صرصار العيد (قصة قصيرة)الباب: نصوص

نشر بتاريخ: 2020-06-01 04:47:33

خالد سعيد الداموك

الرياض

أولاً؛ يجب أن أخبركم أنه العيد، بل صباح العيد، وما دمتُ قد أخبرتكم بذلك، فكل عام وأنتم بخير.

أما ثانيًا؛ فهل تعرفون سوير الليل؟ أو صرار الليل؟ أو صرصار الليل؟ أو الجدجد؟

لا أعتقد أن أحدًا منكم لم يعرفه بعد كل هذه المسميات! فما إن توافد الناس لأداء الصلاة في المشهد الكبير حتى أصبح بطل هذه القصة.

ومما يجب إخباركم به أيضًا، أن السجاجيد التي بُسطت في المشهد جيء بها من مستودع مسجدٍ قريب. لقد رأيتُ عمالاً كثر بزيٍ موحد يحملونها على عواتقهم بعد صلاة العشاء ويضعونها في شاحنة، ثم ينقلونها إلى المشهد الذي لم يكن بعيدًا. وبناءً عليه، فأنا أعتقد ولست جازمًا بذلك، أن هذه الحشرة المسكينة كانت تسكن سجاجيد مستودع المسجد بكل رخاء ودعة وطمأنينة قبل أن يحدث لها ما حدث صباح العيد.

كان نور الشمس ينتشر في القبة السماوية عندما دخلتُ المشهد. خلعتُ نعلي وحملتهما في يدي ورحت أقفز على السجاجيد متخطيًا الصفوف الخلفية الفارغة، وانتخبت لي مكانًا في الصف الرابع خلف الإمام مباشرةً. ورغم أن الصف الذي أمامي كان خاليًا، إلا إني آثرت الابتعاد قليلاً حتى لا أرهق عنقي برفعها لرؤية الإمام عندما يبدأ الخطبة.

عندما رأيت الصرصار أول مرة، كان الناس يرفعون أصواتهم بالتكبير:

"الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله"

"الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد"

تقدم الصرصار من الخلف مخترقًا المسافة بيني وبين الرجل العجوز الذي يجلس بجانبي. كان أسودًا عتيدًا ويبدو أنه كبير في السن. ليس عجوزًا كما أعتقد، ولأكون أكثر دقةً؛ فأظن أنه في مرحلة الرجولة واكتمال النضج، كما أنه يتمتع بصحةٍ جيدة كما هو واضح. له ست أرجل وقرنا استشعار طويلان في مقدمة رأسه. قائمتاه الخلفيتان طويلتان ومثنيتان بجانبه. ويقع في مؤخرته - ولست متأكداً إذا ما كان ذلك ذيلاً- دبوس طويل يضفي عليه مهابةً تجعلك تعتقد أنه قد يستخدمه في لدغك.

تقدم من بيننا الصرصار وهو يمشي بتؤدة إلى الصف الذي أمامنا وأنا والعجوز ننظر إليه. حشر نفسه بين مصلين من الجنسية الباكستانية جاؤوا سويةً وجلسوا في الصف الفارغ أمامي بعد جلوسي بقليل. كانوا أربعة، رفعوا ذيول أرديتهم (الكورتا) معًا وجلسوا معاً كما لو كانوا توائمًا يحدسون بحركات بعضهم. الجدجد دار بين اثنين منهم ولم يشعروا به. مشى إلى الأمام قليلاً قبل أن يستدير نحونا متأملاً وجه العجوز لوهلة، وعندما لم يجد فيه ما يثير فضوله، عاد ليوليه دبوسه ويثب وثبةً جميلة، صغيرة، متقدمًا إلى الأمام. ويا الله كم أعجبتني الوثبة!

كان يبدو حائرًا في تحركاته، لا يعرف كيف جاء إلى هنا ومنهم هؤلاء الناس ولماذا يحيطون به بهذه الطريقة. كما أنه بدا منهكًا من الشمس التي تسلقه. يحاول الهروب منها ويبحث عن زاويةٍ معتمة يُدخل جسده فيها وينام حتى يستيقظ لليلٍ جديد ويتخلص من هذا الكابوس المرعب.

كان قد داخلني القلق منه رغم تقدمه إلى الأمام. نظر فيما حوله ثم زحف بمحاذاة الباكستانيين قبل أن يلتفت أحدهم فيقع بصره عليه. بهذه البساطة، نظر إلى الأرض فوجده بجانبه. وبلا تفكير، وضع الباكستاني كفه بجانب الجدجد وقوس سبابته مستعينًا بإبهامه ونبله بعيدًا كما يفعل لاعب كيرم محترف. هكذا! بسرعة وتلقائية، أعطاه نبلةً قويةً بسبابته ولست أعلم إذا ما تهشم جزء من الصرصور على إثر هذه النبلة التي طوّحت به بعيدًا. إنه من القشريات، أليس كذلك؟ ألا يتضرر جسد قشري ضعيف بمثل هذه النبلة؟ لستُ أعلم! المهم أن هذه النبلة الإصبعية طيّرت الصرصور بعيدًا ورأيته يرتطم بظهر أحد المصلين في الصف الذي يقع أمام الباكستانيين ثم يسقط على الأرض ويختفي عني. حاولت التطاول بجسدي لأتأكد مما حدث له ولكني لم أستطع رؤيته. وعندما أدرت بصري نحو الباكستاني المجرم، رأيته يتبادل كلماتٍ ساخرة مع صديقه المجاور له ويشير بفمه إلى الأمام قبل أن ينسياه وينشغلا بالتكبير كما انشغلتُ أنا أيضًا.

"الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله"

"الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد"

الأمر لم يطل كثيرًا، فبعدها بقليل قفز صبي في العاشرة من مكانه صارخًا أمام الباكستانيين. وقف وهو ينظر برعب إلى الأرض. دار على محوره ونفض ثوبه ثم رفعه حتى انحسر عن منتصف ساقيه. وما إن أمسك والده حذاء الصغير اللامعة ورفعها فوق رأسه، حتى صاح الصبي في وجه والده وارتمى عليه ليمنعه مما عزم عليه. أدخل رأسه في حجر والده، بل جسده كاملاً وهو يتمسح فيه. الأب حاول التخلص من ولده ليبحث عن الجدجد ولكن الصبي لم يتح له الفرصة. وبعدها رأيتهما ينظران معًا يمنةً ويسرةً فعرفت أنهما فقدا أثره فداخلني الارتياح. كان الخوف باديًا على وجه الصبي، وأعتقد أنه خوف مختلط ينبع مكمنه الأول على حذائه الجديد، والثاني من الصرصار الذي لم يأمن عواقبه ما دام لم يحدد مع والده مكانه.

أيضًا لم يطل الأمر كثيرًا ونحن ننشغل بالتكبير، رأيتُ الصرصار يزحف عائدًا من بين الباكستانيين. كان المسكين يعرج. يزحف على الأرض بمعاناة واضحة. أصبح أكثر تباطؤًا مما كان عليه. وثبته التي قام بها بعد أن مشى قليلاً كانت منحرفة. وبعد اجتيازه مقعدتي الباكستانيين، وجد فرجةً مرتفعة من السجاد الذي تحتهم فانسل إليها وحشر جسده فيها محاولاً الاختباء عن الضوء الذي أعمى بصره. هذا ما كان يبحث عنه، مجرد ظلمة يختبئ فيها، سواد يشبه جسده ليرتاح فيه.

مرت خمس دقائق وهو تحت السجاد فتأكدت أنه لن يخرج، لم يصدر صريرًا، لم يتحرك، ولم يطل برأسه، لقد وجد أخيرًا ما يبحث عنه.

كنت أراقب الفرجة عندما ارتفعت همهمات المصلين. نظرتُ إلى مقدمة الصفوف، فإذا بالإمام يتقدم مسرعًا أمام الناس من الجانب الأيسر للمشهد وعباءته تتطاير عن جسده. يمشي بخطى حثيثة أمام الصف الأول والناس ينظرون إليه وهو لا ينظر إليهم متجهًا إلى المحراب الخشبي المؤقت الذي وضع له. قفز رجلٌ من الصف الأول قبل وصوله وضرب مكبر الصوت مرتين فضج الفضاء بصوت فرقعةٍ مدوية. الناس راحوا يقفون تباعًا كما لو كانوا موجة جماهير في ملعب كرة قدم. وما إن انتصب الإمام في محرابه حتى تعالى صوته في المكبر: "استووا.. اعتدلوا.. سووا صفوفكم يرحمكم الله وسدوا الفُرج وحاذوا بين المناكب والأكعب"

وقفتْ الحشود استعدادًا للصلاة بمن فيهم الباكستانيين، الخشوع يطغى عليهم دون أن يعرف أحدهم أنه يهرس الصرصور بقدميه تحت السجاد الذي يقف عليه. ومع تكبيرة الإمام الأولى أطل الصرصار برأسه ونظر إليّ كأنه يستنجد بي. كان يرزح تحت وطأة الضغط ولا يحرك ساكنًا. ثم مع التكبيرة الثانية تحرك الباكستاني فوثب الصرصار خارجًا من مكمنه الذي لم يكد يستمتع به ليتخلص من الضغط الكبير الذي يقع على كاهله. قفز أولاً على سجادتنا بين موضع سجودي وسجود العجوز الذي بجانبي. كان يبدو متألمًا بشدة، تخبط في وثباته المتتالية ولم يمشِ أو يزحف مما ينم عن فزعه. وثب على الجانب الأيمن وأنا أنظر إليه وأكبّر خلف الإمام، ثم راح يثب نحو الصفوف الأمامية بلا اتزان. وعندما وصل إلى الصف الذي أمامي، شاهده أحد الباكستانيين فجفل مرعوبًا في مكانه. سمعته يقول في صلاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" وهو ينظر إلى الأرض. الصرصار لم يأبه به، وثب بالقرب من قدمه متقدمًا إلى الأمام حتى غاب عن نظري. لم يلبث سوى لحظة حتى غاب عني ولكني رأيت ما يدل على وجوده عندما قفز أحدهم في الصف الثاني أمام الباكستاني، ثم بعد ذلك قفز شخص ثالث في الصف الأول خلف الإمام، وقبل أن يبدأ الإمام بقراءة الفاتحة، رأيتُ رأسه هو الآخر يقفز فزعًا في محرابه ثم وقع على الأرض وصوته يتعالى في المكبر: "ألعن من أنت له! وش جاب ذا هنا؟"


عدد القراء: 3583

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة رقية نبيل عبيد من مصر
    بتاريخ 2020-09-04 04:34:11

    أهي البساطة أم تلقائية السرد أم المحور الطريف للقصة أم وصف أجواء العيد في بلد كبرت تحت سماه؟ المهم أن القصة نالت إعجابي وأضحكتني كثيرًا .

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-