لماذا يعتبر تعلم لغة جديدة أشبه بعلاقة عاطفية غير مشروعة؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-10-01 21:17:23

رِهام مرسي ماهر

مصر

ترجمة: رِهام مرسي ماهر 

إن تعلم لغة جديدة أشبه كثيرًا بالدخول في علاقة جديدة. سوف تصبح بعض اللغات أصدقاء معك سريعًا، وسوف تعمل أخريات على ربط أذرعهم بصيغ حساب التفاضل والمواعيد التاريخية للاختبارات النهائية المهمة، ثم تزحف من ذاكرتك في اليوم الأخير من المدرسة. وفي بعض الأحيان، سواء بالصدفة أو كعاقبة لملحمة دامت طوال الحياة، فإن بعض اللغات سوف تدفعك إلى حافة الحب.

تلك هي اللغات التي ستستهلك كلّك، قد تفعل كل ما في وسعك لجعلها ملكك. فإنك تحلّل بنيات الجمل، وتقوم بتسميع التصريفات، وتملأ دفاتر الملاحظات بأنهار من الأحرف الجديدة. فتمشي بقلمك فوق منحنياتهم وأطرافهم مرة تلو الأخرى، كما لو كنت تلمس بأصابعك وجه محبوبك. تتألق الكلمات على الورق. تندمج الوحدات الصوتية بالأنغام. تصبح الجمل مذاقها عطر، حتى وهي تدحرج بعيدًا عن فمك وكأنها أحجار مبنية من رموز أجنبية. فأنت تحفظ النثر وكلمات الأغنيات وعناوين الصحف، فقط لتتلقاهم شفتاك بعد أن تغرب الشمس وعندما تبزغ مجددًا.

مع كل فعل وظرف، اسم وضمير، تتعمق العلاقات. ومع ذلك، كلما اقتربت منها، كلما ازداد إدراكك لهذا الفراغ الواسع الشبيه بالسراب بينكم. إنه فراغ هائل من المعرفة، ولا شك أنك تحتاج إلى حياة تدوم للأبد لكي تعبر عنه. ولكن لا داعي للخوف، فالطريق إلى محبوبك يضيء بالفضول والتساؤل الذي يكاد أن يكون حاجة مُلحَّة. ما الحقائق التي ستكشف عنها وسط الحروف الجديدة والأصوات الجديدة؟ عن العالم؟ وعن نفسك؟

وكما هو الحال في جميع العلاقات، تتآكل النشوة في نهاية المطاف. ولكن مع استعادة اتقانك، تستمر في التحليل والتذكر والاستماع والتحدث. سوف تصبح لهجتك غير قابلة للاستبدال، ولن تجد مفر من الأخطاء التي ترتكبها. القواعد لا نهاية لها، وكذلك الاستثناءات. إن الكلمات ـ كالنعمة؛ وبارك الله فيك؛ وكان يا ما كان ـ قد فقدت سحرها. ولكن تعلقك بهم، حاجتكم إليهم أكثر جدية من أي وقت مضى. لقد مشيت مسافة بعيدة عن الوطن لكي تعود الآن، تشعر بالالتزام، وتتأثر سريعًا، وتثق في إحسانهم. وفي حالة تجديد تعهداتك، تأتي اللغة حاملة هدايا من الإلهام والتواصل، ليس فقط للآخرين، بل لك أيضًا.

لقد ابتهج العديد من الكتاب المشهورين بالهدايا التي منحتها لهم لغاتهم غير الأصلية. فقد كان فلاديمير نابوكوف على سبيل المثال يعيش في الولايات المتحدة منذ بضعة أعوام فقط قبل أن يكتب لوليتا (1955): وهو العمل الذي حظي بالترحيب باعتباره "رسالة حب إلى اللغة من شخص متعدد اللغات"، وكان يطلق عليه "سيد النثر الإنجليزي". كتب إيرشمان صامويل بيكيت باللغة الفرنسية للهروب من فوضى اللغة الإنجليزية. ولقد وجد الكندي يان مارتل النجاح ولم يكن بلغته الأم (الفرنسية)، بل باللغة الإنجليزية ـ وهي اللغة التي يقول إنها تزوده "بمسافة كافية للكتابة". هذه المسافة هي ذاتها التي جعلت الروائية التركية إيلف شافاك تكتب بلغتها غير الأصلية (الإنجليزية)، لتقودها إلى أقرب مكان من الوطن.

عندما جلس هاروكي موراكامي على طاولته في المطبخ لكتابة روايته الأولى، شعر بأن لغته الأم (الياباني) تقف في طريقه. تهرع أفكاره للخروج منه "كحظيرة مليئة بالمواشي" كما قال في عام 2015. ثم حاول الكتابة باللغة الإنجليزية، بمفردات محدودة وبناء جملة بسيط. كما ترجم (زرعها ونقلها كما أطلق عليها)، فإن جملته الإنجليزية المدمجة "مجرد من كل الدهون الغريبة" إلى اليابانية، فقد ولد أسلوب غير مزين بشكل واضح بعد عقود من الزمن أصبح ممثلاً لنجاحه على مستوى العالم. وعندما بدأت الكاتبة جومبا لاهيري الحائزة على جائزة بوليتزر الكتابة باللغة الإيطالية ــ وهي اللغة التي كانت تحبها وتتعلمها لسنوات ــ شعرت وكأنها تكتب بيدها الأضعف. فقد كانت "مكشوفة"، و"غامضة"، و"غير مجهزة تجهيزًا جيدًا". ومع ذلك، كتبت في عام 2015، شعرت بالخفة وبالحرية والحماية وبأنها ولدت من جديد. ولقد جعلتها الإيطالية تعيد اكتشاف الأسباب التي جعلتها تكتب ــ "السعادة، وكذلك الحاجة".

ولكن المسائل المتعلقة بالقلب نادرًا ما تترك أي شهود غير ملموسين. بما في ذلك لغتنا الأم. إن جدتي لديها مجموعة من الرسائل التي كتبتها لها بعد أن غادرت أرمينيا إلى اليابان. من حين إلى آخر، تخرج رزمة الأظرف التي تحمل طوابع يابانية تحتفظ بها بجوار جواز سفرها، وتبدأ في قرأتها. هي تعرف كل الكلمات عن ظهر قلب، وتصر بفخر. في يوم ما، وبينما نجلس قبال بعضنا البعض مع شاشة وقارة بيننا، تهز الجدة رأسها.

"شيئًا ما قد تغير"، تقول لي على نحو بغيض وهي تتصفح الجمل من خلال نظاراتها الضخمة. "مع كل خطاب، هناك شيء يستمر في التغير."

"بالطبع يا جدتي" قلت لها، فقد انتقلت إلى اليابان، بلغت، و...

لا، قالت وهي تأسف بتأنيب ضمير معلم، فقد تغيرت كتابتك. أولًا، كان الخطأ الإملائي الغريب هنا وهناك. ثم ظهرت الأسماء والأفعال في أماكن خاطئة.

الصمت يخيم علينا. أنا أتابع موكب الخطابات الإنجليزية على لوحة المفاتيح الخاصة بي.

"إنه ليس بالشيء الدرامي" قالت لي، لمواساتي، في الأغلب، ولكن كان هذا كافيًا لي لكي أحبس أنفاسي في كل مرة أتعثر فيها على أخطاء لم تكن موجودة من قبل.

وهي تفتح ظرف آخر.

ثم تهتف بصوت عالي، "أوه، يا لها من علامات ترقيم!" وعلى نحو مفاجئ، كانت هناك فواصل كثيرة للغاية. ثم نقطة واحدة في نهاية كل جملة.

وهي ترفع نظاراتها على شعرها الأبيض وتبدأ في لف كنوزها في منديل جدي الراحل.

أما آخر رسالة أرسلتها إليّ فتقول بابتسامة منهزمة، هذا حين تغير كل شيء. لقد كتبت في رسائلنا، لقد استخدمت كلماتنا، ولكنها لم تعد تبدو أرمينية.

والحقيقة هي أن الدخول في علاقة حميمة مع لغة جديدة كثيرًا ما يلمع كل شيء. إن أعيننا تتوقع الكلمات الجديدة. تتعود آذاننا على الأصوات الجديدة. تعرف أقلامنا الأحرف الجديدة. وفي حين يستولي هوس على أحاسيسنا، فإن التركيب البنيوي للغة يتغلغل في أدمغتنا. يتم وضع المسارات العصبية، ويتم تشكيل التوصيلات. تتكامل شبكات الدماغ. تصبح المادة الرمادية أكثر كثافة، والمادة البيضاء تزداد قوة. بعد ذلك، تبدأ بقع الألوان الجديدة في الظهور بالخطابات إلى الجدة.

يسمي اللغويون هذا بالتدخل اللغوي، عندما تتداخل اللغة الجديدة مع اللغة القديمة، مثل عشيق جديد يعيد ترتيب أثاث غرفة نومك، كما لو قلنا - هذه هي الطريقة التي سيتم بها القيام بالأشياء هنا من الآن فصاعدًا. وعلى نحو ما، تكشف الكتابة عن هذا التدخل (هذه الخيانة، كما رأت الجدة ذلك) أكثر مما يكشفه الحديث. ربما لأن كلماتنا، عندما نتحدث، تكون تحت رحمة تعبيرات الوجوه ونبرات الصوت، وكما لاحظ الكاتب الفرنسي جي دي موبازانت: "ولكن الكلمات السوداء على صفحة بيضاء هي الروح تستلقي عارية".

رغم مرور عقدين منذ أن كتبت باللغة الأرمينية، فإن الجدة ما كان ينبغي عليها أن تبكي على لغتي الأم المحتضرة. فإن لغتنا الأم، مثلها كمثل الحب الأول، يصعب نسيانها، فهي مخلصة وتصفح عن أخطاءنا. حتى عندما تذبل خطابتنا وتكون كتابتنا مبتلاة بالأخطاء، وعندما تبدو حروفنا الأصلية أجنبية وأصواتنا الأصلية مهجورة، ففي نهاية المطاف، ربتنا لغتنا الأم. فقد عرفتنا حين لم نكن نعرف أنفسنا. لقد شاهدتنا نتعلم كيف نتحدث ونكتب ونبرّر. لقد علّمتنا الحب والحزن. لقد بينت لنا القواعد والاستثناءات. فهي تدرك إنها سوف تردد صوتها دائمًا داخل جدراننا بعد أنا تحولنا إلى ضيوف في منزلنا الخاص. من الطريقة التي سوف نخلط بها الكلمات الجديدة، إلى الطريقة التي سوف نهمس بها الصلوات. فإنها تراقبنا بهدوء، وبشكل غير ممل، بينما نجرف بعيدًا إلى ذراعي لغة أخرى. فهناك، في ظل مجموعة من الجهل والتساؤل، والقيد والحرية، والرعب والتبجيل، والإحباط والبهجة، سوف يرون كتابهم يمارسون ما يسميه موراكامي حقهم الجوهري ــ "نسعى للتجربة مع إمكانيات اللغة". هناك، في آلام الانتماء وعدم الانتماء، سيجدون أبناءهم وبناتهم يجدون أنفسهم.

المصدر: aeon

https://aeon.co/ideas/why-learning-a-new-language-is-like-an-illicit-love-affair

 


عدد القراء: 2974

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-