عادات وشعائر رمضانيّة في جامع حاضرة قرطبة الأندلسيّةالباب: مقالات الكتاب
د. رامي ربيع عبد الجواد راشد مدرس عمارة المغرب والأندلس كلية الآثار, جامعة الفيوم, مصر |
شهر رمضان هو أحد الشهور التي حازت كثيرًا من فضائل الزمان في دين الإسلام، وقد تكاثرت الأحاديث النبوية الشريفة، فضلاً عن آيات القرآن، حول أهمية هذا الشهر وعظيم فضله على سائر الشهور، ولذا فقد ارتبط به عديدًا من مظاهر التعظيم والإجلال، والفرح والسرور في أنحاء بلاد المسلمين على مرّ العصور، وهذا ما يمكن إلقاء الضوء عليه، من خلال الحديث– عبر إطلالة موجزة- عن جامع قرطبة الأعظم في العصر الإسلامي بالأندلس.
إنارة الجامع:
لمَّا كان جامع قرطبة هو المسجد الجامع الأم في بلاد الأندلس قاطبة، لِمَا له من مكانة روحية دينية وعلمية ثقافية، منذ إعادة بنيانه عام (169هـ/785)، عهد الأمير عبدالرحمن بن معاوية الداخل، لذا، فقد فاق غيره من المساجد الجامعة بكثير من الخصال، التي تجلَّت خلال شهر رمضان على وجه التحديد، إذ كان يُخَصص لذلك الجامع حِصَص معلومة من زيت الوقيد للثُّرَيَّات والمصابيح، تَعْدِل في شهر رمضان وحده ما يُصْرف في سائر أيام العام، هذا إلى جانب إشعال الشموع الضخام بجوار المحراب ليالي الإحياء، عونًا على قرءاة القرآن وصلوات التهجد، وإلى هذا أشار المقري التلِمْساني بقوله: (وعدد ثُرَيَّات الجامع ما بين كبيرة وصغيرة مائتان وثمانون ثريا، وعدد الكؤوس سبعة آلاف كأس وأربعمائة كأس وخمسة وعشرون كأسًا، وقيل عشرة آلاف وثمانمائة وخمس كؤوس، وزِنَة مَشَاكي الرصاص للكؤوس المذكورة عشرة أرباع أو نحوها، وزِنَة ما يحتاج إليه من الكتان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار، وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة ربع أو نحوها، يُصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد، ومما كان يُختص برمضان المُعَظم ثلاثة قناطير من الشمع، وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المُقَطّن لإقامة الشمع المذكور، والكبيرة من الشمع التي تؤخذ بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلاً يحترق بعضها بطول الشهر، ويَعُمّ الحرق لجميعها ليلة الختمة)(1).
في موضع آخر– وضمن حديثه عن ثريات الجامع– أشار أيضًا بقوله: (وذُكِر أن عدد ثريات الجامع التي تُسْرج فيها المصابيح بداخل البلاطات خاصة– سوى ما منها على الأبواب– مائتان وأربع وعشرون ثريًا، جميعها من لاطُون مختلفة الصنعة، منها أربع ثريات كبار مُعَلَّقة في البلاط الأوسط، أكبرها الضخمة المعلقة في القبة الكبرى التي فيها المصاحف حِيَال المقصورة، فيها من السُّرج– فيما زعموا– ألف وأربعمائة وخمسون، تُسْتَوْقد هذه الثريات الضخام في العشر الأخير من شهر رمضان، تُسْقى كل ثريا منها سبعة أرباع في الليلة، وكان مبلغ ما يُنْفق من الزيت على جميع المصابيح في المسجد في السنة أيام تمام وَقُوده في مدة ابن أبي عامر مُكَمَّلَة بالزيادة المنسوبة [ له ] ألف ربع، منها في شهر رمضان سبعمائة وخمسون ربعًا)(2).
عن وصف تلك الثريات وهي مُسْرَجَة بالجامع ليلة القَدْر، أشار كذلك المقري– نقلاً عن ابن صاحب الصلاة– بقوله: (وللذُّبَال تألق كنَضْنَضَة الحَيَّات، أو إشارة السَّبَّابَات في التَّحِيَّات، قد أُتْرِعَت من السَّلِيط كؤوسها، ووُصِلَت بمَحَاجِن الحديد رؤوسها، ونِيطَت بسلاسلٍ كالجذوع قائمة، أو كالثعابين العائمة، عُصِبَت بها تُفَّاح من الصُّفْر، كاللفَّاح الصُّفر، بُولِغَ في صَقْلِها وجلائها، حتى بَهَرَت بحُسْنها ولألائها، كأنها جُلِيَت باللهب، وأُشْرِبت ماء الذهب، إن سامَتَّها طُولاً رأيت منها سبائك عَسْجد أو قلائد زبرجد، وإن جئتها عَرْضًا رأيت منها أفلاكًا ولكنها غير دائرة، ونجومًا ولكنها ليست بسائرة، تتعلق تَعَلُّق القُرْط من الذِّفْرَى، وتَبْسُط شُعَاعها بَسْط الأديم حين يُفْرَى)(3).
أيضًا، فإن مئذنة الجامع الشامخة كان يُرفع أعلاها– من جهاتها الأربع- الشموع الضخام لإنارتها، احتفاءً بتلك الليالي الرمضانية، وإلى هذا أشار ابن صاحب الصلاة بقوله: (والشمع قد رُفعت على المنار رفع البُنُود، وعُرِضَت عليها عَرْض الجنود، ليتَجَلَّى طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد، وقد قُوبل منها مُبَيَّض بمُحَمَّر، وعورض مُخْضَرٌ بمُصْفَر، تَضْحَك بِبُكائها وتَبْكي بِضَحِكِها، وتَهْلَك بحَيَاتِها وتَحْيَى بَهَلْكِها)(4).
تبخير الجامع:
كانت– ولا تزال– تلك العادة من بين المظاهر المهمة في مساجد المسلمين كافة، وعلى وجه الخصوص أيام الجُمَع والأعياد، وشهر رمضان تحديدًا، وإلى هذا أشار المقري- ضمن حديثه عن جامع قرطبة ومتعلقاته– بقوله: (ويُوقَد من البُخُور ليلة الخَتْمَة أَرْبَع أَوَاقٍ من العنْبر الأشهب، وثماني أَوَاقٍ من العُود الرطْب، ...، وقال بعض المؤرخين: كان للجامع كل ليلة جُمُعة رَطْل عُود وربع رَطل عنْبر يتبخر به)(5). وفي سياق خبره عن جامع قرطبة ليلة القَدْر، أشار ابن صاحب الصلاة إلى تلك العادة بقوله: (والطِّيب تَفَغم أفواحه، وتَنَسم أرواحه، وقتارُ الألنجوج والنِّدّ، يسترجع من روح الحياة ما نَدّ، وكلما تصاعد وهو مُحَاصَر، أطال من العُمُر ما كان تَقَاصر، في صفوف مَجَامِر، ككُعُوب مُقامر).
عن تلك العادات الكريمة من إنارة وتعطير ذلك الجامع المعظم، خلال شهر رمضان وليلة القَدْر فيه تخصيصًا، ألْمَح ذي الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال (ت 540هـ/ 1145م)، في قصيدة طويلة رائقة له، يتشوف فيها إلى حاضرة قرطبة ومسجدها الجامع- بعدما طال غيابه عنها- بقوله:
مصابيحه مِثْل النجوم الشَّوابك
تُــمــزِّق أثـواب النجوم الـحَوَالك
وتحْــفَــظـه من كل لاهٍ وسـالكٍ
أَجَادِل تنقَضُّ انقضاض النَّيازك
فأبشارهم بالطَبْطَبيّة تُنهب
أجِدْك لم تَشْهَد بها ليلة القَدْر
وقد جاش بِرُّ الناس منه إلى بَحْر
وقد أُسْرِجَت فيه جِبال من الزَّهر
فلو أن ذلك النور يُقْبس من فَجْر
لَأَوْشك نُور الفَجْر يَفْنى ويَنْضَب
كأن للثُّريَّاوات أطواد من نَرْجِس
ذَوَايـبـه تَـهْـفــو بأدنى تَــنَـفُّــس
وطِيب دُخَان النِّد من كل مُعَطَّس
وأنـفـاسه في كل جِـسْـم ومَلْبَس
وأذياله فوق الكواكب تُسْحب
إلى أن تَبَدَّت راية الفَجْر تَزْحَف
وقد قُــضـِى الـذي لا يُـسَــوَّف
تَوَلَّوا وأزهـار المصابيح تُقطف
وأبصارُها صَـوْناً تَغُضّ وتَطْرف
كما تُنْصل الأرماح ثم تُرَكَّب(5).
صلاة القيام:
هي من آكد شعائر هذا الشهر الكريم، اقتداءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المَرْضِيِّين، وعلى وجه الخصوص ليالي العشر الأخيرة منه، تَلَمُّسًا لبركات ونَفَحَات ليلة القدر، وحرصًا على سماع آي التنزيل، مع ما كان يتخلل الركعات من استراحات خفيفة يتم خلالها تناول بعض المشروبات أو المرطبات اللذيذة، فضلاً عن شهود الصبيان لها مع الرجال، وعن هذا أفاد ابن صاحب الصلاة- وقد خرج مُيَمِّمًا وجهه نحو جامع قرطبة لإحياء ليلة القدر به– بقوله: (والناس أخياف في دواعيهم، وأوزاع في أغراضهم ومراميهم، بين رُكَّعٍ وسُجَّد، وأَيْقَاظ وهُجَّد، ومُزْدَحم على الرقاب يَتَخَطَّاها، ومُقْتحم على الظَّهْر يَتَمَطَّاها، كأنهم بَرَدٌ خلال قَطْر، أو حروف في عَرْض سَطْر، حتى إذا قَرَعَت أسماعهم رَوْعة التَّسليم، تبادروا بالتَّكليم ، وتجاذبوا بالأثواب، وتَسَاقَوْا بالأكواب،...، حتى صار عَقْدُنا لا يُحَلّ، وحَدُّنَا لا يُفَلّ، بحيث نَسْمَع سُوَر التنزيل كيف تُتْلَى، ونَتَطَلّع صور التفصيل كيف تُجْلَى، والقَوَمَة حوالينا يجتهدون في دفع الضرر، ويَعْمَدون إلى قَرْع العُمُد بالدِّرَر، فإذا سَمِع بها الصِّبيان قد طَبَّقَت الخافِقَيْن، وسَرَت نحوهم سُرَى القَيْن، تَوَهَّموا أنها إلى أعطافهم واصلة، وفي أقحافهم حاصلة، فَفَرّوا بين الأساطين كما تَفِرّ من النجوم الشياطين،...، فأكْرِم بها مَسَاعٍ تُشَوِّق إلى جنَّة الخُلْد، ويَهُون في السعي إليها إنفاق الطوارف التُّلْد، تعظيماً لشعائر الله، وتنبيهاً لكل ساهٍ ولاه، حِكْمَة تَشْهد لله تعالى بالربوبية، وطاعة تَذِلّ لها كل نفس أبيِّة، فلم أرَ أدام الله سبحانه عِزَّك، مَنْظراً منها أبْهى، ولا مَخْبراً أشهى، وإذا لم تتأمله عَيَاناً فتَخَيَّله بَيَانا)(6).
تلك هي بعض مظاهر حضارة دولة الإسلام في الأندلس خلال عصرها الذهبي، ولعل فيها دعوة لإحياء تلك العادات والمظاهر الفضيلة، تعظيمًا لشعائر الله في الأرض، واحتفاءً بذلك الشهر الكريم الذي فيه تُنْصب الأقْدَام بالقيام، وتُفْرغ الأجواف بالصيام، طلبًا للمغفرة والرضوان، من الله سبحانه وتعالى الحنَّان المنَّان.
الهوامش:
(1) – المقري: نفح الطيب. جـ1، ص 549.
(2) – المقري: نفح الطيب. جـ1، ص 551.
(3) – المقري: نفح الطيب. جـ1، ص 553.
(4) – المقري: نفح الطيب. جـ1، ص 553.
(5) – المقري: نفح الطيب. جـ1، ص ص549–550.
(6) – ابن الخطيب: الإحاطة. جـ2، ص ـ402.
تغريد
اكتب تعليقك