافحة والتلامس، وهو ما يعني أنه تشارُكٌ غريب للمصير الموحد، ما يجعلنا نتساءل عن إمكانية وجود صيغ أخرى نتشارك من خلالها وحدة المصير. 

الغايات لا تبرر الوسائل

إن تباطؤ النشاط الاقتصادي، سيما  داخل أكبر دولة  وأكثرها ديناميكية في العالم، تترتب عليه نتائج سلبية واضحة، لكن من جهة أخرى فإنه لا يخلو من نتائج ايجابية مثل انخفاض تلوث الهواء، حيث أكد أحد المتخصصين في جودة الهواء يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) أنه لم يسبق أن تم تسجيل انخفاض كبير في مستوى التلوث داخل منطقة شاسعة بالعالم مثل الذي حصل مؤخرًا، فهل يعني هذا أن السبيل الأوحد لتجنب الكارثة البيئية التي توشك أن تحدث، وبشكل مضطرد مع بداية القرن الواحد والعشرين، لن يتأتى إلا من خلال تدمير شامل للحياة الإنسانية؟ هل فقدنا التصور الوقائي والقدرة السياسية على ترجمته على أرض الواقع؟

لقد طبقت الصين كما هو معلوم أساليب قمعية ورقابية بالغة الصرامة وبات واضحًا بشكل متزايد أن تلك التدابير كانت فعّالة، كما اتضح أيضًا أن الصين بجميع مزاياها تفتقر للميزة التي تجعلها بلدًا ديموقراطيًا. وبالمقابل فإن إمكانية تنفيذ تلك التدابير أو القيام بها على ذلك النحو والقدر في بلد ديموقراطي يبقى أمرًا مشكوكًا فيه، فهل يعني هذا أن الديموقراطية تفتقر للقدرة السياسية على مواجهة حالات الطوارئ؟

على العكس من ذلك، أظهرت مجلة الإكونوميستThe Economist  في بداية هذا العام أن  تكهنات دقيقة ترى أن الأوبئة قد تكون أقل فتكًا بالدول الديموقراطية بسبب التدفق الحر للمعلومات، لكن بما أن الديموقراطيات معرضة بشكل متزايد للأخبار المزيفة Fake News  فإنه يتعين علينا أن نفكر في حلول ديموقراطية قائمة على "ديموقراطية تشاركية" على مستوى الأحياء والبلديات وعلى تربية مدنية موجهة نحو التضامن والتعاون وليس نحو ريادة الأعمال والقدرة التنافسية بأي ثمن.

محاولة شيطنة الصين

لقد كشفت الطريقة التي تمت بها صياغة سردية الجائحة في وسائل الإعلام الغربية عن نية واضحة في شيطنة الصين، حيث ألمحت إلى أن الظروف الصحية السيئة في الأسواق الصينية وكذا العادات الغذائية الغريبة للصينيين (البدائية بزعمهم) هي من كانت خلف هذا الشر المستطير.  وقد تم تنبيه سكان العالم بشكل ملحوظ إلى الخطر المحدق بهم إذا ما سيطرت الصين على العالم باعتبارها ثاني قوة اقتصادية داخله، فإذا كانت الصين لم تستطع تجنب إلحاق مثل هذا الضرر بالصحة العالمية ولم تقدر على التغلب عليه بشكل فعّال، فكيف يمكننا إذن الوثوق بتكنولوجيا المستقبل التي تقترحها الصين؟.

لكن هل حقّا ولد الفيروس بالصين؟ وفقًا لمنظمة الصحة العالمية فإن أصل الفيروس لم يتم تحديده بعد، ولذلك فحديث بعض وسائل الإعلام الرسمية في الولايات المتحدة عن "الفيروس الأجنبي" أو عن "فيروس كورونا الصيني" يعتبر عملاً غير مسؤول، سيما وأن الدول التي تتوفر على أنظمة صحة عامة جيدة (ليس الولايات المتحدة من ضمنها) هي الوحيدة القادرة على القيام بإجراء فحوصات مجانية والكشف بدقة عن أنواع الانفلونزا التي ظهرت خلال الأشهر الأخيرة.

بعيدًا عن فيروس كورونا، فإن ما نعرفه حقيقةً هو أنه هنالك حربًا تجارية بين الصين والولايات المتحدة، وهي حرب من دون ثكنات، لكنها كغيرها من الحروب تنتهي بمنتصر ومنهزم، ومن وجهة نظر الولايات المتحدة فثمة حاجة ملحة لتحييد الصين من زعامة أربع قطاعات مهمة: تصنيع الهواتف المحمولة، الجيل الخامس للاتصالات (الذكاء الاصطناعي)، السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة.

سوسيولوجيا الغياب

لقد سببت درجة هذا الوباء صدمة قوية بالعالم، لكن رغم أن هذه الدراما لديها كل ما يبررها، فمن واجبنا أيضًا أن ننتبه إلى مناطق الظل التي تخلقها رؤيتنا، فعلى سبيل المثال حذرت منظمة أطباء بلا حدود من حساسية موقف الاف اللاجئين والمهاجرين المحتجزين في معسكرات الاعتقال باليونان تجاه هذا الفيروس، وذكرت أن أحد هذه المخيمات (مخيم موريا) يتوفر على صنبور مياه واحد لألف وثلاثمائة شخص وينعدم الصابون داخله، كما أنه ليس باستطاعة المحتجزين هناك أن يعيشوا إلا وهم مختلطين ببعضهم البعض، حيث تنام أسرة مكونة من خمسة أو ستة أفراد داخل مساحة تقل عن ثلاثة أمتار مربعة؛ كل هذا  يحدث  داخل أوروبا؛ لكنها أوروبا غير مرئية.

 

المصدر:

اليومية الأرجنتينية Pagina12

https://www.pagina12.com.ar/253465-coronavirus-todo-lo-solido-se-desvanece-en-el-aire?utm_term=Autofeed&utm_medium=Echobox&utm_source=Twitter#Echobox=1584502750

 


عدد القراء: 3826

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة عائشة من ألمانيا
    بتاريخ 2020-06-01 23:04:32

    مقال رائع و جد متماسك، شكرا لمجلتكم على نقل فكر هذا الفيلسوف الكبير الى العرب . و شكرا للترجمة الأنيقة .

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-