آراء أهل مدينة الفارابي الفاضلة ومضاداتها بإيجازالباب: مقالات الكتاب
د. عبد الودود النزيلي كلية اللغات - جامعة صنعاء |
القاصي والداني قرأ عن الفارابي، أو على الأقل سمع به؛ كيف لا، وهو من أوائل الفلاسفة المسلمين (يعتبر ثاني الفلاسفة المسلمين بعد الكندي)، الذين برعوا في أكثر من مجال، وبزوا أقرانهم، ويندر أن نجد مثيلهم في هذا العصر، لٌقّب بالمعلم الثاني، نسبة إلى المعلم الأول "أرسطو"، لأنه أتقن شرح مؤلفات أرسطو، لاسيما علم المنطق. الفارابي (339هـ- 950م): أبو نصر محمد بن محمد الفارابي، ولد في مدينة فاراب (حاليًا في دولة كازخستان)، تنقل بين الأمصار العربية، بغداد وحلب ودمشق، طالبًا للعلم، وأقام ردحًا من الزمن في بلاط سيف الدولة الحمداني، وكتب في المنطق والموسيقى والفلسفة والفيزياء وغيرها من المجالات، الأمر الذي مهد الطريق لعددٍ من الفلاسفة المسلمين الذين جاءوا من بعده، أمثال ابن سينا وغيره. من أشهر كتبه: "تحصيل السعادة"، "الجمع بين الحكيمين"، "رسالتان فلسفيتان"، "الموسيقى الكبير"، و"آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها"، وهذا الكتاب الأخير هو موضوع هذه المقالة، نستشف من خلالها بعض آراء الفارابي وتصوراته عن المدينة المثالية، على غرار ما فعله الفيلسوف أفلاطون في كتابه "الجمهورية"، لكن من وجهة نظر متوافقة مع السياق الإسلامي، وهو أول فيلسوف إسلامي كتب عن الأحلام التي راودت العديد من الفلاسفة من مختلف الأديان والمشارب والمذاهب والتوجهات عن المدينة الفاضلة.
قُسم الكتاب إلى سبعة وثلاثين بابًا، أفرد الكاتب الجزء الأكبر منها لمناقشة أفكاره الفلسفية، في لغة معقدة، يصعب على المرء فهمها بسهولة، فتناول موضوعات مختلفة، مثل القول في الموجود الأول، "الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها، وهو بريء من جميع أنحاء النقص. وكل ما سواه فليس يخلو من أن يكون فيه شيء من أنحاء النقص، إما واحدًا وإما أكثر من واحد. وأما الأول فهو خلو من أنحائها كلها، فوجوده أفضل الوجود، وأقدم الوجود، ولا يمكن أن يكون وجود أفضل ولا أقدم من وجوده، وهو من فضيلة الوجود في أعلى أنحائه، ومن كمال الوجود في أرفع المراتب. ولذلك لا يمكن أن يشوب وجوده وجوهره عدم أصلاً" ص2؛ ويواصل الفارابي فلسفته في نفي الضد عن الله سبحانه وتعالى، "وأيضًا فإنه لا يمكن أن يكون له ضد، وذلك يتبين إذا عرف معنى الضد، فإن الضد مباين للشيء؛ فلا يمكن أن يكون ضد الشيء هو الشيء أصلاً. ولكن ليس كل مباين هو الضد، ولا كل ما لم يمكن أن يكون هو الشيء هو الضد" ص3. وينتقل الفارابي إلى مناقشة مراتب الموجودات، الكثيرة والمتفاضلة، بيد أن جوهر الله هو "جوهر يفيض منه كل وجود" ص8، بمراتب مختلفة، فأكملها، إلى التالي، إلى ما هو أنقص "إلى أن ينتهي الموجود الذي إن تخطى عنه إلى ما دونه تخطى إلى ما لم يمكن أن يوجد أصلاً" ص8. يٌدرك الفارابي، قبل الشروع في فلسفته السياسية عن المدينة الفاضلة، أهمية توضيح رأيه من الوجود، وموجد الوجود، وعظمته وجلاله ومجده، ونفي الشريك عنه، أو الضد عنه، لينتقل إلى صدور الموجودات عنه (نظرية الفيض، "قامت نظرية الفيض لتفسر صدور العالم عن الواحد عز وجل، لكنها ارتكزت في تفسيرها لهذا الصدور إلى صفة العلم" ص 341، العقل بين الفرق الإسلامية قديمًا وحديثًا، (أحمد محمود عابد)، وتقسيم مراتبها، إلى أن يصل في سلسلة فلسفية مترابطة إلى مدينته الفاضلة. ويتطرق إلى هذا التقسيم الدكتور رواء محمود حسين في كتابه "مشكلة النص والعقل في الفلسفة الإسلامية -دراسات منتخبة" "وكأن الفارابي في هذا التقسيم المنهجي المحكم لكتابه، يريد أن يصل الموضوعات الإلهية بالإنسان والعالم، لكي يشعر القارئ بأن فلسفته في ثناياها وتفاصيلها لا تنفصل بحال من الأحوال عن الله سبحانه «واجب الوجود»، سواء في الطبيعة أو فيما ورائها" ص69؛ كما يوضح الفارابي الفرق بين الإرادة والاختيار، فتأمل الإنسان فيما يعقله ويدركه، وتشوقه أو كرهه إلى استنباط ما عقله، "والتروع إلى ما أدركه بالجملة هو الإرادة، فإن كان ذلك التروع عن إحساس أو تخيل، سمي بالاسم العام وهو الإرادة" ص26، إما إن كان ذلك التروع لما أدركه "عن روية أو عن نطق في الجملة، سمي الاختيار" ص26، بهذا يغوص الفارابي في أعماق النفس البشرية، كما فعل أرسطو من قبله، ليوضح الإرادة في النفس وقواها؛ ويستشهد الدكتور فاروق الدسوقي، في كتابه "القضاء والقدر في الإسلام"، بكلام الفارابي، المقتبس من "في رسائل بعنوان مسائل متفرقة"، لتوضيح فلسفة الفارابي "الفرق بين الإرادة والاختيار أن الإنسان قد يتقدم فيختار الأشياء الممكنة وتقع إرادته على أشياء غير ممكنة، مثل أن الإنسان يهوى أن لا يموت" ص336، وقبل أن يدخل في مناقشة المدينة الفاضلة، يوضح لنا الفارابي ماهية السعادة، وكيف يمكن لنفس الإنسان أن تحقق السعادة لذاتها، ولمن حولها، بحيث "تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة" ص26، ولن تحقق النفس الإنسانية السعادة إلا من خلال الاجتماع والتعاون مع الغير، "وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج، في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته، إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه" ص30، فلا بد للناس من الالتفاف حول كتلة مجتمعية واحدة، تبدأ بالاجتماع الأسري في المنزل إلى الاجتماع المدني، إلى أن تنتهي باجتماع أهل المعمورة، بشكل متعاون، بغية تحقيق السعادة للجميع، "فلذلك كل مدينة يمكن أن ينال بها السعادة. فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة. والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل. والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة. وكذلك المعمورة الفاضلة، إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة" ص30؛ ويقسم الفارابي المجتمعات إلى قسمين: مجتمعات ناقصة أو غير مكتفية، وهي التي لا تستطيع الإيفاء باحتياجاتها دون الاستعانة بالمجتمعات الأخرى، مما يدعوها إلى تشكيل مجتمعات أكبر، تكون مكتفية بذاتها، وسماها الفارابي، المجتمعات الكاملة، وهي النوع الثاني. والمجتمعات الكاملة هي الفاضلة في نظر الفارابي، وأصغرها هو مجتمع المدينة، وهذا النوع يسميه الفارابي، الجماعة الصغرى، يلي هذا المجتمع مجتمع الأمة، الناشئ عن اتحاد ثلاث مدن على الأقل، ويطلق الفارابي على هذا المجتمع الجماعة الوسطى، ثم يأتي المجتمع الأكبر الذي يشمل أهل المعمورة، المجتمع العالمي، بصرف النظر عن مشاربهم الدينية أو العرقية، وهذا المجتمع هو الجماعة العظمى، يسوده التعاون والتكافل، ويشبه البدن التام الصحيح، تتعاون فيه أعضاؤه بطرق مختلفة في الفطرة والقوة، بحيث يكون فيها "عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعلها فعله، ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس" ص31، فتترتب أفراد المدينة الفاضلة، بحسب طبيعة أعمالهم، القادرون عليها، كما هو الحال عليه في بدن الإنسان، ابتداءً بالرئيس، الذي له مواصفات خاصة، المسيطر على الكل، إلى الأعضاء ذوو المهام المحددة، إلى أن تنتهي بالأعضاء التي تخدم ولا ترؤس، وهي آخر المراتب في المدينة الفاضلة. ويورد، في هذه الخصوص، أحمد شمس الدين، في كتابه "الفارابي: حياته، آثاره، فلسفته" "فكما أن الإله هو ملك السماء والعالم ومنظم الكون ومرتب الموجودات، كذلك الملك الفيلسوف أو النبي هو الذي ينظم المدينة ويدبرها. وكما أن للكواكب والأفلاك مراتب ودرجات تشبه ترتيب قوى النفوس ودرجاتها، فكذلك جسد الإنسان تتعاون أعضاؤه كتعاون أعضاء المدينة واتصالهم برئيسهم. فالكون والمدينة الفاضلة والإنسان حلقات ثلاث في سلسلة واحدة، وكما تتسق الموجودات وتنتظم في سلك واحد، كذلك تتصل السياسة بالفلسفة وتنطبق الفلسفة على الوجود" ص90. ليس بمقدور الشخص العادي ترؤس المدينة الفاضلة، لأن الرئاسة "إنما تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدًا لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية... فليس كل صناعة يمكن أن يٌرأس بها، بل أكثر الصنائع صنائع يخدم بها في المدينة، وأكثر الفطر هي فطر الخدمة، وفي الصنائع صنائع يرأس بها ويخدم بها صنائع آخر." الفارابي، ص32، ثم أورد الفارابي اثنتا عشر خصلة فٌطر عليها رئيس المدينة الفاضلة: أن يكون تام الأعضاء، جيد الفهم والتصور لكل ما يٌقال له (فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل)، جيد الحفظ لما يفهمه ويراه ويسمعه ويدركه، جيد الفطنة، حسن العبارة، محبًا للتعليم والاستفادة، غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح، محبًا للصدق وأهله ومبغضًا للكذب وأهله، محبًا للكرامة، يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده، محباً للعدل وأهله ومبغضًا للجور والظلم وأهلهما، ويكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل، ص34. كما تطرق الفارابي إلى توضيح الأشياء المشتركة التي يستطيع من خلالها أهل المدينة الفاضلة بلوغ السعادة، منها، أساسًا، معرفة الأسباب التي تقود إلى السعادة، ومعرفة ما يوصف به كل فرد من أفراد المجتمع من الصفات والمراتب، وعلى حكماء المدينة الفاضلة توضيحها، إذا صعب على الأفراد فهمها.
يٌتهم الفارابي بأنه كان رجلاً طوبائيًا، يحلق عاليًا، ويسعى إلى تحقيق شيء بعيد المنال، ويصعب تحقيقه، حيث يوضح الدكتور علي الوردي، في كتابه "في النفس والمجتمع"، أن الفارابي وأمثاله من المفكرين الطوبائيين يقبعون في أبراجهم العاجية، ويتأملون في الأشياء، بعيدًا عن الواقع؛ فلو فرضنا جدلاً أن الصفات المثالية، المذكورة أعلاه، توفرت في شخص ما، "وطلب من الناس اختياره حاكمًا، فهل هم سيستجيبون كلهم له ويوافقون على رأيه؟ إن الذي يعرف طبيعة البشر لا بد أن يتوقع ظهور معارضين لا يرضون عن الشخص الذي اختاره الفارابي. ويأخذون بالبحث عن معائبه ومثالبه، ويبالغون فيها، كما هو ديدن الناس دائمًا حين يبغضون شخصًا"، الوردي، ص67. وخلاصة القول، أن البشر جبلوا على طبيعة التنازع والاختلاف، ولا يمكن جمعهم على رأي واحد، أو في اجتماع واحد، كما رأى ذلك الفارابي، في مدينته الفاضلة، "وقد رأينا ما فعل الناس بالأنبياء الذين يقدسونهم اليوم فهم إنما يقدسونهم لأنهم نشأوا في بيئة تقدسهم. ولو نشأوا في بيئة تعبد الأوثان لحاربوا الأنبياء كما حاربهم أسلافهم من قبل"، الوردي، ص67. يختتم الفارابي كتابه، بذكر تضاد المدينة الفاضلة، وهي المدينة الجاهلة أو الفاسقة، التي لا يعرف أهل معنى السعادة، ولن تخطر ببالهم، ولن يفهموها إن أرشدوا إليها، وقسمها إلى مجموعة مدن، منها، المدينة الضرورية "وهي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح" ص36، والمدينة البدالة، التي قصد أهلها التعاون على بلوغ اليسار والثروة، ومدينة التغلب، التي قصد أهلها التعاون على قهر غيرهم، وأن يكون كدهم اللذة في التغلب على الغير، وغيرها من المدن.
استطاع الفارابي من خلال كتابه هذا إلى توضيح المدينة الفاضلة من المنظور الإسلامي، بحيث يتشارك جميع أفراد المجتمع في بناء المدينة التي ينشدها، كلا بحسب قدرته، وطاقته.
تغريد
اكتب تعليقك