دهشة النهايات (قصة قصيرة)الباب: نصوص

نشر بتاريخ: 2020-06-01 04:55:11

بسمة الشوّالي

تونس

1

سقط صوته عليّ عفوًا وقد غفوت فأربك ركودَ سمعي الغافي. لمّا أنكر صوتي المتثائبَ، اعتذر. أقفل الخطّ، وانتهى الأمر. لم أُول اهتمامًا للرّقم على شاشة الهاتف، فعيني رخوة الجفن يغازلها الكرى، وقلبي مشغول، كعادته كلّ مساء، بتأثيث غرفة في منزل اللّيل لصاحبِ مجهول ينتظر قدومه كلّ ليلة، ولا يأتي ليحتلّ مكان صاحبه الأوّل الذي ترك مسكنه فيّ خاليًا، مهدّمًا، تعوي فيه ذئاب المواجع، وترجّع حناياه صدى الخصام والصّراخ والعويل، حتى بعد مضيّ خمس من السّنين على الطلاق.

أقفلت إلى النّوم أسعى. بعد تقلّب ذات الجنبين وأحلام شتّى، انتفض الصّبح من مرقده يتصبّب بالنّدى والذّعر. الهاتف يرنّ من جديد..

 تثاءبت:

- آآلوو ..

- صباح الخير. أعتذر ثانية.

أقفل الخطّ. مضى صوته خلفه يجرّ نبرته الكسلى، ويترك رجع أقدامه المنسحبة موسيقى حالمة. لا أعرف، قطْعًا، الرّقم وصاحبه، لكنّه حين كان يتذّرّع بالخطأ بين اللّيلة والأخرى ليتصّل بي، كنت أتذرّع بالأدب كي لا أكسر خاطر قلبي المسرور كطفل. 

 بعد تردّد، مزّقت ألبوم ذكرياتي الحزينة عن زواجي الأوّل، رميت بها إلى أرض النّفايات بقلبي، وجلست في رشاقة صيفيّة أنتظره في باحة النّزل. لمّا هفا صوته عليّ ينبّهني لقدومه، اِلتفتّ نحوه مفغورة الحواسّ، مندهشة..

كان طليقي.

2

عدل ظهره، فأوجعه لطول ما أكبّ. خلفه، تكوّمت أوساخ الحديقة المنزليّة أكداسًا صغيرة. لم يدع فيها أثرًا لنبت طفيليّ يقتات من جمالها، ولم يترك الزّمن الجائح في حقل القلب شجرة أمل واحدة تزيّن انتظاره بأمل القطاف. اِختفت الحبيبة ولا أثر لها أو منها في أيّ مكان. سئم البحث والسّؤال. قد تكون تزوّجت أحد المسنّين الأجانب وغادرت معه البلاد.

" كم أحّب الخروج من وطن لا يحبّني !"، ما فتئت تردّد.

لعن الغدر، وحنا ظهره من جديد ليغرس آخر شجيرة ممّا جلبت ربّة المنزل. هوى بشدّة الغيظ فارتدّت المسحاة على قبضتيه بألم أشدّ. البقعة حيث يحفر تصدى كحديد مطروق. قشّر السّطح. أطلّ وجه الصّدأ. عرّى الجوانب. بان الصّندوق..

"الزّوجة تدفن كنزًا فيما زوجها المهاجر يُفني عمره كدًّا، ولا يزورها إلاّ صيفًا."

نزغه الفضول. على أطراف الحذر سحب الكنز. مسح بكمّه طبقة التّراب السميكة من عليه. كدّ في فتحه يمنّي نفسه بثروة يغادر بها بلادًا يعتقد بدوره أنّها لا تحبّه. أزاح غشاوة الدّهشة عن وعيه.. فتّش مليًّا في المحتوى النّتن فعرف رأس حبيبته.

3

هدر كجبل يتهزهز فيوقع الهلع في من حوله، رغا بالوعيد ينذر المنحرفين شرًّا وبيلا.

- قسمًا لألْحقنّهم بجزائر العالم السّفليّ عن بكرة شرّهم.

وأدار الكرسيّ المتحرّك في تسامٍ.

 بأمر علويّ، تمّ تعيينه رئيسًا لفرقة مكافحة الإجرام. أدرك علوّ شأنه، ومعنى أن يُنتدب دون عشرات الضّباط الأكفّاء لهذه المهمّة المتعسّرة فأدمن الأرق المذاب في سواد القهوة، المتأوّد في أدخنة السّجائر.

على الطاولة مسلسل أمنيّ غثّ أقضّ الرّأي العامّ، وأعجز الأمن الدّاخليّ، وأقلق الخارجيّ على مصالحه.

جرائم فادحة، سرقات فاحشة، صفقات تهريب مريعة، أرواح شتّى سقطت في الطّريق السّريّ لساديّة الحيوان البشريّ..

البطل مجرم شديد الحذر والتّخفّي كصاحب الطّاقية، هلاميّ كجنيّ كلّما تهيّأ له أنّه يحكم على روحه قبضتَه، انفلت منه كماء من خُلَل أصابعه.

الحوادث تفلّ قلبه الحديديّ، فيرمّم صدوعه ويجلد. والتّهديدات تخلخل أواصره المتينة، فيشدّ إليه وثاق العزم ويثبت.

قفا أثر الخيط الذي يمسك، يفكّ العقدة تلو العقدة، ويتسلّق جبًّا ليقع في آخر. عندما بلغ أمّ العقد، تنفّس صعداء دهشة سدّت فُوّهة حلقه، فسقط مغشيًّا عليه..

الخيط انتهى عند الرّئيس.


عدد القراء: 3300

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-