الرواة في ميدان القصيدة الجاهليةالباب: مقالات الكتاب
د. فاطمة المعمري الإمارات العربية المتحدة - جامعة الوصل |
ملخص عن الدراسة
يعتبر الشعر الجاهلي وعلومه وتاريخه أحد أبرز الميادين التي يبحث فيها الدارس والباحث، ولعدة أسباب مختلفة نشأ ما يسمى بقضية الرواة والانتحال، ذاعت هذه القضية إلى حد أنها تدرس إلى يومنا الحالي ويبحث عنها ويدقق فيها لما لها من تأثير على صحة التاريخ الشعري لذلك العصر، في هذه الدراسة نتطرق لمدخل عن هذا الموضوع العميق نورد أهم المفاتيح المؤثرة فيها مما يترك للباحث المتعمق المفاتيح التي يبدأ بها لدراسته المتعمقة.
إن ميدان البحث في الشعر الجاهلي وأدبه ميدان واسع، فالجاهلية من أغنى الحقب بالبلاغة والفصاحة، وأثناء تجوالنا في هذا الميدان نجد فيه قضايا كثيرة هي بحاجة إلى دراسة ومن هذه القضايا التي تلفت الأنظار دائمًا هي قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، وعليه لازال الباحثون يخوضون فيه ويبحثون وينقبون في موضوعه.
للحديث عن الرواية نتظرق أولاً إلى مفهوم الراوي حيث ذكر الخليل الفراهيدي في كتاب العين باب روي: "أن الرواة حسن المنظر في البهاء و الجمال يقال امرأة لها رواء وشارة حسنة، والرواء حبل الخباء، أعظمه وأمتنه وذلك لشدة ارتوائه في غلظ فتله، وكل شجرة أو غصن قد امتلئ قيل قد ارتوى وإنما قالوا روي إذا أرادوا الري من الماء و الأعضاء والعروق من الدم ... والراوي الذي يقوم على الدواب وهم الرواة ولم أسمعهم يقولون رويت الخيل وأكثر ما يقال ذلك في الرياضة والسياسة، فأما الرجل الراوية فالذي قد تمت روايته واستحق هذا النعت استحقاق الاسم وفي هذا المعنى يدخلون الهاء في نعت المذكر فإذا أردت الشيء دون مبالغة قلت هو راوي هذا الشيء1.
وهو نفس المعنى الذي ناقشة ناصر الدين الأسد في كتابه مصادر الشعر الجاهلي2، وتوسع فيه فهو يرى أنا الرواية كانت في بدء أمرها محصورة فيما يتصل بما يحمل كالإناء يحمل به الماء، والدابة يركب عليها، مستشهدا بذلك قول لبيد:
فتولوا فاترا مشيهم
كروايا الطبع همت بالوحل
ثم تطورت اللفظة دلاليًا حتى أضحت تدل على مطلق الحمل مستدلاً بقول زهير3:
يسيرون حتى حبسوا عند بابه
ثقال الروايا والهجان المتاليا
فيقصد بالروايا في هذا البيت الإبل التي يحمل المتاع عليها مطلقًا.
وعلى هذا المحمل يطلق معنى الرواية على حمل الشعر أو الحديث فيقال فلان راوية، ومن هنا تبدأ الصورة بشيء من الإيضاح في معنى الراوية وهو ما نسعى إليه في هذه الصفحات أن نتعرف عليه من قرب لأهمية دور الرواة في الشعر الجاهلي ببعض الاستدلالات التي تفوه بها بعض شعراء ذلك العصر ومنها ما قاله النابغة
ألكني يا عيين إليك قولا
ستهديه الرواة إليك عني
وقصة الحطيئة عندما حضرت وفاته فاجتمع الناس عليه وقالوا له: يا أبا مليكة، أوص. قال: ويل للشعر من راوية السوء.
بهذا نستنتج أن الراوية في الشعر الأدبي إنما عدنا إلى معناها مجازًا وقياسًا على معناها الحقيقي وهو حمل الشيء، فالراوية يحمل الشعر وينقله إلى غيره.
ويرى الدكتور ناصر الدين الأسد4 أن معنى الحمل الأدبي في كلمة الرواية قد مر بمرحلتين كذلك، فالأولى خاصة بالشعر وحده من حفظه ونقله وإنشاده دون الضبط والتحقيق والتمحيص ويرى أن هذا المفهوم استمر حتى آخر القرن الأول وبداية القرن الثاني مستشهدًا بقول محمد بن المنكدر5: "ما كنا ندعو الرواية إلا رواية الشعر، وما كنا نقول هذا يروي أحاديث الحكمة إلا عالم".
فلما أصلت أصول علم الحديث تصدر المحدثون للحديث في مجالس العلم من حفظهم، صار يطلق على هذا العلم أيضًا حديث وصار له رواة كما للشعر رواة وكان في ذلك في آخر القرن الثاني، ومن هنا دخلت الرواية الأدبية في طورها الثاني وهو ما يطبق عليه دور الرواية العلمية، وتختلف عن سابقتها بما تقوم به من الضبط والإتقان والتحقيق والتمحيص والشرح والتفسير.
ننتقل من الراوية إلى الرواية فإذا كان هناك حاملاً للشعر لابد من وجود نهر يحمل منه هذا الشعر وهنا نتحدث عن الرواية وهي ما يرويه الرواة ويتداولونه، وهي القصة أو الحادثة التي يتانقلها الناس، وربما أخذ الراوية هذه الرواية شفهيًا أم قرأها مكتوبة إذا ننطلق في هذا المدخل لمعرفة كيفية تدوين الأدب الجاهلي وبعض الاختلافات الواردة في هذه المسألة ولأنه ليس من صلب الحديث سأكتفي بمسألة نفي الكتابة حيث لا ننكر أن العرب عرفوا بالأمية وقد وصفهم القرآن بذلك فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)6 فهم لا يعتمدون في حياتهم على كتابة ولا يستندون في أمورهم إلى تدوين، وقد ذكر الفيروزأبادي في قاموسه المحيط في مادة أمة يقال للأم الأمة، والأمي الأمان، من لا يكتب، أو من على خلقة الأم لم يتعلم الكتاب وهو باق على جبلته7.
ولكن كون معظم العرب في ذالك الوقت أميون فهذا لا يتنافى على أن القلة القليلة كانت تعرف الكتابة والحديث عن وجود القراءة والكتابة في ذاك الوقت مسند إلى أدلة علمية ومثوبته عن العصر الجاهلي منها الأبيات الشعرية لشعراء معروفين ذكروا فيها أدوات الكتابة ونذكر منهم قول لبيد8:
عفت الديار مـحـلـهـا فمـقامـها
بمنى تأبد غـولـهـا فـرجامـها
فمدافـع الريـان عـري رسمـــــها
خلقا كما ضمن الوحي سلامها
وجلا السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متـونهـا أقلامـهــا
ففي هذا البيت يشبه لبيد آثار الديار بالكتابة في رقيق الأحجار التي مر عليها السيل فأزاح عن الطلول ما علق بها وكأنها كتب طمست.
من خلال هذه الأمثلة يتبين أن القراءة والكتابة في ذلك العصر كانت موجودة ولكنها لا تمثل لهم تلك الأهمية الكبيرة لاعتبارات كثيرة أهمها انشغال العرب بالكر والفر والتنقل بحثًا عن الكلء والماء ويبقى السؤال المطروح هل استخدمت هذا الكتابة في تدوين الشعر أم لا؟
يخبرنا ابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء حين نفى تدوين العشر الجاهلي بعد أن نقل قول عمر بن الخطاب: "وكان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"9. وعقب عليه بقوله: "فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير"10.
هذه شواهد على أن الشعر الجاهلي قد كتب البعض منه ولكنه لم يدون ويتداول بين الناس وربما يعود ذالك لقلة أدوات الكتابة أو لعدم انتشار القراءة بينهم، ولكن لا يعني وجود ألواح سجلت عليها بعض الأشعار وربما نعزي سبب عدم اعتمادهم على تدوين الشعر طبيعتهم المتنقلة والمنشغلة بالحروب فلا وقت لديهم للكتابة والنسخ وتعلم القراءة فاعتمادهم على الذاكرة كان الأقوى، ولذلك انتشر الشعر بالرواية الشفهية ونستدل بقول جابر بن سمرة11: جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو وداعة12: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول:
يا أيها الرجل المحول رحله
ألا نزلت بآل عبد الــدار
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم
منعوك من عدم ومن إقتار
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟
قال والذي بعثك بالحق، لكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله
ألا نزلـت بآل عبد مـناف
هبلتك أمك لو نزلت برحلـهم
منعوك من عدم ومن إقراف
الخالطين فقيرهم بغنيهـم
حتى يعود فقيرهم كالكـافي
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه.
لقد تم تقسيم الرواة إلى أقسام كالتالي:
الشعراء الرواة: هم شعراء بذاتهم، ومنهم ما يروون شعر شاعر بعينه فيتتلمذون عليه ويحتذون به، وهم من يكونون المدرسة الشعرية، ومثال ذلك المدرسة التي تبدأ بأوس بن حجر وتنتهي بكثير فقد كان زهير بن أبي سلمى راوية أوس وتلميذه، ثم صار زهير أستاذًا لابنه كعب وللحطيئة، ثم جاء هدبة بن خشرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار راويته، ثم تتلمذ جميل بن معمر العذري لهدبة وروى شعره وكان آخرهم كثير تلميذ جميل وراويته13. ومنهم من لايخص شاعرًا معينًا فهم يرون عن من سبقهم ومن هو معاصر لهم.
رواة القبيلة: هم أفراد القبيلة عينها يحفظون شعر ونسب وأخبار قبيلتهم ليذيعوها بين الناس ويتفاخروا بها وكان لهم دور في نحل القصائد الفخرية لشعرائهم المعروفين من أجل الافتخار بأنسابهم وتخليد أيامهم ووقائعهم.
رواة الشاعر: وقد كان لبعض الشعراء راوية يلازمه ويصطحبه في حله وترحاله فكان يروي عن هذا الشاعر قصائده وقصصه.
الرواة المصلحون للشعر: وهم رواة نعتبرهم في عصرنا هذا كالنقاد ينقحون الشعر ويصلحون الفاسد منه، و يروونه على ما أصلحوه، وسأذكر لهم مثالاً في ما بعد.
الرواة الوضاعون: هم رواة عرف عنهم الكذب فكانوا يضعون الأحاديث والشعر وهذا لاينفي صدقهم في البعض منه، ولكنهم استغلوا بلاط الأمراء وجلسات السمر للكسب المادي فكانوا يضعون القصص للحصول على المال والتقرب من الأمراء.
رواة علماء: هم أشخاص تمتعوا بحس أدبي غير محدود وبذاكرة مليئة بالأحداث والسير إضافة إلى عمود ذلك كله وهو الشعر فجمعوا في ذلك الوعاء حياة العصر الجاهلي بجميع جوانبه من قصص، لغة، نوادر، شعر، نسب، أخبار، أيام، وهذه الفئة لا نأخذ عليها المآخذ الشديدة لأنهم لم يتفردوا بالشعر وإنما كان هذا الشعر مبحثا من مباحثهم الكثيرة ومن بعض الرواة الأسماء التالية:
قتادة بن دعامة السدوسى14
من رواة الفقه عالمًا بالعرب وبأنسابها ولم يأتنا عن أحد من رواة الفقه من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة أخبرنا عامر بن عبدالملك قال كان الرجلان من بني مروان يختلفان في الشعر فيرسلان راكبًا فينيخ ببابه يعنى قتادة بن دعامة فيسأله عنه ثم يشخص15.
عبدُالرحمن بن محمد بن الأشعث
وقد وصف أخذه للشعر والنسب: "قدِم عبدُ الملك وكان يحبُّ الشِّعر فبعثْتُ إلى الرواة فما أتَتْ عَلَيَّ سنة ٌ حتى رويتُ الشاهدَ والمثَل وفَضُولاً بعد ذلك وقِدم مُصْعبٌ وكان يحبُّ النّسَب فدعوتُ النَّسَّابين فتعلّمتُه في سنة"16.
الكميت17 :
كان الكميت راوية عالمًا بلغات العرب خبيرًا بأيامها ومثالبها ويقال ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومثالبها ما جمع الكميت؛ فما صحح الكميت نسبه صح، وما طعن فيه وهن18.
جرير 19:
كان خلفاء بني أمية يسألونه عن الشعراء: الجاهليين منهم والإسلاميين فيخبرهم بشعرهم وبنقده وأحكامه على هؤلاء الشعراء، ومن أمثلة ما كان يقوله إن طرفه – وقد كنى عنه بابن العشرين – أشعر الناس20.
كان للرواة دور في القصيدة الجاهلية ومما قام به الرواة في ميدان القصيدة الجاهلية هو إصلاحها على سبيل المثال حادثة الشيخ من بني هذيل وكان خالاً للفرزدق من بعض أطرافه، يقول: "... فجئت الفرزدق...ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره فأدخلت من شعره ما أردت ... ثم أتيت جريرًا.. وجاءت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد، فأخذت ما أردت..."21.
ونجد بعض الرواة يقول أخطأ ذو الرمة حيث يقول:
قلائص ما تنفك إلا مناخة
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
ومن أجل ذلك غيره بعض الرواة (ممن يريد أن يحسن قوله) فجعلوه آلا مناخة، وقالوا إنما قاله ذو الرمة على هذا، وكان إسحق الموصلي ينشده: آلا ويقول نحتال لصوابه22 ونجد ذلك في قول ابن مقبل:"إني لأرسل البيوت عوجًا فتأتي الرواة بها وقد أقامتها"23.
وكان لهم دور أخر وهو وضع الشعر حيث تخصص البعض منهم في جمع الشعر وتحصيله وأفرغوا جميع طاقاتهم في حفظه ومن ثم روايته على الملأ وهؤلاء كانوا يتنافسون في تفرد الأشعار من قائليها حتى إذا ما خرجت من أفواههم كان السامعون لهم هم أول من يسمع هذه الأبيات وكأننا نعيش في عصر التطور الصحفي وما أشبه اليوم بالبارحة وكأن هذه الطبقة تذيع هذه القصيدة لأول مرة وكأنه يمتلك الوكالة الحصرية لها وعلى هذا المبدأ كانوا يتواجدون في بلاط الأمراء وفي المجمعات الأدبية وعلى رأس هذه المجمعات الأسواق الشهيرة مثل سوق عكاظ وذي المجنة والمجاز ويتنافسون في إلقاء القصائد الكثيرة على مختلف القبائل العربية في تلك الأسواق وكان أوسع موضوع وجد فيه الرواة الوضاعون مجالاً فسيح للوضع هو القصص وأحاديث السمر حيث كان خلفاء بني أمية وبني مروان يعقدون وخاصة معاوية بن عبدالملك يعقدون مجالس خاصة للسمر والقصص، وهذه المجالس لم تكن وقفًا على بلاط الخلفاء بل شاعت عند العامة وانتشر القصاص في المساجد يخلطون الوعظ بالقصص وأخبار من قبلهم يسقونها للعظة والعبرة والتسلية، فلو نظرنا إلى أخبار عبيد بن شرية التي ألقاها في مجالس معاوية لوجدنا فيها كثرًا من الشعر الجاهلي الصحيح منه والمنحول ومن ذلك الشعر الذي نسبه إلى يعرب بن قحطان، وإلى عاد بن عوض، وإلى ثمود وأخيه جديس، وإلى عمليق وأخيه طلسم، والشعر الذي قيل في وفد عاد على مكة حينما ذهبوا يستسقون،وما قاله لقمان في نسوره السبعة24.
ونناقش هذه القضية كما ناقشها ابن سلام25 حين طرح تساؤلاً عن كيفية حمل هذا الشعر نافيًا وصوله إلينا مستشهدًا بقوله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) 26، أي لا بقية لهم، وقال تعالى: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى) 27، وقال في عاد (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)28، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)29.
تميز الرواة بصياغة الفن القصصي لعلم الرواية وبما بدأ من هذا الوقت نشأة الرواية القصصية التي ضمت في ثناياها قضايا عديدة ضربت بأيديها الشعر الجاهلي حتى مزقته تمزيقًا جعله يسقط شلوًا فشلوًا من خلال إدخال هذه القصص الخرافية (من جانب شخصي).
ونسرد ماذكره الأصمعي30 يومًا عن بني أمية وشغفهم بالعلم فقال: "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب فيبردون فيه بريدا إلى العراق".
وهذه من الروايات التي أراها قد طبعت ببعض المبالغة فهل من المعقول أن يرد أمير المؤمنين ببريد ليتأكد من بيت شعري، فإذا عدنا إلى تلك الحقبة وهي زمن الأمويين، فإن التنقل كان فيه من الصعوبة الكثير ووسائل النقل كانت إنما هي دواب كالإبل و الفرس والحمير، وقد كان مقر بني أمية في دمشق ومثل هذه الرحلة تستغرق من الوقت ما يقارب العشرة أيام ذهابًا وما يعادلها إيابًا فأرى أن فيها من المشقة الكثير ولكني لا اجزم بطعنها ولا بصحتها ولكن إن ناقشناها من جانب اهتمامهم ودقتهم بالعلم فأرى أن الخليفة كان يستقدم لأولاده مؤدبين، فالأحرى أن يكون مؤدب أبناء الخليفة ذو سعة علم ودراية، والأفضل أن يستقدم لنفسة من يراه عالمًا مكان أن يرسل بريدا في كل مرة.
ومن الروايات التي سمعتها وقرأتها كثيرًا رواية الأصمعي مع الخليفة أبو جعفر المنصور، حين احتال على الشعراء معتمدًا على حفظه السريع فكان الخليفة يحفظ القصيدة من المرة الأولى، ولديه غلام يحفظ القصيدة من مرتين وجارية تحفظ القصيدة من المرة الثالثة، فأعلن عن جائزة لكل شاعر يأتي بقصيدة لم تسمع من أقبل وعين الجائزة وزن ما كتبت عليه القصيدة ذهبا، فكان كلما أتى شاعرًا وجد قصيدته معروفه، حتى احتال الأصمعي ونظم قصيدته
صوت صفير البلبل هيج قلب الثمل
الماء والزهر مع مع زهر لحظ المقل
وجاء متنكرًا إلى الخليفة وقال أنه من شعراء الموصل، وبعد أن ألقى القصيدة لم يحفظ الخليفة القصيدة فأعدها مرتين والثالثة فما حفظها الغلام ولا الجارية، فاستطاع الأصمعي أن يحصل على الجائزة فأحضر القصيدة على قطعة رخام حملها أربعة من الخدم وحصل على أموال الخزنة، ولكن قبل خروجه ناداه المنصور سائلاً، ألست الأصمعي... إلخ.
بحثت عن القصيدة فما وجدتها في الدواوين المعروفة، ولكن الرواة تداولوا هذه القصيدة ولو ذهبنا إليها لوجدنا فيها شيئًا من الخيال فترتيب الحفظ لدى الخليفة والغلام والجارية بتتابع غريب فالأول يحفظ من مرة والثاني من مرتين والثالثة من ثلاث، وكان المنصور خليفة المؤمنين في فترة امتداد الدول الإسلامية ونعرف أن أهم مقومات الحفظ هو خلو البال والتفكير من الانشغال، وخليفة المؤمنين كيف له أن يهدأ باله ويفرغ تفكيره للحفظ وهو قد شغل بأمر الأمة وشغل بالفتوح الإسلامية وبرعيته، فهل يفرغ لحفظ الشعر من مرة واحدة؟ ولو تجاوزنا عن هذه النقطة معتمدين على الصدف، وعلى قوة الذاكرة فإن أول سؤال يطرح علينا هو هل من المعقول أن يحتال خليفة المؤمنين وأميرهم على الشعراء مثل هذه الحيلة الدنيئة من وجهة نظري؟، وإذا كان من الحفظ لهذه الدرجة فكيف له أن لا يميز صوت الأصمعي وقد عرفه قبل خروجه؟ أي أن الرواية فيها شيء من الوضع إن لم تكن بأكملها، وربما قالها الأصمعي بنفسه افتخارًا بشعره رغم أنها كقصيدة ما فيها سوا تكرارًا الحروف ولكن هناك من القصائد الأجمل منها.
وقد قرأت رواية جعفر وعبدالله بن رواحة يوم مؤتة أنه بعد أن قتل زيد بن حارثة استلم الراية جعفر فقاتل القوم حتى قتل فكان جعفر أول المسلمين عقر في الإسلام وقال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عباد حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال والله لكأني انظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابـــــها طيبة وباردا شـرابـهـــا
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنـسـابها
على إن لاقيتها ضرابها
فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنـــه
لـتـنزلـــــــن أو لتكــرهنه
إن جلب الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئـــنة
ها أنت إلا نطفة في شـنة
ولما أصيب القوم قال رسول الله فيما بلغني أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدًا ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدًا قال ثم صمت رسول الله حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدًا ثم قال لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازورارًا عن سريري صاحبيه فقلت عم هذا فقيل لي مضيا وتردد عبدالله بن رواحة بعض التردد31 .
ولو أنا أمعنا النظر في هذه الأبيات لتواردت إلينا بعض الأسئلة بشأنها والسؤال الذي طرح في نفسي هو هل حقًّا قال عبدالله بن رواحة هذه الأبيات، فأجبت على نفسي نافية احتمال هذه الرواية، فعبدالله استلم الراية بعد زيد وجعفر أي أنه كان ثالث قائد للمسلمين فباله كان شديد الانشغال والحيرة غير متفرغ لكتابة الشعر وإلقاءه، فغزوة مؤتة كانت من أصعب الغزوات، وكان قائدًا فيها، والقائد يظل مشغول البال أكثر من غيره فهو مسؤول عن هذا الجيش من المسلمين، فكيف لعبدالله أن يتهيأ ليقول هذه الأبيات الرائعة، إضافة إلى أن حديث الرسول عليه الصلاة والسلام المذكور سابقًا عن تردده في الإقدام والإحجام واضح بتردده وانشغاله في أخذ القرار، وكان هذا التردد أول استلام الراية، فهل كان عبدالله يفكر في الخطوة التي يجب أن يتخذها أم في أبيات يلقيها؟، ولو أنا أجزمنا بقدرة العرب وفصاحتهم في الشعر فمن سمعه ينشد هذه الأبيات وحفظها، فإذا كانت قدرتهم على إلقاء الشعر جعلته يلقي هذه الأبيات فأي قدرة تجعلهم لا ينتبهون إلى السيوف، بل يستمعون إلى الشعر ويحفظونه في وقت تطاوقتهم السيوف فيه وقد حمي وطيس هذه المعركة فهاهو ثالث القادة يقتل، فمن في ذلك الوقت أخذ القصيدة عن عبدالله وحفظها، ولا ننسى أنه بعد عودة الجيش إلى الديار ضل المسلمين يعيرونهم بالفرار، وقد اعتبر الجيش انسحابهم هزيمة فكيف يفخر من حظر هذه المعركة بهذه الأبيات وكانوا قد لقبوا بالفرار وعادوا منسحبين؟
إن هذه الأسئلة تجعل النص في محور الاتهام، ربما قال عبدالله هذه الأبيات ولكن في مكان آخر غير هذه الغزوة، فأرى أنها من الأبيات التي شابها الخلط أو أنها وضعت.
ختامًا إن الرواة لهم دور كبير في القصيدة الجاهلية فهم نقحوا، وجمعوا، ووضعوا- والقصد من الوضع هو ما كان كاذبًا أو صدقًا مشوبًا بالتلبيس- ولكن هل انتحلوا؟ أم أنهم جاؤوا بالأبيات المنحولة ممن قبلهم هو السؤال الذي يدور في الذهن حاليًا.
الهوامش:
1 - كتاب العين لأبي عبدالرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى عام 175 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، طبعة جديدة فنية ومصححة / ص 378.
2 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 187،188
3 - هكذا ذكره ناصر الدين الأسد في مصادر الشعر وفي ديوانه ص 108 ذكرت فساروا له حتى إذا أناخوا ببابه كرام المطايا والهجان المتاليا.
4 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 189،199
5 - المرجع السابق وذات الصفحة.
6 - سورة الجمعة آية 2
7 - القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزأبادي، مؤسسة الرسالة ت بيروت، ص 1392
8 - ديوان لبيد بن ربيعة العامري، دار بيروت للطباعة والنشر، ص 136.
9 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 194، طبقات فحول الشعراء. محمد بن سلام الجمحي المتوفى عام 231، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المدني - جدة، ج 1، ص 24.
10 - طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي المتوفى عام 231، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المدني – جدة، ج 1، ص 25.
11 - 204، طبقات ابن سعد.
12 - المالي، ص 211.
13 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 222.
14 - قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسم بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وقال بعضهم قتادة بن دعامة بن عكابة بن عزيز بن كريم بن عمرو بن الحارث السدوسي البصري الأعمى سمع أنسا وأبا الطفيل وسعيد بن المسيب روى عنه هشام وشعبة وسعيد بن أبي عروبة كنيته أبو الخطاب ولسيرته انظر التاريخ الكبير ج7، ص 185 حلية الأولياء ج2، ص 333، صفة الصفوة ج 3، ص 259، تقريب التهذيب ج1، ص 453، التاريخ الكبير ج7، ص185
15 - طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي المتوفى عام 231، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المدني – جدة، ج 1، ص 61.
16 - الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، دار الجيل – بيروت، طبعة عام 1996، ج 5، ص194.
17 - الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن وهيب بن عمرو بن سبيع وقيل الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن ذؤيبة بن قيس بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر مقدم عالم بلغات العرب خبير بأيامها من شعراء مضر وألسنتها والمتعصبين على القحطانية المقارنين المقارعين لشعرائهم العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها لسيرته انظر، الأغاني ج17، ص3، طبقات فحول الشعراء ج1، ص 189، الوافي بالوفيات ج24، ص 276.
18 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 225.
19 - جرير بن عطية بن الخطفي توفي سنة 111 هـ سنة 728م وعمره نحو ثمانين سنة وامتلك نسله جانبًا عظيمًا من قرية أثيفية في اليمامة أنظر ابن خلكان والمشترك لياقوت وكان بين جرير وبين الفرزدق منافسة العصريين، انظر اكتفاء القنوع ج1، ص 43 طبقات فحول الشعراء ج 2، ص 297، المنتظم ج7، ص 144.
20 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 227.
21 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 129 نقائض جرير.
22 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 242 الموشح.
23 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 144.
24 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 247.
25 - طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي المتوفى عام 231، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المدني - جدة، ج1 ، ص 8.
26 - سورة الأنعام، آية 45
27 - سورة النجم، آية 53
28 - سورة الحاقة، آية 8
29 - سورة إبراهيم، آية 9
30 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، 1988، ص 197، التصحيف والتحريف.
31 - الرواية مختصرة من البداية والنهاية لابن كثير، راجع نصه الدكتور سهيل زكار، دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى 2005، ج3،4، ص 1073.
تغريد
اكتب تعليقك