الهدهد.. ومنهج البحث عن الحقيقةالباب: مقالات الكتاب
أ.د. لعبيدي بوعبدالله جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية |
لقد ضرب لنا القرآن الكريم أروع الأمثال، وقص علينا أحسن القصص، بتعابير رائعة وأساليب ماتعة، تركيبًا ودلالة. ومن جملتها ما تضمنته سوره من ذكر الحيوانات؛ لتحقيق أغراض دلالية وبلاغيّة عديدة. والحيوانات التي ذكرها القرآن الكريم هي: الإبل والبغال والبقر والبعوضة والثعبان والجراد والحمير والحوت والخنزير والخيل والذئب والذباب والسّبع والسلوى (طائر) والضأن والضفدع والعجل والعنكبوت والغراب والفراش والقردة والقمل والكلب والماعز والنحل والنمل والهدهد.
ولا شك أن هذا السجل المعجمي لأسماء الحيوانات يضفي رشاقة على حمولتها الدلالية؛ لتتطابق وعناصر السياق والمقام.
وإذا كان القرآن الكريم قد نقل لنا مفهوم (البحث) من خلال الغراب الذي بعثه الله (يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) ليعلِّم ابن آدم كيف يعالج مشكلاته الاجتماعية والإنسانية، فإنه قد بين منهجه من خلال ما تضمنه جواب الهدهد -وهو يبرر تغيبه عن الاجتماع الذي عقده سيدنا سليمان عليه السلام- في قوله تعالى: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ).النمل، 22-25.
والطريف في هذا أن الهدهد قد سلك في جوابه مسلك الخطاب الهادئ والهادف والهادي:
الهادئ -من خلال البنية الصوتية-؛ لأن موقف دفاعه وإجابته عن الاستفسار الموجه إليه لم يخرجه عن الهدوء والتأدب مع نبي الله. والهادف لأن البنية التركيبية لم تخرج عن محايثة قصدية الخطاب. وهو هادٍ لأن البنية الدلالية كانت دليل سيدنا سليمان عليه السلام للتواصل مع بلقيس فيما بعد.
والأطرف من هذا أنه اتبع خطوات إجرائية منهجية، نوجزها فيما يأتي:
- الاهتمام بمصدر المعلومة: وذلك في قوله: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ)، بل وصف (النبأ) بـ(اليقين)؛ مع أنه لا يحتمل الكذب -بخلاف الخبر-، وفي ذلك تدليل على اهتمامه بالمصدر الذي سيبني عليه استنتاجاته.
- دقة الوصف: في قوله: (وَقَوْمَهَا) بدل (مَلِكَة)، وقوله: (وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) بدل (كل شيء)؛ لأن في قوله هذا أو ذاك حكم مسبق بملَكِيّتها للخلق ولكل شيء.
- التمهيد للموضوع: في ما تقدم من الوصف تمهيد مناسب للدخول في صلب الموضوع.
- التقيد بموضوع واحد: ويظهر من خلال البنية الدلالية لجواب الهدهد أنه لم يتحدث إلا في موضوع واحد وهو العقيدة، وهو في غاية الدقة والأهمية، أراد الله جل جلاله نقله على لسان طائر. وهو ما يؤكد قيّوميته على جميع مخلوقاته، وأنهم لما تساووا في أصل الخلقة تساووا في الإيمان به والدعوة إلى عبادته.
- توظيف الاستقراء: في قوله: (وَقَوْمَهَا)، والاستقراء مسلك لفهم أعمق للظواهر من خلال الانتقال من جزئيات القضايا للحكم على كلياتها.
- تبني الموقف: كل الأدوات المنهجية والمراحل الإجرائية أدت به إلى إصدار حكم أنهى به نقله الحقيقة: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ).
والملاحظ أن في قوله: (يُخْرِجُ الْخَبْءَ) استثمار لمعارفه المسبقة وتجسيد لقناعته الإيمانية.
وهكذا يمكن اعتبار منهج الهدهد في التعاطي مع ما وجده في سبأ منهج البحث السليم؛ في صحة النقل ودقته، وجودة الوصف والتحليل وموضوعيته، وتبني الموقف الملائم مع حسن استدلال. فكانت عناصر خطابه منظومة منهجية متكاملة، ومفاتيح دلالية أثمرت إسلام أمة بكاملها.
تغريد
اكتب تعليقك