«بين القدس ومكة... قداستها وخلاصها الديني في القرآن والتراث الإسلامي» للمستشرق الإسرائيلي اوري روبينالباب: مقالات الكتاب
د. أحمد البهنسي مصر |
عرض وتقديم: د. أحمد البهنسي
الكتاب: " بين القدس ومكة...قداستها وخلاصها الديني في القرآن والتراث الإسلامي "
בין ירושלים למכה...קדושה וגאולה בקוראן ובמסורת האסלאם
المؤلف: اوري روبين
الناشر: ماجنس، الجامعة العبرية بالقدس المحتلة
مكان وسنة الإصدار: القدس المحتلة، ديسمبر 2019
عدد الصفحات: 328 صفحة
مقدمة:
احتل "القرآن الكريم" مكانة مهمة وبارزة من بين الإهتمامات والموضوعات المختلفة التي إهتم الاستشراق اليهودي عامة بجميع مراحله (اليهودي، الصهيوني، الإسرائيلي) بدراستها والتعرض لها بالترجمة والبحث والتحليل والدراسة والنقد، وهو ما ظهر جليًا في إعداد ترجمات عبرية مطبوعة وكاملة لمعاني القرآن الكريم صدرت في إسرائيل، إضافة إلى إعداد مقالات حول القرآن الكريم بالموسوعات اليهودية/الإسرائيلية، علاوة على كثير من الأبحاث والكتب والدراسات والمقررات الدراسية الإسرائيلية حول القرآن الكريم.
ويرى البعض أن أهم السمات المميزة للاستشراق اليهودي عامة وللاستشراق الإسرائيلي خاصة هو "غلبة الطابع السياسي"1 على موضوعاته وإهتماماته؛ إذ أن معظم إهتماماته وموضوعاته التي تناولها بالدراسة كانت سياسية وحتى الدينية منها أو اللغوية أو الأدبية أو التاريخية تم إستخدامها وتطويعها لخدمة أغراض سياسية، ويرجع سبب بروز تلك السمة في مرحلة الاستشراق الإسرائيلي خاصة، إلى إرتباط المجهودات الاستشراقية الإسرائيلية بكيان سياسي تم زرعه بالقوة في المنطقة وهو "إسرائيل"، لذلك لم يكن غريبًا أن يتم تجييش وحشد كل المجهودات الفكرية ومن ضمنها الإستشراقية من أجل خدمة هذا الكيان السياسي.
كما يُرجع البعض أسباب غلبة الطابع السياسي على الإستشراق اليهودي عامة والاستشراق الإسرائيلي خاصة، إلى أن الإستشراق يمثل بالنسبة لـ"إسرائيل" صمام أمان إستراتيجي وسياسي لا غنى لها عنه؛ نظرًا لقيامه- أي الاستشراق- بتقديم المجهودات العلمية والأكاديمية لصناع القرار الإسرائيليين حول القضايا المختلفة المرتبطة بالصراع العربي-الإسرائيلي، علاوة على تقديمه كمًا هائلاً من المعلومات حول جميع الشؤون العربية والإسلامية؛ الأمر الذي يمثل إفادة كبيرة بالنسبة لإسرائيل للتعرف عن قرب على البلدان العربية والإسلامية؛ إذ يُنظر للمجهودات الاستشراقية داخل إسرائيل على أنها مجهودات ذات بُعد قومي أمني استراتيجي2 ، فعلى سبيل المثال نجد أن الكثير من المؤلفات لواحدة من أبرز المستشرقين الإسرائيليين وهي "حافا لازروس"3 قامت وزارة الدفاع الإسرائيلية بترجمة عدد من كتبها من الإنجليزية إلى العبرية وإعادة إصدارها، ومنها كتاب "الإسلام: خطوط عريضة"عام 1980 وكتاب "أحاديث أخرى عن الإسلام" عام 1985 4.
في ضوء ما سبق، يأتي هذا الكتاب الماثل للعرض والتقديم كواحد من أحدث الاصدارات الاستشراقية العلمية حول مكانة مدينتي القدس ومكة في القرآن الكريم وفيما يعرف في الفكر الاستشراقي الإسرائيلي المعاصر بـ(التراث الاسلامي المبكر)، وقد صدر عن دار نشر "ماجنس" التابعة للجامعة العبرية في القدس المحتلة، والتي تعد أهم وأقدم جامعة في إسرائيل، وهو ما يعكس مدى اهتمام الدوائر العلمية والأكاديمية الإسرائيلية بالنص القرآني ودراسته من جانب، كما يعكس مدى الحرص الاستشراقي اليهودي عامة- من خلال كتاباته المعاصرة- على محاولة تطويع النصوص الدينية الإسلامية المقدسة لخدمة أهداف وأغراض فكرية وسياسية من جانب آخر، لاسيما تلك المتعلقة بمدينة القدس المحتلة.
يُبرز الكتاب كذلك ذلك "الطابع السياسي" في الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية المعاصرة؛ فاذا كان الاستشراق اليهودي قد تميز بأنه استشراق (ديني)، في حين تنوعت اهتمامات الاستشراق الصهيوني بين (الدينية والسياسية والتاريخية)، فإن الاستشراق الإسرائيلي تميز بغلبة الطابع (السياسي) عليه؛ إذ أن معظم اهتماماته وموضوعاته التي تناولها بالدراسة كانت سياسية وحتى الدينية منها أو اللغوية أو الأدبية أو التاريخية تم استخدامها وتطويعها لخدمة أغراض سياسية5. وهو ما يظهر في محاولة اثبات الكتاب عدم قدسية مدينة القدس لدى المسلمين وفي مصادرهم الدينية، وأن صراعهم السياسي عليها ليس له أسس دينية ثابتة ومقدسة.
كما يظهر من خلال الكتاب استخدام مؤلفه للمنهج (الاسقاطي) Projection سواء على مستوى فكري أو سياسي؛ إذ يظهر من خلال الكتاب محاولة مؤلفه إيصال أفكار وإثبات أيديولوجية استشراقية إسرائيلية ذات خلفيات صهيونية تتعلق بمدينتي القدس ومكة من خلال استخدام المنهج الإسقاطي وأدواته المختلفة.
يقوم "المنهج الإسقاطي" على "تفسير الأوضاع والمواقف والأحداث بتسليط الخبرات والمشاعر عليها، والنظر إليها من خلال عملية انعكاس لما يدور في داخل النفس البشرية"6. وتنحصر أدوات هذا المنهج في استبدال الظاهرة المدروسة بظواهر أخرى، تمثل أشكال الأبنية النظرية الموجودة في ذهن المستشرق، فهذا المنهج يتمثل في خضوع الباحث أو المستشرق لهواه، وعدم استطاعته التخلص من الانطباعات التي تركتها لديه بيئته الثقافية، كذلك عدم تحرره من الأحكام المُسبقة (الأيديولوجيا) التي كوَّنها حول موضوع بحثه، سواء كانت هذه الأحكام عقلية أو انفعالية أي (غير موضوعية)، مع أن التحرر من ذلك يعد هو الشرط الأول للبحث العلمي7 .
وقد يكون الإسقاط (مطلقًا) عندما لا يرى المستشرق من الظاهرة التي أمامه شيئًا، ولا يرى فيها إلا صورته الذهنية وأفكاره المُسبقة عنها، وقد يكون (نسبيًا) عندما يرى الظاهرة ولكن يضيع منه تفسيرها الحقيقي وكيفية خروجها من النص الديني8 .
ونظرًا لأهمية مؤلف الكتاب المستشرق الإسرائيلي البروفيسور "اوري روبين" وتأثير كتاباته حول القرآن سواء داخل إسرائيل أو خارجها، فإننا قُبيل الشروع في عرض أهم محتويات الكتاب، نستعرض أولاً سيرته الذاتية العلمية ونبذة عن أهم مؤلفاته حول القرآن لكريم، وذلك على النحو التالي:
أولاً: مؤلف الكتاب وسيرته العلمية:
يعد المستشرق الإسرائيلي البروفيسور اوري روبين אורי רובין واحدًا من أهم وأبرز المستشرقين الإسرائيليين المعاصرين المختصين في الدراسات القرآنية؛ فصفته العلمية الحالية هي أستاذ (شرفي) للدراسات القرآنية والتراث الإسلامي المبكر في قسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الدراسات الإنسانية والاجتماعية – جامعة تل أبيب.
ولد روبين بفلسطين في 24/6/1944، والتحق في بداية عقد الستينيات من القرن الماضي بمركز המגמה המזרחנית (التوجه الاستشراقي) المختص في تعليم اللغة العربية، والذي كان يلتحق به الطلبة الإسرائيليين المُجيدين للعربية، وبه تعلم اللغة والأدب العربي، وكيفية التعايش مع السكان العرب، حيث كانت تُدرَّس به بعض المواد القيِّمة مثل العربية الكلاسيكية (الفُصحى)، والقرآن، والتي من خلالها عرف الكثير عن العالم الإسلامي وعن حياة النبي محمد ؛ إذ تعلم به تراثًا دينيًا خالصًا، لاسيما ما يتعلق منه بالعربية والإسلام، فقد وجد نفسه مُحبًا لكل ما يتعلق بالعربية وبالإسلام، مدفوعًا بإحساسه بالأهمية البالغة لمعرفة الكثير عنهما نظرًا – حسب رأيه- لسيطرة رجال الدين على العالم العربي المحيط بإسرائيل9 .
حصل على شهادتي ليسانس (اللقب الجامعي الأول) من جامعة تل ابيب، أولهما عام 1969م في تخصص الدراسات التوراتية وتاريخ الشرق الأوسط، وثانيهما في عام 1972م في تخصص اللغة العربية10. كما حصل عام 1970م على "شهادة دراسية تكميلية" من جامعة تل أبيب في تدريس الكتاب المقدس، وفي عام 1976م حصل من الجامعة نفسها على شهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية، وكانت تحت عنوان "النبي محمد في التراث الإسلامي المبكر" تحت إشراف البروفيسور "مائير يعقوب كيستر" M. J .Kister، الذي يعد من كبار أساتذة اللغة العربية بمعهد الدراسات الأفرو- آسيوية بالجامعة العبرية، كما يسمى بـ"أبو الاتجاهات الاستشراقية" في التعليم العبري المتوسط؛ إذ تمت الاستعانة به في وضع الكثير من المناهج التعليمية الخاصة بالإسلام والعرب التي تدرس في مراحل التعليم المتوسط بالمدارس الإسرائيلية11 .
شغل "روبين" عدة مراكز علمية وبحثية كثيرة داخل أقسام ومراكز الدراسات العربية والإسلامية بالجامعات الإسرائيلية، كان أبرزها رئاسته قسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الإنسانيات (الآداب) – جامعة تل أبيب لمدة ستة أعوام في الفترة 1984-1990؛ ثم تمت ترقيته منذ 1/11/1994 إلى درجة "أستاذ" بالقسم12.
للبروفيسور "روبين" العديد من المؤلفات في مجال الدراسات القرآنية من أشهرها ترجمة العبرية لمعاني القرآن الكريم التي صدرت طبعتها الأولى عن جامعة تل أبيب عام 2005. وكذلك ثلاثة كتب بالإنجليزية، وهي:
-1 The Eye of the Beholder: the Life of Muhammad as Viewed by the Early Muslims (a Textual Analysis), Princeton, 1995.
2-2 Between Bible and Qur'an: the Children of Israel and the Islamic Self-Image. Princeton, 1999.
3-3 Muhammad the Prophet and Arabia, Variorum Collected Studies Series, Ashgate, 2011 .13
علاوة على الكتاب الماثل للعرض الذي صدر بالعبرية، وكتاب آخر بالعبرية صدر أواخر عام 2019 بالعبرية وحمل عنوان הקוראן...דבר הקול האלוהי אל מוחמד השליח كلام الصوت الإلهي إلى محمد الرسول14.
كما أن له عدة مقالات علمية حول القرآن الكريم باللغتين العبرية والإنجليزية، من أبرزها: הארץ המובטחת ואחרית הימים בקוראן ובמסורת האסלאם الأرض الموعودة ونهاية الأيام بالقرآن والتراث الإسلامي عام 2018 ضمن أعمال كتاب تذكاري حول المستشرق الإسرائيلي موشيه جيل15. ومقال “Moses and the Holy Valley Tuwan: On the biblical and Midrashic background of a Quranic scene”, Journal of Near Eastern Studies 73/1 (2014), 73-81 .16.
ثانيًا: محتويات الكتاب:
اشتمل الكتاب على العديد من الموضوعات والقضايا التي تتعلق بمدينتي مكة والقدس ومكانتهما ومدى قدسيتهما في القرآن الكريم والتراث الإسلامي، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1 - القدس ومكة في القرآن والتراث الاسلامي:
أشار مؤلف الكتاب في مقدمته إلى أنه يسلط الضوء على تاريخ المكانة المقدسة للقدس ومكة في القرآن وفيما يُسمى بـ"التراث الإسلامي المبكر"؛ فمكانتهما المقدسة بارزة في القرآن الكريم الذي ورد فيه كيف أسرى الله بالنبي محمد خلال الليل من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى، والذي يرى الكتاب أن هذا المسجد - أي المسجد الأقصى- ليس هو الموجود حاليًا في مدينة القدس.
ويرى الكتاب أن القدس غير مذكورة في القرآن بشكل عام، عدا آية واحدة فقط تحدثت عن هذه المدينة والمسجد الذي يوجد جنوبي "جبل الهيكل" (تسمية يهودية للحرم القدسي الشريف)، وهي الآية الأولى من سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، مضيفًا أن معظم المسلمين يفسرون مصطلح (المسجد الأقصى) على أنه المسجد الذي بالقدس، إلا أن البحوث الحديثة أثبتت عكس ذلك، وأن محمدًا حاول اللعب بورقة قدسية هذه المدينة للتقرب من اليهود والنصارى في عصره.
أضاف الكتاب أنه بالمقارنة بين قدسية مكة وقدسية القدس في الإسلام، نجد أن الأولى كانت لها قدسية كبيرة وخاصة أن الحجر الأسود بها يعد واحدًا من الطقوس والشعائر الأساسية المتعلقة بشعيرة الحج في الإسلام، أما القدس فلم تنل قداستها في الإسلام إلا في عهد الأمويين (661-750م) الذين حاولوا تعضيد سلطتهم وإيجاد بديل مقدس لمكة.
في هذا الصدد كذلك، استعرض الكتاب مواقف الباحثين والمستشرقين حول مكانة القدس وقدسيتها، ويرى أنهم اتخذوا (موقفًا وسطيًا) من هذا الأمر، واعتبروا أن القدس كانت لها قداسة في بدايات ظهور الإسلام، لكن هذا الموقف المحمدي منها لم ينجح في استمالة اليهود إلى جانبه في بداية دعوته، وهو ما أدى به إلى استبعادها والتركيز على قدسية ومكانة مكة وما يحيط بها.
أما روبين فيطرح رؤية مغايرة من خلال هذا الكتاب الماثل للعرض؛ إذ يرى أن القدس كانت مقدسة في البدايات الأولى للإسلام، لكنه يلفت الانتباه إلى ضرورة التمييز بين مكانتها في السور المكية ومكانتها في السور المدنية؛ فيرى أن قداستها تبلورت بشكل قوي في السور المكية، وهي الصورة التي تغيرت في السور المدنية، كما أن "مكانتها المُختارة" وردت في التراث الإسلامي الديني الشفوي بشكل كبير.
أضاف روبين في هذا الكتاب أيضًا، أنه فيما يتعلق بالتراث الديني الإسلامي في القرون الأولى من الإسلام، تشكَّل موقفان مغايران تجاه القدس ومكانتها، الأول: يرى بالقدسية الأبدية لأرض فلسطين بما فيها القدس والحرم القدسي وقبة الصخرة في وسطه، والثاني: مُخالف ويرى بقدسية مدينة مكة وما حولها وأفضليتها عن أية مدينة أخرى، مشددًا على أن هذه المواقف لم تكن بعيدة أبدًا عن المواقف والأجواء السياسية السائدة في ذلك العصر، ولم تكن بعيدة أيضًا عن المواقف القبائلية والاقتصادية وحتى الشخصية.
رأى الكتاب كذلك، أن ما سمَّاه بـ"التخبط" الواقع في القرآن حول قداسة كل من مكة والقدس، يعود إلى التغييرات التي حدثت في العلاقات بين محمد واليهود العرب، ومع مجيء المسلمين الأوائل إلى فلسطين بعد وفاة محمد اُستعيدت بأذهانهم مرة أخرى القداسة القرآنية حول المسجد الأقصى، فيستعرض الكتاب تعاظم تلك القداسة سواء للقدس أو للشام في هذه الفترة بشكل عام؛ إذ يرى أنه بعد وفاة محمد صارعت مكة للحفاظ على مكانتها كمدينة مقدسة في الإسلام، فيستعرض الرؤى المركزية التي تم تداولها خلال هذ الفترة حول قداسة كل من القدس ومكة في التراث الإسلامي الذي يعود لهذه الحقبة التاريخية.
يناقش الكتاب كذلك قداسة مدينة مكة والكعبة كما هي في القرآن، ويرى أن القرآن حاول إضفاء قداسة على مكة مستمدة من التراث الديني قبل الإسلام المتبلور حول صورتي إبراهيم وإسماعيل كما وردت في القرآن، معتبرًا أن ما سماها بـ(الرؤى الإبراهيمية) حول مكة وقداستها كانت موجودة قبل محمد بعشرات السنوات، وأنه لما جاء بدعوته فانه بالتأكيد قد وقع تحت تأثيرها، وأن هذا التراث الابراهيمي سواء حول مكة أو القدس كان صاحب التأثير الأكبر على رؤية الإسلام لقداسة هاتين المدينتين، ذلك التأثير الذي فاق التأثير النصراني أو حتى اليهودي على محمد بهذا الصدد.
2 - الرؤية الخلاصية:
اعتبر الكتاب أن جذور قداسة مكة والقدس في الإسلام موجودة بالقرآن، وأن هذه الجذور لا يمكن فصلها عن ما سماها بـ"الرؤية الخلاصية" التي تأسست في القرآن حول المدينتين ومفادها أن الإله يضع خطة خلاصية للمؤمنين به على مر الأجيال، وهذا الخلاص مرتبط بهاتين المدينتين أو بإحداهما.
وأضاف الكتاب أن مدينة المدينة أو يثرب توجد في نفس هذا المجال المتعلق بالرؤية الخلاصية في القرآن، وقد ذُكرت في الآية 13 من سورة الأحزاب: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)، غير أن مكانة مكة المقدسة في الاسلام بُصمت بطابع قداسي له جذور تسبق الإسلام، وبالتالي فان قداسة مدينة المدينة تعد حديثة إلى حد كبير على مكة وحتى على القدس، ونشأت بسبب قدوم النبي محمد إليها الذي مات ودُفن بها.
كما رأى الكتاب أن قداسة مدينتي مكة والمدينة ظلت أمورا فكرية متوارثة على مر الأجيال الإسلامية وغير منفصلتين عن بعضها البعض؛ إذ ينتميان لنفس الأصل المقدس وهو القرآن الذي لا يمكن فهم طبيعة قداسة هاتين المدينتين بدون العودة اليه، أو حتى العودة إلى التراث الفكري والديني في منطقة الشرق الأدني القديم قبل ظهور القرآن.
أشار الكتاب كذلك إلى الآيات القرآنية التي يمكن من خلالها التمييز بين أسس قداسة مكة والقدس، والتي تُظهر تلك الأفضلية التي أعطيت في القرآن للكعبة ومكة وما حولها على القدس وأرض فلسطين وما حولها، وهو ما يساعد على فهم قداسة القدس تحديدًا ليس في القرآن وحسب، بل في التراث الإسلامي المبكر، ففي القرون الأولى من الإسلام وخاصة في عهد الخلفاء الراشدين لم تكن القدس مطروحة بشكل قوي في مجال مفاهيم القداسة الإسلامية للمدن والمناطق، أما في عهد الأمويين فقد اختلف الأمر لأسباب بدت إنها سياسية.
حدد الكتاب امكانية الوقوف على شكل ومدى قداسة مدينة القدس من خلال خمسة عوامل أو محددات، وهي: 1 - سُرة الأرض (مصطلح توراتي يشير إلى بعض الأماكن المقدسة في اليهودية مثل جبل طور سيناء)، 2 - أرض الخلاص، 3 - أرض البعث، 4 - أرض الأنبياء، 5 - أرض القداسة.
ويرى الكتاب أن هذه المحددات الخمسة انطبقت على القدس وأرض فلسطين في التراث الإسلامي، وأن بعضًا منها ينطبق على الكعبة وأرض مكة، وأن مكة استمدت بعض هذه المحددات سواء من مصادر قرآنية أو مصادر غير قرآنية، وأن كل محدد من تلك المحددات به عدد من الأفكار (الخلاصية) التي تربط بين الإله والمؤمنين به، كما تربط بين الإله ومفهوم القداسة سواء للأشخاص أو للأماكن، مضيفًا أن هذه المحددات تعكس رؤية الاله الخلاصية لأجيال المؤمنين به سواء خلال عصر النبي محمد أو ما قبله.
استخدم مؤلف الكتاب كذلك في أحد فصوله (المنهج المقارن) لاستبيان مدى القداسة بين مدينة وأخرى في الإسلام وتراثه المبكر، وذلك من خلال مقارنة عدد من الآيات القرآنية ببعضها البعض وكذلك المقارنة بين نصوص التراث الإسلامي وبعضها البعض، وخلص إلى أن القدس في الإسلام تعد مكانًا لصلاة المؤمنين، وأنها تُضاهي قداسة مكة لكن لا يمكن مساواتها بها تمامًا على الاطلاق، ولم تحظ القدس بالمكانة المقدسة لمكة لا في القرآن أو في التراث الاسلامي المبكر. وذلك رغم قِدم مفاهيم القداسة المتعلقة بهذه المدينة في الإسلام، ضاربًا المثال بتفسير "مُقاتل سليمان" ( توفي 150 هـ/ 767م) والذي ورد به الكثير من المديح والتبجيل للقدس كمدينة لا تضاهيها مدينة أخرى في الاسلام.
3 - إشكالية المصطلحات:
استعرض الكتاب، إشكالية المصطلحات المتعلقة بمدينتي القدس ومكة سواء في القرآن أو في التراث الاسلامي أو حتى في الفكر الاستشراقي اليهودي المعاصر، فبالنسبة لمصطلح (الشام) يرى أنه من المصطلحات الشائعة في التراث الإسلامي المبكر وحتى خلال فترة بعثة النبي محمد، وهو يشير إلى الجزء الشمالي من شبه الجزيرة العربية، ويتضمن "أرض إسرائيل" (مصطلح استشراقي يهودي يشير إلى فلسطين المحتلة)، كما يتضمن الأردن وسوريا.
وأضاف أن صورة المصطلح (سورية) توجد في النصوص الإسلامية التي تصف احتلال العرب لمناطق خارج شبه الجزيرة العربية، وأنها لا تعني منطقة الشام تحديدًا.
أما مصطلح (فلسطين) فيشير إلى أنه يستخدم في جميع المصادر الاسلامية، واصفًا إياه بأنه الصورة العربية لمصطلح (ארץ ישראל أرض إسرائيل) منذ عهد القيصر الروماني ادريانوس (توفى 138م) وكان مقابله اللاتيني هو (Palestina)، مضيفًا أن المصطلح (فلسطين) كان معروفًا أيضًا بين العرب في عهد محمد، وشائع في الكتابات التراثية حول سيرة حياته، في حين أن مصطلح (الشام) الذي يشير إلى سوريا وأراضي غرب الأردن غير موجود في هذه الكتابات التراثية بشكل كبير.
وأشار الكتاب أنه في القرآن ذاته يُذكر مرات ومرات مصطلح ( ארץ ישראל أرض إسرائيل)، لكن ليس بهذه الصورة وبهذا الاسم بالتحديد، الذي لم يستخدمه المسلمون أبدًا، لكن مؤلف الكتاب استخدمه بغرض التوضيح، مشيرًا إلى أنه في الآية 21 من سورة المائدة (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) ذُكرت اسم الأرض التي أمر موسى بني إسرائيل أن يدخلوها ووُصفت بالأرض المقدسة وهي إشارة إلى أرض إسرائيل التي ورثها بني إسرائيل، والتي وُصفت في آية قرآنية أخرى، وهي الآية 137 من سورة الأعراف (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) بـالأرض التي باركنا حولها، وهي نفسها الأرض المباركة التي جاء إليها إبراهيم منذ صغره وذكرت في الآية 71 من سورة الأنبياء (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)، وهي الأرض التي يوجد بها المسجد الأقصى التي بارك الإله حوله كما وردت في الآية الأولى من سورة الإسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، غير ذلك فإن القرآن يصف هذه المنطقة بمصطلح (أدنى الأرض) أي الأرض القريبة كما هو وارد في الآية 3 من سورة الروم (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ).
أما مصطلح (أورشليم)، فقد أشار الكتاب أنه غير منتنشر في المصادر العربية، لكنه استخدمه في الكتاب لغرض التوضيح كذلك، إلا أن بعض المصادر أشارت إلى أن القدس كانت تُسمى في زمن محمد بإسم (ايلياء) وهو في الأصل يعود لمصطلح (Aelia Capitolina) الذي أطلقه الرومان على القدس منذ عهد القيصر الروماني ادريانوس، لكن المصادر العربية التي تحدثت عن حياة محمد ورد بها اسم (بيت المقدس). وقال بعض الباحثين إن هذا الاسم اُستخدم فقط بعد ووفاة محمد في إشارة للقدس، لكن هذا المصطلح لا يشير في كل الأحوال إلى مدينة القدس لكن أحيانًا ما يشير إلى منطقة المسجد الأقصى، الذي يُعد هو المصدر الأول لهذا المصطلح أو الاسم.
ورأى مؤلف الكتاب أن مصطلح (بيت المقدس) هو مصطلح عبري في الأصل ويقابل صورة المصطلح العربي (مسجد) الوارد في القرآن لوصف بيت المقدس كما هو في الآية 7 من سورة الاسراء (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)، والذي يصف كذلك أحد المواقع التي زارها محمد خلال رحلة الإسراء والمعراج. كما هو وارد في الآية الأولى من السورة نفسها (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
بالنسبة لمصطلح (قبة الصخرة)، فوصفه الكتاب بأنه يشير إلى ذلك البناء الذي اُقيم على (جبل اليهكل) "مصطلح يهودي يشير إلى الحرم القدسي الشريف"، خلال عهد الخليفة الأُموي عبدالملك بن مروان ( توفي 86هـ/705م) ويوجد حتى الآن ومشهور بقبته الذهبية، إلا أنه غير مذكور بالقرآن الذي ورد به فقط مصطلح (المسجد الأقصى).
الهوامش والمراجع:
1 - أحمد صلاح البهنسي: الاستشراق الإسرائيلي، الإشكالية، السمات، الأهداف، مجلة الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، العدد 37، 2007، ص 470.
2 - أحمد البهنسي، الاسقاطات السياسية في الترجمات العبرية الحديثة لمعاني القرآن الكريم... دراسة تحليليّة نقديّة لنماذج مختارة، بحث ضمن كتاب مؤتمر الترجمة واشكالات المثاقفة (3)، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2017، ص 689.
3 - حافا لازروس يافيه (1930-1998م): مستشرقة إسرائيلية من أصول ألمانية مواليد عام 1930م، تركزت أعمالها على التاريخ الإسلامي خلال القرون الوسطى، وكان موضوع رسالتها في الماجسستير والدكتوراة حول أبي حامد الغزالي (عطوة الحاج ابو وعنزه، حافا لازاروس يافا، مستشرقة إسرائيلية حياتها وأعمالها، على الرابط:
4 - أحمد صلاح البهنسي: الاستشراق الإسرائيلي، الإشكالية، السمات، الأهداف، مرجع سابق، ص 475.
5 - أحمد البهنسي، الاسقاطات السياسية في الترجمات العبرية الحديثة لمعاني القرآن الكريم... دراسة تحليليّة نقديّة لنماذج مختارة، مرجع سابق، ص 690.
6 - أسعد رزق، موسوعة علم النفس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1987م، ص40.
7 - حسن حنفي: التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، بدون تاريخ، ص 76-77.
8 - نفس المرجع، ص 66.
9 - انظر: صفحة" روبين" على الانترنت www.urirubin.com
10 - أحمد البهنسي، ترجمة معاني القرآن الكريم إلى العبرية...اوري روبين أنموذجًا، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2017، ص 11.
11 - المرجع نفسه.
12 - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
13 -انظر: صفحة" روبين" على الإنترنت www.urirubin.com
14 - المرجع نفسه.
15 - المرجع نفسه.
16 - المرجع نفسه.
تغريد
اكتب تعليقك