من الكوسموسياسي الحر عند هابرماس إلى أوصال أورفيوس المقطعةالباب: مقالات الكتاب
حمزة عبد الأمير حسين العراق – جامعة بابل |
سنقيم في هذه الورقة البحثية موازنة مختصرة بعض الشيء، بين كتاب هابرماس (جدلية العلمنة: العقل والدين)، وكتاب إيهاب حسن (منعطف ما بعد الحداثة). وقد قصدنا بالكوسموسياسي في عنوان البحث (الفضاء العمومي الحر أو السياسة الكونية) وهو المشروع الذي يضم جميع أعمال هابرماس، وهمه ممارسة تواصلية حرة بين مجتمع الكون بأكمله.
أما (أوصال أورفيوس المقطعة) فهي إشارة إلى كتاب إيهاب حسن (تقطيع أوصال اورفيوس) والتي تعكس حالة العالم المعاصر الذي أسماه (ما بعد الحداثة) الملتزم أدبيًا بالصمت وباللاتوجه، وبإعلان نهاية السرديات الكبرى سياسيًا وتاريخيًا، وبتفكيك المنظومة الاجتماعية الأبوية الذكورية التقليدية على المستوى الاجتماعي، أما اقتصاديًا فقد أصبح العالم سوقًا واحدة لا تعترف بالحدود القُطرية أو الدولية فهو الاقتصاد العابر للحدود والجنسيات.
إن الموازنة بين هابرماس وإيهاب حسن هي في الوقت ذاته موازنة بين عالمين وعصرين وتيارين هما: (الحداثة، وما بعد الحداثة). ويمكن القول أن هابرماس وريث المدرسة النقدية (فرانكفورت) وسليل العقل الأنواري الكانطي وابن الفضاء الفلسفي الألماني في مواجهة ربما غير متكافئة مع إيهاب حسن الفقير من ناحية القاعدة الفلسفية التي يستند إليها والمرجعيات التي يعتمد عليها، ففضاءه الأمريكي يكاد يكون الأفقر فلسفيًا ونظريًا، لأن الفضاء الأمريكي يتميز بالاستهلاك والتطبيق، وهو على العكس تمامًا من الفضاء الألماني صاحب الجذور التاريخية والنظرية العريقة، فأكثر الفلاسفة وأقواهم تأثيرًا في العالم هم من الألمان (ليبنتز،هيغل، كانط، فيشته، شلنغ، شلاير ماخر، فورباخ، ماركس، هوسرل، نيتشه، هيدجر، ياسبرز، غادامير، ادورنو) وغيرهم الكثير.
يركز هابرماس دائمًا على التعارض ما بين العقل والدين، بين المعرفة والإيمان، ويلتزم كما يقول بمحاربة (الأديان الوضعية)، وعدوه في ذلك (هيغل) الذي أبدل العقل الأنواري الكانطي بالتأمل والفهم، وارتقى المتناهي إلى المطلق، وهو ما يعبر عنه هابرماس بانتكاسة العقل.
ومما يجب التنبه إليه هو أن هابرماس ليس حداثويًا بحتًا أو وقفيًا، بل يتموضع هابرماس وسطًا ضمن مشروع الحداثة الذي لم يكتمل بتعبيره، فلا هو مع العقل الأداتي الصرف، ولا هو مع اللاعقلانية ما بعد الحداثية، وإنما هو مع العقل التواصلي الحواري الذي يؤمن بالعمومية والنقاش في فضاء من المشتركات الكونية التي توفر لأفرادها حالة من العيش السلمي الدائم، وهو الطرح المكمل لإطروحة كانط الطموحة لعالم من السلم الدائم، عالم يحكم فيه العقل، ولكنه يمنح الأديان حريتها في الحوار والنقاش السلمي للتعبير عن نفسها، وكما سنرى في تلخيصنا لأهم الأفكار التي وردت في كتاب هابرماس (جدلية العلمنة: العقل والدين).
نورد أهم الأفكار التي تضمنتها مناقشة هابرماس من كتاب (جدلية العلمنة: العقل والدين) في شكل نقاط مختصرة زيادة في التوضيح:
1. يطرح هابرماس سؤال: هل السلطة السياسية ممكنة بعد استكمال القانون الوضعي خارج حدود الدين وما بعد الميتافيزيقا؟ (ص46)
2. في المجتمعات ما بعد اللائكية (العلمانية) يطرح سؤال ما هي التصورات العقلية التي يمكن أن توفرها الدولة الليبرالية لمواطنيها الذين يؤمنون بدين أو الذين لا يؤمنون بأي دين؟
3. يدافع هابرماس عن الليبرالية السياسية (جمهورية كانط) وهي سليلة الإرث العقلي الذي يتخلى عن الفرضيات الكونية (الكوسمولوجية) وعن الخلاص التاريخي لتعاليم الحق الطبيعي الكلاسيكية والدينية. (ص47)
4. شرعية سلطة الدولة أتت من مصادر دنيوية وليس دينية.
5. يوضع الدستور بمشاركة المواطنين وليس استعباد سلطة الدولة. (ص48)
6. يصل القانون إلى السلطة من دون نقص.
7. لا نجد في الدولة الدستورية أية سلطة على الرعايا تتغذى من مادة قبل قانونية.
8. المشروعية القانونية ليست بحاجة للأخلاق لأنها لا تعاني النقص. (ص49)
9. الدولة الليبرالية تجد جذورها من الاستمرارية العقلية المستقلة عن الدين والميتافيزيقا. (ص50)
10. حق المواطنين في التواصل والمشاركة ومراعاة مصالح الجماعة.
11. الخلفية الدينية المشتركة واللغة المشتركة مهدت لظهور تضامن شعبي.(ص52)
12. تفهم نظريات ما بعد الحداثة الأزمات بطريقة عقلية نقدية، ليس كنتيجة استنفاد اختياري للمقدرة العقلية الموجودة في الحداثة الغربية، ولكن كنتيجة منطقية لبرنامج العقلنة المجتمعية والروحية التي تحمل هدمها في ذاتها. (ص54)
13. ونتيجة للنقطة السابقة، ظهر بحسب هابرماس النظرية التي تؤكد أن الدين وحده هو من يمكنه إنقاذ الحداثة المتكسّرة بتأسيسها على متعال يخرجها من المأزق. (ص55)
14. لا تكتفِ الدولة الديمقراطية الدستورية بتوفير الحرية السلبية لأجل رفاهية مواطنيها، بل تجندهم عن طريق حرية التواصل للمشاركة في الحوارات العامة حول الموضوعات التي تهم الكل.(ص51)
15. بسبب الميول إلى راديكالية نقد العقل اهتمت الفلسفة أيضا بتفكير ذاتي في جذورها الدينية الميتافيزيقية، بتأثير المحاولات الفلسفية مابعد الهيجلية التي تمارس هذا النوع من التفكير الذاتي حول العقل.(56)
16. العقل في بداياته كما عند الصوفية حاول تجاوز حدوده الداخلية كذوبان الوعي الصوفي في الوعي الكوسمولوجي، أو في الشك في الخلاص المسيحي.
17. التغلغل المسيحي في الميتافيزيقا اليونانية ساهم بالتقريب بين المضامين المسيحية والفلسفة. (58)
18. الأسواق والسلطة الإدارية تقضي على التضامن الاجتماعي. (59)
19. على الوعي الديني أن ينجح في صيرورة اندماجه في المجتمع الحديث، وأن يتوقف عن المطالبة بالسلطة، وأن يستغني عن الحق في تأويل الدين واحتكاره، وأن يبتعد عن تنظيم الحياة الشامل. (60)
20. على الوعي العلماني أن يتمرن على التفكير الذاتي في حدود الأنوار. (61)
21. لابد أن تسود ثقافة التسامح بين الأديان المختلفة في الإطار الليبرالي السياسي، أن يكون للمؤمنين حقهم في النقاش ونشر الدراسات وترجمتها.(62-63)
لخصنا فيما سبق من صفحات أهم الأفكار التي جاءت في مناقشة هابرماس، والكتاب عبارة عن لقاء نظمته الأكاديمية الكاثوليكية بين هابرماس والكاردينال راتسينغر، ولقد اكتفينا من الكتاب بمناقشة هابرماس التي تهمنا في موازنتنا مع إيهاب حسن وكتابه (منعطف ما بعد الحداثة)، وسنبدأ مباشرة بفتح حوار بين هابرماس وإيهاب حسن ليتبين من خلاله اتفاقهما وخلافهما في الحداثة وما بعد الحداثة.
1. يؤرخ إيهاب حسن لما بعد حداثة مختلفة عن الحداثة(1)، وهو بذلك يشارك في عملية الفصل المرحلي بين ما يعتبره مرحلتين هما (الحداثة ثم ما بعد الحداثة) وإن صرّح بالعكس من ذلك.
يعارض في المقابل هابرماس أية محاولة للفصل بين مرحلتين، ويرى أن الحداثة مشروع لم يكتمل, ومن ثم فإن ما يعتبره إيهاب حسن (ما بعد حداثة) هو لدى هابرماس قمة الحداثة.
2. عند تناوله (للمشكلات المفاهيمية لما بعد الحداثة) رأى إيهاب حسن أن تعريف ما بعد الحداثة يستدعي «أربعة أضعاف مكملات تشمل، التواصل والانقطاع، اللغوية الزمنية واللغوية المتزامنة...»(2).
ويعنى هذا حالة من التشابك والتشويش يلقي بها إيهاب حسن على فهمه الأولي لما بعد الحداثة بين التواصل والانقطاع، والزمنية والتزامنية على اختلافهما، وبعمله هذا فقد صور ما بعد الحداثة كحال الحائر، أو التائه في السديم، فلا هو يستطيع مواصلة سيره لافتقاده للدليل الموجه (اللاتوجه)، ولا هو يستطيع التوقف والاستقرار والقطع مع ما كان يسير عليه وإليه قبل وقوعه في السديم والحيرة، لأنه مطبوع بالملازمة.
وهو ما لا يتفق وطرح هابرماس العقلاني (الأبولوني) لأنّ العقل بطبيعته يطلب الوضوح ويستند إلى توجه ودليل محددين. وبالنظر إلى النقطة (9) من تلخيصنا لهابرماس التي ذكر فيها (الاستمرارية العقلية)، والنقطة (10) من التلخيص ذاته التي ذكر فيها (حق المواطنين في التواصل والمشاركة الجماعية) فإن هابرماس يدعو للتواصل والاستمرار لا الانقطاع، لأن الانقطاع يسد الطريق أمام فرص التواصل بين البشر في دولته الليبرالية الديمقراطية التي يتبناها كمشروع للدولة العالمية القائمة على توفير كل الامكانات الثقافية واللغوية والقانونية والسوسيولوجية والسيكولوجية لدعم التواصل والمشاركة بين أفراد المجتمع.
3. ينطلق إيهاب حسن من تخصصه الأدبي لاستقصاء واستقراء الحالة المابعد حداثية، في الشعر والرواية والمسرح وحتى من الأساطير، لذا فهو لم يجزم بكونية ما بعد الحداثة وقدرتها على استيعاب مختلف العلوم والتخصصات، وإنما بقي يدور داخل دائرة النقد و النظرية الأدبية وتطبيقاتها: «هل ما بعد الحداثة وصفية كما هي تقديرية أم سلسلة معيارية للفكر الأدبي؟.»(3). وكرر إيهاب تساؤله مرة أخرى وإن اختلفت الصياغة «فهل هي نزعة فنية فقط أم ظاهرة اجتماعية أيضًا... ألنا أن نفهم ما بعد الحداثة في الأدب من دون مسعى لاستيعاب سمات المجتمع ما بعد الحداثي...»(4). وحتى بذكره لعبارة (سمات المجتمع ما بعد الحداثي) فإنه لم يتعد العبارة اللغوية، بل وظل حبيس التنظير الأدبي، وهذا الحبس الذي سجن فيه إيهاب ما بعد الحداثة هو الذي حدّ من تأثيراته الثقافية والسياسية والفلسفية التي أستطاع (ليوتار) في فرنسا أن يحوزها جميعًا وأن يخطف الأضواء العالمية، حتّى عُرِفت مابعد الحداثة به، ونسبت إليه.
وهو ما سنجد له الوجه المعاكس تماما لدى هابرماس، فالمجال الذي يشتغل عليه أوسع وأكثر تأثيرا (السياسي والاجتماعي والفلسفي) لذا فهابرماس ينطلق من المجتمع في تنظيراته، والمجتمع أبطأ في الاستجابة من الأدب الذي يمتلك حساسية عالية للتغيرات، لذا وجدنا إيهاب حسن يعتمد (الرؤيوية) في أدب ما بعد الحداثة، بينما يعتمد هابرماس الواقع في تنظيراته السياسية والاجتماعية. ولذا يعد هابرماس (ضمير أوروبا) المعاصرة بعد أن كان (سارتر) يؤدي دور (الضمير الحي) لأوروبا الحديثة. ولو رجعنا للنقطة (1) و (2) من تلخيصنا لكتاب (جدلية العلمنة) لوجدنا أن هابرماس قد طرح تساؤلاته حول دور السلطة والقانون والدولة الليبرالية في المجتمع وإدارة شؤون مواطنيها المؤمنين وغير المؤمنين، وهو بهذا الطرح يؤدي دور الضمير والعقل الحداثي الناقد لسياسات الدولة الليبرالية التي يتبناها ويحاول توفير القاعدة النظرية والنقدية التي تضمن التطوير المستمر والاحتواء لكل المستجدات السياسية والدولية كأزمة المهاجرين وصعود التيارات الدينية المحافظة، ويسمى هذه المرحلة ب (ما بعد اللائكية) كما وردت في ترجمة حميد لشهب للكتاب وأوردناها في الملخص، النقطة (2).
4. يعتمد إيهاب حسن في تنظيراته المابعد حداثية خط الفلسفة والأدب اللاعقلاني (السفسطائية، نيتشه، فرويد، بيكيت، كافكا، بورخيس، فتغنشتين، هيدجر، رولان بارت، فوكو، دريدا، سارتر، هنري ميلر، البير كامو، بوذية الزن، فن الكامب...)(5). وتعتبر الصيرورة والصراع فيما بعد الحداثة النابعة من فلسفة هيراقليطس وهيغل ذات أثر كبير في اللاثبات المابعد حداثي والعمق الصوفي لها لاسيما التأويلية الهيدجرية والتفكيكية الدريدية وينسحب هذا الأمر على نيتشه (ديونيزوس) العدمي العنيف أيضًا(6)، وماركس الشاب.
إن المرجعية الفلسفية لهابرماس هي العقلانية وعصر الأنوار والحداثة، ويرتكز هابرماس في مقولاته على ما قدمه كانط من مقولات رفعت شأن العقل وأعطته المرتبة العليا، وساعدت أوروبا على الوصول إلى المرحلة العلمانية على كافة المستويات، وحيّدت الدين والكنيسة، أو حاولت إلغاؤهما وشطب تأثيرهما في الحياة العامة للمواطن الأوربي، وفي النقطة (3) من تلخيصنا لكتاب هابرماس، نجده قد ذكر (جمهورية كانط) العقلية التي كثيرًا ما اعتمد عليها كمرجعية أساسية لتنظيراته للدولة الليبرالية التي تخلصت من الحق الطبيعي الكلاسيكي والديني معًا. ويعمل هابرماس على تخليص الفلسفة من الميتافيزيقيات والترسبات الدينية والعدمية واللاعقلانية لذا فهو يعمد إلى فتح مواجهة صارمة بينه وبين ممثلي تيار ما بعد الحداثة ومرجعياته لاسيما (نيتشه، دريدا، فوكو، ليوتار، رورتي) ويكشف عن تغلغل الأثر الهيغلي الميتافيزيقي والصوفي المطلق للتأمل العقلي الذاتي، الذي بدأت تتبناه تيارات فكرية حديثة في أوروبا تعرف بـ(ما بعد الهيغلية) أو الهيغلية الجديدة وهي تيارات محافظة ذات نزعة دينية، وقد أوردنا نقد هابرماس لها في النقطة (15) و(16) من تلخيصنا للكتاب.
وصراع هابرماس مع الهيغلية هو صراع بين العقل واللاعقل، بين الحداثة وما بعد الحداثة، باعتبار هيغل مرجعية مركزية لتفكيكية جاك دريدا المابعد بنيوية أو المابعد حداثية، أي أن الصراع في جوهره صراع الكانطية (هابرماس) مع الهيغلية (دريدا)، وهو صراع ضد عودة الروح الدينية واللاعقلانية المنبثقة من صوفية هيغل وهيدجر نحو طلاسم التفكيك الدريدي.
5. في سلسلته لملامح مابعد الحداثة التي تدور حول (اللاتحديد، التشظي، اللاتقديس، السطحية، ما لا يمثل، السخرية، الكرنفالية، الأداء، البنيوية، التلازم)(7). نجد أن إيهاب حسن يسبقها بإشارة خاطفة ونقدية في الوقت ذاته وموجهة ضد هابرماس، والعبارة التي استخدمها كانت مشحونة بالتعصب والتحامل، ونص العبارة هو: «كما حاول فيلسوف متطرف, يورجين هابرماس التمييز عبثًا كما أرى بين "ما قبل حداثة قدامى المحافظين" و"مناهضي حداثة شباب المحافظين" وبين "مابعد حداثة المحافظين الجدد"»(8). وفي ترجمة أخرى لمقالة إيهاب حسن وردت العبارة كالآتي: «وعلى هذا الأساس يحاول فيلسوف راديكالي مثل يورغن هابرماس أن يميز عبثًا -فيما أرى- بين....»(9).
ومن ثم يبدأ إيهاب بتعداد وشرح سلسلته، وكأن هذه السلسة رداً على المتطرف أو الراديكالي هابرماس بحسب تعبيراته، وهذا التحامل يعكس حالة من صراع النظرية، فقوة الحداثة واستمراريتها تتغذى على وجود منظرين أقوياء فكريًا يمتلكون الحضور والزخم الدولي والقاري، الذي يستطيع ضمان الحضور الدائم للحداثة كهابرماس ممثلها الأقوى، والأمر ذاته ينعكس على هابرماس في كتابه القول الفلسفي للحداثة، الذي شن من خلاله حملة مضادة لأقوى ممثلي مابعد الحداثة (نيتشه، هيدجر، فوكو، دريدا) لكي يوفر الغطاء الدفاعي للحداثة. وهكذا تستمر حالة الصراع النظري بين أقطاب الحداثتين.
6. رصد إيهاب حسن أزمة الخطاب وتخليق الإحساس عبر مناظرته بين خطوط الفلسفة الرئيسة فيما بعد الحداثة ممثلة بـ(يورغن هابرماس) و(ريتشارد رورتي) و(جان فرانسوا ليوتار) و(جاك دريدا)، وهي موزعة بين التواصلية والبراغماتية واللاسرديات واللعب اللغوي التفكيكي.
وعندما تطرق إيهاب حسن للعقل عند هابرماس ذكر الآتي: «يلتزم هابرماس عمومًا بمفهوم كوني للعقل "فكرة بجدال سياقي أفضل علاوة على أنها أبسط" باسم العدالة، باسم التنوير»(10).
ويبين من بعد ذلك الخلاف الأساس بين هابرماس وليوتار على المستويات السياسية والأخلاقية والمعرفية كافة، استنادًا لتخالفهما المعرفي في فهم العلاقات اللغوية والصلة بالعالم أو المجتمع، فاللغة عند هابرماس توافقية تواصلية، وعند ليوتار توافقية صراعية (نزاعية)(11)، ويكتفي إيهاب حسن بهذه التجميعية للآراء دون أن يوضح أثر ذلك في أزمة الخطاب مابعد الحداثي وتخليق الإحساس كما يسمها، وبدلاً عن التوضيح فإنه يزيد الأمر تعقيدًا ولا-ترابطًا بانتقاله إلى رورتي وجاك دريدا، وينتهي بـ(أمركة) الخطاب مابعد الحداثي بميله الفاضح نحو البراغماتية الجيمسية والرورتية.
7. تركز مابعد الحداثة على اللاتوجه والنقد الجذري للعقل، حتى يصل بها ذلك إلى تبني الفوضوية والعدمية واللاعقلانية في مواجهة العقل ومركزية الذات الأنوارية والحداثية.
ويعد ما سنورده في هذه النقطة إكمالاً لما طرحناه في النقطة السابقة لها، فإشارة إيهاب حسن لـ(كونية العقل) عند هابرماس والتزامه بمقولات العدالة والتحرر والتنوير، تعني أن إيهاب حسن وبعد أن تبنى مقولات البراغماتية، يصنف نفسه مابعد حداثي لا يؤمن بالعقل الحداثي الكوني ولا بوجود الحقيقة.
وبالعودة لتلخيصنا لكتاب هابرماس النقطة (15) والتي جاء فيها: (بسبب الميول إلى راديكالية نقد العقل اهتمت الفلسفة أيضًا بتفكير ذاتي في جذورها الدينية الميتافيزيقية، بتأثير المحاولات الفلسفية مابعد الهيجلية التي تمارس هذا النوع من التفكير الذاتي حول العقل).
ففي هذه النقطة بالذات يقف هابرماس ناقدًا كل ميل ورغبة في نقد العقل، ويعتبر أي توجه ضد العقل هو بعث للديني والتأمل الذاتي, ويطلق عليها المحاولات مابعد الهيجلية التي تحاول أن تنقح العقلي بالديني بدعوى معالجة عقم العقل وأزمته الحداثية.
لذا فهابرماس لا يثق بالفلسفة المتحررة من العقلنة العلمية، لأن الفلسفة عند هابرماس هي الوجه الآخر للدين والميتافيزيقا, والعلاقة بين المسيحية والفلسفة اليونانية منذ القدم هي علاقة تصاهر, تأثر وتأثير, وهنا تكمن خطورة مابعد الحداثة عند هابرماس لأنها تحارب العقل والعلم وهما الكفيلان بتنقية المعرفة والفلسفة من الميتافيزيقا والدين، وتوفير أرضية مشتركة تضمن التواصل والحوار بين المجتمعات العالمية المختلفة.
وفي النقطة الـ(17) من تلخيصنا لكتاب هابرماس والتي ورد فيها قوله: «التغلغل المسيحي في الميتافيزيقا اليونانية ساهم بالتقريب بين المضامين المسيحية والفلسفة». مما يعني أن هابرماس يعي تمامًا أهمية العقل الحداثي في مواجهة هذا التغلغل الديني في الفلسفة، والذي يحاول العودة من خلال مابعد الحداثة، ومن وراء العقل يتسلل هذا التأثير بعد أن أُضعف موقفه وحورب منهجه، في التفكيك واللعب والنزاع والنسبية واللاحتمية، عند كل من نيتشه دريدا وليوتار ورورتي وفوكو وسارتر.
فموقف هابرماس يتضاد في الغالب مع موقف إيهاب حسن المتردد من مابعد الحداثة، والفيصل في ذلك هو موقف كل منهم من العقل والحقيقة, ويترتب على ذلك حزمة من المواقف المتباينة سياسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا وثقافيًا.
ولكن وعلى الرغم من هذه الاختلافات فبين إيهاب حسن وهابرماس مشتركات لا يمكن التغاضي عنها، فكلاهما يحتكم لفضاء التداول واللغة والخطاب الاستعمالي، فقضية التداول مهمة بالنسبة لهابرماس، لأنها المسؤولة عن توفير الأرضية المناسبة والمشتركة لتحقيق نظريته التواصلية، وإزالة الاعتراضات والموانع وبلورة الاتفاقات والتفاهمات، واستبدال العقل الأداتي بالعقل التواصلي، ومحاولة توظيف الخطاب التداولي والحجاجي لإبرام تفاهم دون ضغط، وابتكار توافق دون خلاف، ودفع المتحاورين إلى تجاوز ذاتيتهم الأولية وتبني اقتناعات عقلانية تعكس وحدة العالم الموضوعي وتشكل الأرضية المناسبة لعالم الحياة المشتركة.
وختامًا لما أجريناه من مناظرة بين هابرماس وإيهاب حسن, فإننا وجدنا صلة وطيدة بينهما، وهي إعادتهما التحولات المعاصرة لخطاب الحداثة بما في ذلك مابعد الحداثة ذاتها، إلى أزمنة وفلسفات سابقة لهذه اللحظة الآنية في التحوّل، فإيهاب حسن يعود بما بعد الحداثة الى السفسطائية والرومانسية والطليعية والدادائية والسريالية والحداثة وغيرها من الحركات والتيارات السابقة لها.
وكذلك فعل هابرماس إذ رأى أن ما ينبثق من الحداثة وما يعبر عن نفسه على أنه نقد للحداثة ما هو سوى الحداثة نفسها، وقوتها الذاتية في إعادة الترميم والبناء والتجديد، وقد أرجع هابرماس هذا التوجه إلى هيغل وبيّن الأثر الذي أحدثه هذا الأخير في التأسيس للحداثة ونقدها وما تفرع عنه من تيارات يمينية ويسارية. ولنيتشه موقعه المميز في نقد الحداثة الشامل وبيان عدمية القيم التي تمخضت عن الحداثة والأنوار ممتدة إلى المجتمع الصناعي والرأسمالي الغربي، الذي بلغ انسداده التاريخي وأزمته الثقافية، التي تعد العدة لافتتاح عصر جديد من البعديات الحداثية (بعد ما بعد الحداثة).
الهوامش:
1 - ينظر: منعطف ما بعد الحداثة، إيهاب حسن، تر: محمد عيد: 85 وما بعدها. وينظر: تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، إيهاب حسن، تر: السيد إمام، دار شهريار (البصرة)، ط1، 2018: 6 وما بعدها.
2 - منعطف ما بعد الحداثة: 91.
3 - منعطف ما بعد الحداثة: 93.
4 - منعطف ما بعد الحداثة: 92.
5 - ينظر: منعطف ما بعد الحداثة: 13 وما بعدها.
6 - ينظر: منعطف ما بعد الحداثة: 44.
7 - ينظر: منعطف ما بعد الحداثة: 103-112. وينظر: تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، إيهاب حسن: 47-57.
8 - منعطف ما بعد الحداثة: 103.
9 - تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، إيهاب حسن: 47.
10 - منعطف ما بعد الحداثة: 139.
11 - ينظر: منعطف ما بعد الحداثة: 140.
روافد البحث:
• تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، إيهاب حسن، تر: السيد إمام، دار شهريار (البصرة)، ط1، 2018.
• منعطف ما بعد الحداثة، إيهاب حسن، تر: محمد عيد إبراهيم.
• جدلية العلمنة: العقل والدين، يورغن هابرماس، جوزف راتسنغر، تر: حميد لشهب, دار جداول (بيروت)، ط1، 2013.
تغريد
اكتب تعليقك