دور السلطة في التفاعل اللغويالباب: مقالات الكتاب
أسماء خيشي طنجة - المغرب |
إن دراسة إثنوغرافيا الحديث اليومي في شكله الأكثر أصالة، تبين أن اللغة في أبسط استعمالاتها، هي نتاج سيرورة من التفاعلات الكلامية بين أفراد المجتمع، وبصيغة أخرى فالإنتاج الكلامي المتمثل في المحادثات اليومية يبنى في إطار سيرورة من التفاعلات بين الفاعلين، ومن هنا نتوصل إلى نتيجة مفادها أن اللغة غير مستقلة عن سياق بنائها ولا تأخذ معناها إلا داخل سياق إنتاجها، فهي تتحدد به وبها ينتج الأفراد علاقات اجتماعية.
ومن جهة أخرى، فاللغة بهذا المعنى الذي سبق ذكره لها أنساق متعددة، فالرمز والجسد عبارة عن أنساق تفاعلية فعالة تحمل ثقافة وعادات وتعاقدات اجتماعية متعارف عليها. إذن فالتفاعل اللغوي هو الركيزة الأساس في ربط العلاقات الاجتماعية، حيث السلطة من صميمها وتتجلى هذه الأخيرة في الحديث اليومي الذي ينم عن فعل سلطة، وبه تنتج وتتمظهر وتتعزز في العلاقات الاجتماعية وبها يأخذ الحديث اليومي معناه.
بما أن مفهوم السلطة يعتبر من المفاهيم الأكثر شيوعًا واستعمالًا في العلوم الاجتماعية، فإننا سنقوم بتحديد المفهوم تحديدًا إجرائيًا كخطوة أولية تفرض نفسها على كل باحث مبتدئ. إذن ما موقع السلطة في الدراسات الاجتماعية والإنسانية وكيف تناولها الباحثون في الحقل اللغوي؟.
لعل من الأعمال المهمة المؤسسة لمفهوم السلطة في العلوم الاجتماعية تعود إلى السوسيولوجي الالماني "ماكس فيبر"، في مؤلفه الشهير الاقتصاد والمجتمع.
يحدد ماكس فيبر السلطة كالتالي"السلطة تعني فرصة الفرد في فرض إرادته داخل علاقة اجتماعية معينة بالرغم من وجود مقاومة لذلك."
ففي هذا التعريف يحاول ماكس فيبر أن يبين لنا مدى تجلي السلطة بين الأفراد من خلال ممارستها من طرف فاعل على فاعل آخر، فحسب بعض الباحثين من أتباع ماكس فيبر أن التحديد الفيبري يتميز بنوع من الإرادة، أي أن السلطة مرتبطة بإرادة شخص ما في فرض سلطته على الآخر.
فبالنظر للأهمية التي يحتلها مفهوم السلطة في أبحاث العلوم الاجتماعية فقد تم بعث هذا المفهوم من جديد مع السوسيولوجي الفرنسي جورج بلانديه، ففي كتابه "الأنثروبولوجيا الإفريقية ومسألة السلطة" يوضح أن السلطة مفهوم غامض، فهي تحيل في نظره إلى القدرة على تحريك القوى، حيث أن سوء استعمالها يؤدي إلى العنف وبالتالي اختلال في النظام، فهي عنصر منظم للتراتبية الاجتماعية، ومن ثم فالهيمنة والمنافسة من صميم السلطة.
حسب هذا التحديد فالسلطة هي عنصر مؤسس للنظام داخل الوحدات الاجتماعية، فهي ليست شيء بعينه بل هي علاقة اجتماعية يمارس الفاعل من خلالها سلطته على فاعل آخر لتحقيق أهداف معينة، إذن السلطة هي القدرة على التأثير في السلوك في نظر جورج بلانديه.
أما بالنسبة لأنطوني غيدنيز فهو يقترح خصائص خاصة للسلطة من خلال الموارد التي يمتلكها الفاعلين لممارستها، يميز الكاتب إذن بين ثلاث أنواع من الموارد:
أولاً: المعرفة.
ثانيًا: المعايير والقيم الثقافية والتي تمنح لبعض الفاعلين سلطة شرعية أو تقليدية أو كاريزمية.
ثالثًا: الموارد المادية أو الانتماء لبعض الشبكات.
وفي حقل آخر من حقول العلوم الاجتماعية وبالتحديد في إطار علم اجتماع التنظيم تناول Erhard Freidberg في عمله السلطة والقاعدة، دينامية الفعل المنظم، السلطة في علاقتها بالفعل الاجتماعي، والسلطة حسب هذا الباحث هي "التبادل اللامتكافئ لإمكانية الفعل." بهذا المعنى يموقع هذا الباحث السلطة في إطار علاقة التبادل، وهذا التبادل يكون بالضرورة متفاوض عليه بين فاعلين على الأقل، متدخلين في هذه العلاقة.
إذن ففي هذا البعد العلائقي، يجد مفهوم السلطة معناه في سوسيولوجيا التنظيمات كعلاقة تبادل بين الفاعلين لإنتاج فعل معين.
وفي إطار هذا الحقل هناك بعض الباحثين الذين قاموا بدراسة علاقات السلطة في إطار أشكال جديدة لتنظيمات العمل، فبالنسبة لكل من Jean Guy Vaillancourt et Pouline Vaillancourt هناك نموذج تصنيفي modèle classificatoire لأسس السلطة والرقابة التي يمكن أن تكون أداة تحليلية متميزة في حقل العلوم الاجتماعية. ونتطرق هنا إلى بعض أنواع هذه السلط التي نراها مناسبة لمقاربة إشكاليتنا:
• السلطة التقنية وهي السلطة التي تقوم على استعمال الوسائل التقنية والتكنولوجية كالرقابة الاليكترونية مثلاً.
• السلطة الربحية والتي تقوم على إعطاء الأفراد مكاسب مادية لحثهم على فعل شيء ما كالهدايا والعطايا.
• السلطة القهرية والتي تقوم على العنف أو الحبس أو النفي أو التهديد.
• السلطة السوسيو بنيوية والتي تقوم على ميكانيزمات اجتماعية وتنظيمية كالتعاون والتقسيم الاجتماعي للعمل كالتراتبية مثلاً.
• السلطة التقليدية تتأسس على استخدام الرموز والطقوس وكذلك تتأسس على الافكار والاحاسيس.
• السلطة-الخبرة تتأسس على الكفاءة المهنية وعلى المعرفة العلمية التي يمتلكها الفاعل.
• السلطة الكاريزماتية وهي امتلاك الفاعلين لخصائص القيادة وقوة الشخصية.
بعد ما أوضحنا مفهوم السلطة بشكل عام في العلوم الاجتماعية، فإننا سنتطرق إلى توضيح مدى علاقة السلطة مع التفاعل اللغوي، وتتمثل في الإقناع من خلال الحوار داخل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، كما تتجلى في التأثير والتأثر بين الفاعلين. فالتفاعل اللغوي أو الكلام يتضمن السلطة عن طريق التأثيرات المتبادلة أثناء الحديث من خلال الخطابات كما جاء في قول نورمان فيركلو في كتابه" اللغة والسلطة" " فاللغة كما ينظر إليها هذا الكاتب ليست بنية مستقلة، ومجرد نظام من الجمل بل اللغة بوصفها خطابا وحدثًا ينتج من خلال التفاعل بين الأفراد، وعلى نحو مماثل لا يتكون المجتمع من فسيفساء أفراد، ينظر إليه في إطار بنية متراصة بل بوصفه تكوينًا ديناميكيًا من العلاقات والممارسات التي يشكلها، إلى حد بعيد الصراع على السلطة. فأصحاب المهن مثلاً لا ينتظمون في نقابات فحسب بل في مؤسسات تتشكل أعرافها إيديولوجيا عبر تلك العلاقات تمييزها من خلال تلك الخطابات المعينة."
لا شك أن هذه الخطابات التي تجري بين الفاعلين عبر العلاقات التي تربطهم يتم الوصول إلى الغايات والأهداف والمصلحة المطلوبة عن طريق التأثيرات المتبادلة. كما أشار إليه نورمان في قوله، ومن خلال الأيدولوجية تتشكل أعراف المؤسسات أي أن السلطة تمارس هنا عن طريق رسائل مؤثرة أثناء الحوار وكل مشترك من هؤلاء المشتركين في حديث ما عن موضوع ما يحاول أن يثبت صحة الفكر الذي يحمله عن طريق التأثير على المشاركين الأخرين من خلال كلامه وإقناعهم بصحة ما يقول.
إذن فالسلطة هنا رمزية تمارس عن طريق اللغة المنجزة بالفعل الكلامي. فالسوسيولوجي الفرنسي pierre Bourdieu تحدث عن اللغة كأداة تكمن سلطتها في خارج مكوناتها الصرفية والصوتية والتركيبة...، كما قال في قوله:" إن من يحاول أن يفهم عن طريق اللسانيات سلطة الظواهر اللغوية ونفوذها، ومن يبحث في اللغة عن علة وتفسير فعالية لغة المؤسسة والمتحكم فيها ينسى أن اللغة تستمد سلطتها من خارج.(...) وفي الواقع، إن استعمال اللغة وأعني فحوى الخطاب وكيفية إلقائه في ذات الوقت يتوقفان على المقام الاجتماعي للمتكلم، ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من استعمال لغة المؤسسة واستخدام الكلام الرسمي المشروع.(...). إن الناطق باللسان مضللاً عهد إليه بأمر التكلم."
إدن فالسلطة التي تمارس عن طريق اللغة تكمن في المقام الاجتماعي أو السياق الاجتماعي الذي يتحدث من خلاله المتكلم أي التأثير الذي يتم على المتلقي عن طريق ما يستمده المتكلم من المؤثرات الخارجية وتتمثل في المقام الاجتماعي.
من خلال ما سبق نصل الى نتيجة مفادها أن التفاعل اللغوي أو الكلام يؤثر في العلاقات الاجتماعية أو الروابط الاجتماعية بأشكالها وأنواعها.
فالسلطة هنا تلعب دورًا فعالاً في جعل العلاقات تسري في الاتجاه المرغوب فيه لدى المتكلم أو صاحب القدرة على تسيير الحوار، كما يمكن للسلطة أن تكون سلاحًا لبعض الفاعلين في الوصول إلى غاياتهم، في ظل ممارستها عن طريق اللغة.
فأي مستقبل للحوار الإنساني والتواصل بين الحضارات في أبعاده المختلفة، إذا كان ينم عن فعل سلطة؟.
الهوامش:
1 - Max Weber, économie et société, posthume, 1922. Cité par Guy Rocher, droit, pouvoir et domination, revue sociologie te société, vol ; 18, n,1, avril, P.U.M Montréal, p :9.
2 - Guy Rocher, droit, pouvoir et domination, op.cit. p :8.
3 - George Balandier, l’anthropologie africaniste et la question du pouvoir, cahiers internationales de sociologie, vol, 65, juiellet-décembre 1978, paris, les presses universitaires du France, p :16.
4 - Giddens, A, “the constitution of society, out line of the theory of structuration”, Cambridge polity press. Cité par Cécile Bernaud, équité, jeux de pouvoir et légitimité : les dilemmes d’une gestion concertée des ressources renouvelables , thèse doctorant en géographie humaine, université paris 10 Nanterre, 2008 p : 106.
5 - Stéphane le Queux, compte rendu d’ouvrage de Fridberg Erhard « le pouvoir et la règle, dynamique de l’action organisée », relations industrielles vol, 49, no 2 1994, p : 412.
6 - Jean Guy Vaillancourt et pouline Vaillancourt, « les bases de pouvoir dans les nouvelles d’organisations de travail », actes du colloque 1980 de l’association canadienne des sociologues et anthropologues de langue française, revue ; travailler au Québec. Editions coopératives Albert Saint-Martin, 1981. Montréal p : 7
7 - Norman Fairclough, language and power, Longman-London, New York
, قراءة وتقديم رشاد عبدالقدر، الآداب الاجنبية، بدون عدد، ص،265،266. 8 - Pierre Bourdieu, questions de sociologie, ED, de Minuit, 2011. P : 121.
المصادر والمراجع:
- Pierre Bourdieu, questions de sociologie, ED, de Minuit, 2011 , Paris.
- Stéphane le Queux, compte rendu d’ouvrage de Fridberg Erhard « le pouvoir et la règle, dynamique de l’action organisée », relations industrielles vol, 49, no 2 1994.
- George Balandier, l’anthropologie africaniste et la question du pouvoir, cahiers internationales de sociologie, vol, 65, juiellet-décembre 1978, paris, les presses universitaires du France.
- Guy Rocher, droit , pouvoir et domination, revue sociologie te société, vol ; 18, n,1, avril, P.U.M Montréal
- Gean Guy Vaillancourt et pouline Vaillancourt, « les bases de pouvoir dans les nouvelles d’organisations de travail », actes du colloque 1980 de l’association canadienne des sociologues et anthropologues de langue française, revue ; travailler au Québec. Editions coopératives Albert Saint-Martin, 1981. Montréal.
- Giddens, A, “the constitution of society, out line of the theory of structuration”, Cambridge polity press. Cité par Cécile Bernaud, équité, jeux de pouvoir et légitimité : les dilemmes d’une gestion concertée des ressources renouvelables , thèse doctorant en géographie humaine, université paris 10 Nanterre, 2008
- Max Weber, économie et société, posthume, 1922. Cité par Guy Rocher, droit , pouvoir et domination, revue sociologie te société, vol ; 18, n,1, avril, P.U.M Montréal
- Norman Fairclough, language and power, Longman-London, New York , قراءة و تقديم رشاد عبدالقدر، الآداب الاجنبية، بدون عدد.
تغريد
اكتب تعليقك