فلسفة الأزمنة الحديثة والتأصيل لنظرية الحق الباب: مقالات الكتاب
د. عزيز غنيم المغرب |
عرفت أوروبا ابتداءً من القرن الخامس عشر– القرن المفصلي بين نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة – تحولات عميقة يمكن اختزالها في ثلاث فتوحات كبرى وهي اكتشاف العالم الجديد وانطلاق النهضة والإصلاح الديني مع لوثر، تمخضت عنها دينامية كبرى على مستوى الفكر والسياسة شكلت أرضية ثقافية لتبلور مفهوم الحق والدولة، ومنطلقًا للإقرار باستقلالية الإنسان وامتلاكه لحقوق أساسية كانت قد اغتصبتها منه الكنيسة في القرون الوسطى مما ترتب على ضوئها تغيرات خصوصًا في النظرة إلى الإنسان ككائن عاقل متطلع للانعتاق من كل ما يمت بصلة للانغلاق.(1)
وتوشك أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان عند توماس هوبز- الذي يقع بفكره ونقاشاته على الحدود بين الزمن الوسطوي وزمن التنوير- في مجملها أو في أطراف من تجلياتها بديلاً للاستبداد الفكري والديني والسياسي، ومطلبًا ملحًا للتخلص من الميتافيزيقي والأسطوري والقدسي الذي كانت ترزح تحت نيره أوروبا في إطار ما سمي بقرون الانحطاط وكذا النظر إلى الإنسان في حيثياته الإنسانية من حيث هو كائن قادر على تحديد قيمته بنفسه وتوجيه مصيره من دون معونة من خارج ذاته(2). وما يؤكد هذا هو بلورته لتصور جديد للسلطة والدولة وتبيئته لفكرة حقوق الإنسان في جو من المواجهة ضد ثلاث جبهات:
• الأولى ضد الطبيعة، أي ضد العيش بحسب قانون الغاب الذي يقتضي بأن الإنسان الفرد يملك مبدئيًا كل شيء ولكنه عمليًا لا يملك أي شيء طالما إنه يعيش في تهديد ورعب وصراع لا يرحم.
• الثانية ضد تصورات العصر الكلاسيكي اليوناني القائمة على نزعة سيكولوجية تقتضي بأن الإنسان أصلاً ليس متساويًا أمام الطبيعة في حيازته لحصته من القوى والملكات النفسية (الشهوانية والغضبية والعقلية) وبأن الدولة ككيان عام تعكس البناء النفسي للفرد في ميلها نحو هذا الطبع أو ذاك (الارستقراطية، الأوليغارشية، الديمقراطية).
• الثالثة ضد التصور الوسطوي الذي هيمنت عليه نظرة لاهوتية تقتضي ضرورة طاعة الرعايا للملك لكونه خليفة الله في الأرض.(3)
وفي خضم هذه المواجهات الثلاث أرسى هوبز دعائم نظريته التعاقدية التي يرى فيها أن الإنسان في حالة الطبيعة يمتلك حقًّا طبيعيًا وحيدًا ومطلقًا وهو الحرية المطلقة التي يتصرف بها كل فرد بحسب مشيئته وإرادته وقدرته ويعني الحق الطبيعي في هذا المقام الحرية الذاتية واللامتناهية في التصرف واستعمال كل الوسائل الممكنة للتمتع بالحياة والمحافظة على الذات فالقاعدة التي يتأسس عليها الحق الطبيعي المطلق هي الحفاظ على الحياة ولتحقيق هذا المطلب الطبيعي الذي يمليه الوجود البيولوجي للإنسان لا يتردد هذا الأخير في استخدام كل الإمكانات المتاحة له وتحديدًا منطق القوة فتنشأ بذلك حالة من الصراع بين الأفراد ونتيجة إذن لسيادة وهيمنة حق القوة يعيش الإنسان حالة من الخوف الدائم لا مخرج له منه إلا بتحكيم سلطة العقل وإحلال قوانين الفكر محل الرغبة والهوى بحيث يتنازل كل فرد عن حقه الطبيعي أي عن حريته المطلقة لإقامة تنظيم اجتماعي سياسي يفرض التعايش ويردع الفوضى.
وهذا ما تلمع إليه أعماله التي لم تخرج عن هذا النطاق، خصوصًا كتابه «التنين» الذي سطر فيه هذا التصور حيث اعتبر أن الناس يكونون في حالتهم الطبيعية متساوين بحيث يسعى كل واحد منهم نحو المحافظة على ذاته على حساب الآخرين ومن ثمة تقوم بينهم حالة حرب الكل ضد الكل، ولكي يتخلص الناس من هذا الكابوس المزعج يجتمعون معًا ويفوضون قدراتهم الخاصة لسلطة مركزية تسوسهم، وبمجرد قيام هذا النظام لا يكون لأحد الحق في التمرد مادام المحكومون لا الحاكمون هم الملزمون بالاتفاق كما لا يحق للناس أن يفسخوا الاتفاق إلا إذا عجز الحاكم عن توفير الحماية التي اختير أصلاً لأجلها، ويسمى المجتمع الذي يرتكز على عقد من هذا النوع باسم الدولة القائمة على المصلحة المشتركة، وهي أشبه برجل عملاق مركب من رجال عاديين، أي التنين، ولما كانت هذه الدولة أضخم وأقوى من الإنسان فإنها أشبه باله وإن كانت تشترك مع الناس العاديين في كونها فانية.(4)
وعلى خطى هوبز انخرط اسبينوزا في استكناه واستبطان مدلولية التصورات التي أقامتها الحداثة السياسية وذلك من خلال تقصي النظر في مفاهيم الدولة والحق والسلطة والتفكير في السياسي كجزء من نظرية فلسفية متكاملة تسعى لفهم ظواهر الطبيعة والوجود البشري من أفعال وسلوكيات داخل نسق أنطولوجي وتصور أخلاقي يعتبر الحق الطبيعي هو المظهر الكوني الذي يمكن عبره فهم الوجود البشري بمختلف تجلياته المعرفية والسياسية، إذ أكد أن الحق الطبيعي هو أن يفعل الإنسان وفق قوانين الطبيعة وما تشرعه له طبيعته التي تميل نحو الدفاع عن الذات وحفظ الحياة، وما يضمن للفرد هذا الحق هو القوة والقدرة، فيكون له بالتالي من الحق بقدر ماله من القوة، لان الإنسان حسب اسبينوزا مهيأ بالطبيعة للعمل وفقًا لحق طبيعي مطلق تحكمه قوانين الرغبة والشهوة، لا قوانين العقل، فالحق إذن هو أن يفعل الإنسان ما تفرضه عليه طبيعته من دفاع عن الذات وصيانة للحياة وما يضمن له هذا الحق هو القوة والقدرة.(5)
وهذا النمط من التدبير النظري الذي اجترحه اسبينوزا للحق الطبيعي سيؤول به قصدًا إلى استشكاله استشكالاً عميقًا ينحو به نحو الإقرار بان هيمنة حق الطبيعة وبالتالي حق القوة سيفضي إلى حالة من الحرب والصراع والتي لابد من تجاوزها لعدة اعتبارات، بعضها وجداني يتمثل في نزوع الإنسان إلى الأمن والأمان ونبذه الخوف ورغبته اتقاء شر الغير، وبعضها عقلي يكمن في تحكيم العقل في أمور الحياة والقضاء على حالة الطبيعة الفوضوية فيه لتحقيق مصلحة الأفراد.
وهذان الاعتباران الأساسيان سيدفعان اسبينوزا إلى القول بإقامة تعاقد اجتماعي(6) يتخلى بموجبه كل فرد عن قسط من حريته وبعض الحقوق الطبيعية لتكوين مجتمع منظم تسمو فيه سلطة حاكمة ديمقراطية متعالية عن الأفراد وملزمة لهم ورادعة لأهوائهم واندفاعاتهم.
وخلال استعراضه واختباره لمفاهيم الحق والدولة والسلطة لم يجابه اسبينوزا أي استعصاء يذكر في مخاض التدليل على وجهة نظره وذلك بالنظر إلى كونها مستولدة من رحم العهد الجديد ومزكاة أيضًا بواسطة أطاريح فلسفية خصبة ترى أن الهدف النهائي لقيام نظام سياسي ليس هو السيطرة وقمع البشر أو إخضاعهم بالقسر بل هو تحريرهم من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان(7).
كما يرى كذلك أن الهدف المرسوم لقيام الدولة ليس هو تحويل الإنسان العاقل إلى حيوان أو آلة بل هو الحرية الكاملة حتى يتفرغ في أمان تام لوظائف الذهن والجسد، إذ يقول في الرسالة السياسية التي كتبها في أعوام نضجه الأخيرة ''إنني اكرر القول بان الغاية من الدولة ليست تحويل الناس إلى وحوش كاسرة وآلات صماء ولكن الغاية منها تمكين أجسامهم وعقولهم من العمل في أمن واطمئنان. وأن ترشدهم إلى حياة تسودها حرية الفكر والعقل، كي لا يبددوا قواهم في الكراهية والغضب والغدر، ولا يظلم بعضهم بعضًا، وهكذا فإن غاية الدولة هي الحرية في الحقيقة"(8).
وعلى هذا النحو نكون على يقين أن اسبينوزا أدرك بعمق أحد المطالب الأساسية للحداثة السياسية والمتمثل في استقلالية السلطة السياسية وضرورتها كنمط للإكراه العمومي الذي يردع الفوضى ويضمن الأمن ويكفل الحرية الفكرية والسياسية والدينية لكل المواطنين.
ويختلف تصور جون لوك كبير اختلاف عن طرح اسبينوزا حيث حاول أن يجعل من فرضية "حالة الطبيعة" المرجعية التي تؤسس لفكرة الحرية والمساواة، وهي الفكرة التي ستتأسس عليها كافة حقوق الإنسان فيما بعد، يقول لوك: «لكي نفهم السلطة السياسية فهمًا صحيحًا ونستنتجها من أصلها يجب علينا أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عليها جميع الأفراد، وهي حالة الحرية الكاملة في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم بما يظنون إنه ملائم لهم، ضمن قيود قانون الطبيعة، دون أن يستأذنوا إنسانًا أو يعتمدوا على إرادته، وهي أيضًا حالة المساواة حيث السلطة والتشريع متقابلان لا يأخذ الواحد أكثر من الآخر، إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها، المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضًا أن يتساوى بعضها مع بعضها الآخر».(9)
وقد اجتهد المفكر محمد عابد الجابري في توضيح قول لوك حيث أبرز أن "حالة الطبيعة "هي حالة الحرية والمساواة التي يكون عليها الناس قبل أن تقوم فيهم سلطة تحد من حقهم في ممارستها وأوضح كذلك أن فرضية "حالة الطبيعة" لم تكن مجرد فكرة تعتمد على الوهم والخيال بل كانت تستند على التصور الجديد الذي شيده العلم الحديث عن الطبيعة التي تعني فيما تعنيه ذلك النظام الفعلي للأشياء بما في ذلك الإنسان الموجود فيها والخاضع لقوانينها. (10)
وعلى ضوء هذا الاجتهاد وفي أعقاب ما تقدم نتبين أن حالة الطبيعة لا تعني الفوضى بل هي حالة يسري فيها قانون الطبيعة بالصورة التي تضمن حقوق كل فرد وهذا لن يتأتى إلا بإقامة ضرب من الاتحاد بحيث يحمي الحاكم كل واحد منهم ويمكنه من ممارسة حقوقه ويسمح لكل واحد منهم كذلك بأن لا يخضع إلا لنفسه.(11)
الهوامش:
1 - "دليل مرجعي في حقوق الإنسان"، اللجنة المشتركة لتنفيذ البرنامج الوطني للتربية على حقوق الإنسان (الرباط بدون تاريخ)، ص 126.
2 - اللجنة المشتركة لتنفيذ البرنامج الوطني للتربية على حقوق الإنسان، ص 127.
3 - محمد المصباحي، من أجل حداثة متعددة الأصوات، (بيروت: دار الطليعة، 2010)، ص72.
4 - حكمة الغرب، ص62.
5 - منصف عبدالحق، اسبينوزا والتأصيل الانطولوجي للدولة، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 143-142، (بيروت: 2006)، ص54-55.
6 - ظهرت النواة الأولى لنظرية العقد الاجتماعي مع الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز وتطورت على يد الفيلسوف باروخ اسبينوزا ونسبت إلى روسو والسبب في ذلك يعود في نظرنا إلى أنه عرض هذه النظرية بوضوح معبرًا عن أرائه وأراء الذين سبقوه بأسلوب رائع في كتابه الشهير العقد الاجتماعي.
7 - محمد سبيلا وآخرون، في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، (الرباط، المجلس الوطني لحقوق الإنسان،2013)، ص86.
8 - ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد، (بيروت، مكتبة المعارف، 2004)، ص148.
9 - محمد عابد الجابري، مواقف، ع38، (الدار البيضاء، دار النشر أديما، 2005)، ص12.
10 - مواقف، ص13.
11 - مواقف، ص 14.
تغريد
اكتب تعليقك