«فاترينة» المراهقين الصور المفلترة ووهم الوجاهة الاجتماعيةالباب: مقالات الكتاب
أسماء عبد العزيز مصطفى مصر |
أصبح المبدأ القديم "الصورة بألف كلمة" هو الاتجاه بين المراهقين الآن للحصول على الوجاهة الاجتماعية، من خلال صورهم المفلترة في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، استوقفني مصطلح من (أمّي) وهي تشاهد مع ابني المراهق صور الانستغرام الذي وصفته بـ "فاترينة" محل، أحالني المصطلح المذكور من أمّي لمقال احتفظ به عن ضمنية الصورة (لبورديار) الذي استخدم فيه نفس المصطلح "فاترينة"، وبالرغم من يقيني من عدم اهتمام أمّي بفلسفة بورديار، إلاّ أن هذا التشابه في وصف ثقافة الصورة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي لفت اهتمامي عن تأثيرها على المراهقين، وتطلعهم لإنشاء "نسختهم المفضّلة" عن ذواتهم بالصور المفلترة.
حقيقة نحن الجيل الأول من الآباء الذين يقومون بتربية الأطفال من صغار السن إلى المراهقين في عصر مشبّع بالانترنت، وهو تحدٍ جديد تمامًا للأبوة، المراهقون بالأخص وهو الجيل الأول للنمو الأوسع في مواقع التواصل الاجتماعي، حياتهم الآن أصبحت تشبه حياة المشاهير، بعدد الصور التي يلتقطونها، وسواء كان التقاط الصورة ليصبح المراهق "مشهور" عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو لمشاركة المزيد من تفاصيله من أجل الحصول على اهتمام متابعيه، فلا نعرف كيف ولا أين تم التقاط كل هذا الكم من الصور، ومع إمكانية الوصل السهل إلى الانترنت من خلال هواتفهم الذكية المحمولة ومزودة بكاميرات أمامية تتيح لهم أفضل طريقة ممكنة لتقديم أنفسهم، وإنشاء نسخة مفضّلة منهم، من خلال التلاعب شكليًا في الصور الذاتية وتطبيقات الفلاتر المختلفة، للوصول لأعلى عدد من "الإعجابات" للصورة الشخصية المفلترة، السيلفي على سبيل المثال هي طريقة لتعبير المراهقين عن أنفسهم للأصدقاء والعائلة والمجتمع، وبإضافة الفلاتر والتلاعب بالصور يخلق معه وهمًا في الحياة اليومية، وكلما زاد التلاعب زاد الترويج الذاتي بين الأقران، وظهر معه جيل من المراهقين المخدوعين بالصور المفلترة، فهي لا تروج للحقيقة بل تروج للنسخة المزيفة.
ضمنية الصورة المفلترة:
في تحليله للصورة في مجتمع الاستهلاك، يتناول (بورديار) مصطلح "فاترينة" المحل كمثال لذلك، فاترينة المحل تكشف عن وظيفة أكثر عمقًا من مجرد كونها وسيلة لعرض السلع، فهي ظاهرة تعبر عن الشفافية التي يدعيها المجتمع الرأسمالي عن نفسه؛ فمظهر الشيء أمام المشاهد دليل على وجوده، فأن ترى هو أن تؤمن seeing is believing، ويتحول الواقع الآن لأن يكون استعراضيًا، تعتبر الفاترينة إحالة إلى الوضع الاجتماعي الخاص الذي يحتل مكانًا وسطًا، فلا هي داخل المحل ولا هي خارجه، ولا هي منتمية للمجال الخاص (المحل) ولا منتمية إلى المجال العام (الشارع)، إنه الوسط الذي يلتقي فيه العام والخاص1، وبالسحب على تحليل بورديار تصبح تطبيقات الصور على مواقع التواصل الاجتماعي فاترينة عرض، بل تصبح واقع ثابت أكثر واقعية من الواقع الحقيقي، أو كما في فكر بورديار "واقعًا فائقًا" Hyper reality.
ويصبح المراهقون في عصر وسائل الإعلام الاجتماعي أكثر من مجرد طفل بالغ، يصبح سلوكه وصوره كاشفة عن نمط الحياة الشخصية، ويصبح جسده أداة لأدوار محددة سلفًا ومدفوعة بعادات متغيرة ووضعيات غريبة، مع لقطات مثالية للعطلة، وارتداء ملابس بعلامات تجارية شهيرة للتنقلات اليومية، وتجمعات الأصدقاء في فنادق باهظة الثمن، يقدم المراهقون أنفسهم وهويتهم بصورة مثالية مفلترة، تصور الشعبية والنجاح والسعادة المتصورة، وكأن كل شيء مثالي، لكن مالم نلاحظه هو أنه في كثير من الأحيان تكون هذه التمثيلات الاجتماعية بعيدة عن الحقيقة، فمن السهل جدًا أن يصدق المراهقون الوهم الاجتماعي الذي يخلقه أقرانهم بتلك الصور المفلترة.
فهل تعكس تلك الصور تمثيل صادق لهم؟ أم أنهم يقومون بدون قصد بإنشاء صورة تعزز ذاتهم اجتماعيًا؟ صورة تسمح للنظر إليهم على أنهم مثاليين وسعداء حتى وإن كانت الحقيقة غير ذلك.
وهم الوجاهة الاجتماعية:
قد يبدو وجه البطة والفلاتر المختلفة أمرًا غير ضار، لكن ما مدى عواقب ذلك على المراهقين، هل تجعلهم في سعادة أكبر بخلق واقع مبتكر وهوية جذّابة يلتقطها لنفسه، أم أنها جعلتهم مهووسون بحدود ما يفكر فيه المستخدمون الآخرون، والسعي للحصول على الوجاهة الاجتماعية من خلال المظهر حتى وإن كان "مزيف".
لا ننكر أن "الوجاهة الاجتماعية" تلعب دورًا مهمًا في عصر السوشيال ميديا، الأهم هل نقبل بتغيير انفسنا واستبدال هويتنا بأخرى "مقبولة" اجتماعيًا بدلاً من أن نكون انفسنا؟، هل السعي " للوجاهة الاجتماعية" بين المراهقين -على وجه الخصوص- من أجل الحصول على الموافقة الاجتماعية، أفضل لهم من قبول فرديتهم وصفاتهم الشخصية واهتماماتهم العادية، دون الحاجة لإثبات دائمًا أنهم "مثيرين للإعجاب"؟.
سواء أدركنا ذلك أم لا فكل منا يملك صورة اجتماعية متصورة للآخرين، وهي فقط التي نسمح من خلالها أن يتم إدراك هويتنا، وهذه "الصورة" هي التي يمكن أن تحدد الطريقة التي نعامل بها الآخرين وحتى كيف نعامل أنفسنا، "ولا شك أن عصرنا يفضّل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود، وما هو مقدّس بالنسبة له ليس سوى وهم، أمّا ما هو مدنّس، فهو الحقيقة، وبالأحرى، فإن ما هو مقدّس يكبر في عينيه بقدر ما تتناقض الحقيقة ويتزايد الوهم، بحيث أن أعلى درجات الوهم تصبح بالنسبة له أعلى درجات المقدّس"2 .
فربما يكون من الجيد الحفاظ على صورة معينة بعيدة عن الانعكاس الحقيقي لشخصيتنا، وربما تكون هويتنا داخل المجتمع وهمًا مبنيًا بعناية من خلال "صورة مفلترة"، لكن كمراهقين هل يفيد الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي في تقديمهم أنفسهم على أفضل وجه للعالم حتى وإن كانت ملفقة؟ وهل تسببنا نحن في ذلك؟ أم أنها تبدو أكثر كثورة سببتها مواقع التواصل الاجتماعي؟ باعتبارها منصات ذاتية التقييم تحدد بها القيمة الذاتية على عدد الإعجابات والمشاركات والتعليقات التي يحصل عليها كل مراهق من خلال "صورة مفلترة".
في ظل هذا التراكم الهائل من الاستعراض وإساءة استخدام عالم الرؤية، حيث تحقق السلعة احتلالها الكلي للحياة الاجتماعية، يصبح الاستهلاك الزائف واستهلاك الصورة هو التنظيم الاجتماعي الحالي، الذي لا تصبح فيه العلاقة بالسلعة مرئية فحسب، بل إن المرء لا يعود باستطاعته أن يرى سواها3، ولمعظم الآباء والأمهات إذا كنت والدًا لمراهق يمكن دائمًا أن تتورط في الضغوط المرتبطة "بالصورة المفلترة"، لقد حولت هذه الصور حياتنا إلى كرنفال صيفي كبير، والكل يريد المشاركة، الكل يريد أن يصبح مثير للإعجاب، الكل يريد الحصول على الأصدقاء الرائعين، انظر إنها ترتدي حقيبة يد غوتشي وهي مازالت في السادسة عشر، وهذا لديه حذاء لويس فيتون ولم يتجاوز الرابعة عشر، وأخرى لديها صورة مثالية على القارب البحري في الجونة، والمزيد والكثير من التفاصيل النخبوية المفلترة التي تضع المراهقين موضع التفوق الاجتماعي بين أقرانه، وتخيل لهم أن القيمة الاجتماعية بالحصول على "الصورة المثالية المفلترة".
على المستوى الشخصي، أؤمن بأن لا يمكن لأي وهم اجتماعي أن يتفوق على هويتنا الحقيقية، ببساطة لا تدع المجتمع يملي عليك كيف يجب أن تقدم نفسك، ولا أن يتعرض المراهقون لضغوط "الفلاتر والمرشحات" لخلق شخص آخر مفبرك لإبهار المجتمع، وتغيير أنفسهم وتحويلهم لنسخ في فن الوهم الاجتماعي النابع من انخفاض احترام قيمة الذات، قد يكون المتسبب فيه ضغوط "الوجاهة الاجتماعية" التي أسسها آباؤهم.
إن امتلاك مهارات الأبوة أكثر أهمية من امتلاك "واجهة اجتماعية مفلترة"، تلك المهارات التي قد تجنب المراهقين الانغماس في وهم "الصورة المفلترة" لدرجة يمكن أن ينسى أنه موجود في العالم الحقيقي، فلكل شخص لديه فكرة رئيسية عن الكيفية التي يريد تقديم نفسه بها، وهناك رغبة فطرية في التميز وأن يراه الآخرون بنفس الانعكاس، لكن بصورة أقرب للحقيقة بعيدًا عن هذا العالم الوهمي الذي يستغل نقاط الضعف الاجتماعي ويخلق عالمًا مثاليًا لقلة مختارة.
ما يجب أن نتذكره هو أن تصويرنا على وسائل التواصل الاجتماعي، والطريقة التي نلبس بها في الأماكن العامة، والحكايات التي نقرر إخبار الآخرين بها، ليست سوى لقطات صغيرة من حياتنا؛ يمكن إخفاء شخصيتنا الحقيقية بسهولة، ونختار أن نكشف عما سيعتبره المجتمع مثيرًا للإعجاب، هذا هو خطر "الوجاهة الاجتماعية"، فكيف نوقفه، وهل نريد ذلك!؟.
الهوامش:
1 - أشرف منصور، "ضمنية الصورة: نظرية بورديار في الواقع الفائق، مجلة آفاق، 2003.
2 - لودفيج فويرباخ، جوهر المسيحية، ترجمة نبيل فياض، الطبعة الثانية، 1841.
3 - جي ديبور، مجتمع الاستعراض، ترجمة أحمد حسان، الطبعة الرابعة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، 2000.
تغريد
اكتب تعليقك