ميشيل فوكو: الخطاب والممارسة والسلطةالباب: مقالات الكتاب
د. محمد بوعزة أستاذ التعليم العالي مؤهل - جامعة مولاي اسماعيل مكناس/المغرب |
كريس باركر
ترجمة: د. محمد بوعزة
تقديم:
تتجلى أهمية هذا المقال المترجم للمنظر الثقافي كريس باركر الباحث في الدراسات الثقافية، في أنه يقدم عرضًا تحليليًا مكثفًا للمشروع الفلسفي لميشيل فوكو؛ يلخص فيه صيرورة تطوره من مرحلة التفكير في السلطة والمعرفة إلى المرحلة الأخيرة من مساره الفلسفي وهي مرحلة التفكير في الاتيقا ethics (فلسفة الأخلاق). بالإضافة إلى ذلك، يكتسب المقال أهمية ابستيمولوجية تكمن في منهجيته؛ ذلك أنه يقدم المشروع الفلسفي لفوكو بعرض المفاهيم الأساسية التي تؤطر وتنظم هذا المشروع، وتعكس تطوره الابستيمولوجي. إنه مدخل مفاهيمي تحليلي، ينأى بالباحث عن التلخيص الإنشائي. وهذا ما يظهر بوضوح في تقسيم الباحث لمقاله إلى وحدات، كل وحدة تتولى تقديم مفهوم من المفاهيم الفلسفية الأساسية في مشروع ميشيل فوكو.
في الأخير لابد أن أشير إلى مسألة تطرحها ترجمة أعمال المفكرين الفرنسيين ما بعد البنيويين أمثال فوكو ودريدا وألتوسير وغيرهم، تتصل بتحديات الترجمة، وتتمثل في صعوبة ترجمة المصطلح؛ وقد حاولنا تجاوز هذه المعضلة في ترجمة المفاهيم بالعودة إلى المصادر الأصلية التي وردت فيها لفهم مقاصدها، وترجمتها بما يفيد التعبير عن مضامينها.
النص المترجم
إلى جانب دريدا، يعتبر ميشيل فوكو أكثر المفكرين ما بعد البنيويين المناهضين للفلسفة الماهوية anti-essentialist، تأثيرًا في الدراسات الثقافية في الحاضر. وإنني أحيل على عمله في الكثير من فصول هذا الكتاب (يقصد الدراسات الثقافية: النظرية والممارسة) وسأركز هنا على تصوره للغة والممارسة، الذي يشمل مفاهيم الخطاب والممارسة الخطابية والتشكيل الخطابي.
يرفض فوكو في كتابه (أركيولوجيا المعرفة 1972) النظريات الشكلانية للغة formalist التي تدرس اللغة باعتبارها نظامًا مستقلاً بقواعده ووظائفه. ويعارض أيضًا المناهج الهرمينوطيقية أو التأويلية التي تتوخى كشف المعاني الخفية في اللغة. على خلاف ذلك، يهتم فوكو بوصف وتحليل الانتظامات الخارجية للخطاب surfaces وآثارها.
إن فوكو تاريخاني بشكل حاسم، في إصراره على أن اللغة تتطور وتنتج المعاني في ظل شروط مادية وتاريخية محددة. فهو يبحث في الشروط المحددة والخاصة التي تتحكم في تأليف العبارات وتنظيمها. إن الانتظام regulation باعتباره قانون الخطاب يشكل ويحدد حقلاً متميزًا للمعرفة/ الموضوعات، يتكون من مجموعة معينة من المفاهيم. ويقوم هذا الحقل المعرفي الذي ينظم لغة الخطاب، بفرض "نظام محدد للحقيقة" (ما يُعْتَبَرُ حقيقيا في هذا الحقل المعرفي). وباختصار، يسعى فوكو إلى تحديد الشروط التاريخية والقواعد التي تتحكم في تشكيل الخطابات أو الطرق المنظمة regulated للحديث عن الموضوعات.
الممارسات الخطابية
إذا كان الفيلسوف دريدا يسلم بإمكانية توالد المعنى إلى ما لانهاية، فإن فوكو، على النقيض من ذلك، يتقصى كيف تستقر المعاني وتنتظم بصورة مؤقتة في الخطاب:
"إن الخطاب يشكل ويحدد وينتج موضوعات المعرفة بطريقة معقولة، بالمقابل يستبعد أشكالاً أخرى من المعقولية reasoning باعتبارها غير معقولة."
ينطوي مفهوم الخطاب عند فوكو على إنتاج المعرفة من خلال اللغة. بما يفيد أن الخطاب يمنح معان للموضوعات المادية والممارسات الاجتماعية. وإذا كان من المؤكد أن الموضوعات المادية والممارسات الاجتماعية "توجد" خارج اللغة، فإنها تكتسب معانيها أو مدلولاتها من خلال اللغة؛ ومن ثم فإنها تتشكل داخل الخطاب discursively.
تولّد الخطابات طرقا للحديث عن موضوع محدد مع تكرار الحوافز أو مجموعة من الأفكار، والممارسات وأشكال المعرفة عبر مجموعة من مواقع الفاعلية. هذه الظاهرة يسميها فوكو التشكيل الخطابي discursive formation. ويقصد فوكو بهذا المفهوم نموذجًا من الأحداث الخِطابية التي تؤدي إلى ظهور موضوع مشترك عبر عدد من المواقع. وهي عبارة عن خرائط مُنَظِّمة regulated للمعنى أو طرق الحديث، التي من خلالها تكتسب الموضوعات والممارسات معان. على سبيل المثال، تضمنت دراسة فوكو للجنون في كتابه "تاريخ الجنون 1973" الخطابات والممارسات التالية:
- عبارات وملفوظات الجنون التي توفر لنا معرفة بالجنون.
- القواعد التي تحدد "موضوعات" الحديث و"التفكير" في الجنون.
- الذوات التي تشخص خطابات الجنون (المجنون).
- العمليات التي من خلالها تحوز خطابات الجنون على السلطة والحقيقة في لحظة تاريخية معينة.
- الممارسات داخل المؤسسات التي تتعامل مع الجنون.
- فكرة إمكانية ظهور خطابات مختلفة عن الجنون في اللحظات التاريخية اللاحقة، التي قد تنتج معرفة جديدة وتشكيلاً خطابيًا جديدًا.
الخطاب والمراقبة
يؤكد فوكو أن الخطاب لا ينظم فقط ما يمكن الحديث عنه (الموضوع) في ظل شروط ثقافية واجتماعية محددة، بل أيضًا من يستطيع الكلام who ، متى when وأين where. ولذلك، فإن معظم عمله يهتم بالاستثمار التاريخي للسلطة. وعندما أصدر فوكو كتابه (المراقبة والعقاب 1977) تجول إلى أبرز فيلسوف يُنَظِّرُ لنظام المراقبة في المؤسسات الحديثة، والممارسات والخطابات. ويتناول، بالتحديد، "أنظمة الحقيقة" (ما يُعْتَبَرُ حقيقيا) في الحداثة التي تنطوي على علاقات السطلة/المعرفة، ويركز على ثلاثة أنواع من خطابات المراقبة:
- "العلوم" التي تشكل الذات، باعتبارها موضوعا للبحث.
- الممارسات الانقسامية" dividing التي تفصل الجنون عن العقل، والمجرم عن المواطن، والأصدقاء عن الأعداء.
- تكنولوجيات الذات، التي بواسطتها يشكل الأفراد ذواتهم.
تنشأ تكنولوجيات المراقبة في مواقع متنوعة، تتضمن المدارس والسجون والمستشفيات ومصحات الأمراض العقلية ودور الأيتام؛ وتنتج ما يسميه فوكو بـ"الأجساد الطيّعة" docile bodies، التي يمكن إخضاعها واستخدامها، تحويلها واستغلالها" (فوكو، المراقبة والعقاب 1977: 198). وتعمل المراقبة على تنظيم الذات في الفضاء من خلال الممارسات الانقسامية والتدريب والمعَايَرَة. standardization وهي تشكل الذوات من خلال تصنيفها وتسميتها في نظام تراتبي، استنادًا إلى نظام للعقلانية والفعالية والإنتاجية و"المقَايَسَة" normalization. ويقصد فوكو بالمقايسة نظاما من المقولات التصنيفية والقياسية والفواصل، يجري من خلاله تصنيف الذوات الفردية بالاستناد إلى معيار محدد. على سبيل المثال، كان على الطب الغربي والأنظمة القانونية الغربية أن تحتكم إلى القياسات والتصنيفات الإحصائية للحكم على ما هو سَوِيّ normal. وقد أدى ذلك، على سبيل المثال، ليس فقط إلى تصنيفات لما هو معقول وحمق، بل أيضا لدرجات "المرض العقلي". ومن ثم، تعتبر أنظمة التصنيف أساسية لعملية المقَايَسَة، التي تضطلع بإنتاج فئة من الذوات.
ترتبط استعارة سلطة المراقبة -بصفة عامة- بما يسميه فوكو "البانوبتيكون" panopticon. وهو عبارة عن تصميم سجن يتكون من ساحة يَتَوَسَّطُها برج للحراسة يضمن المراقبة الدقيقة للبنايات والزنازن المحيطة به، التي تتوفر على نافدة مفتوحة على البرج. وقد صُمِّم هذا السجن (البانوتيكون) ليكون نزلاء الزنازن مرئيين للحارس، وبالمقابل لا يتمكن السجناء من رؤيته.
في هذا التصميم السجني تصبح الزنازن "مسارح صغرى" يكون فيها كل مُمثّل actor وحيدًا ومفردنا induvidualized على نحو تام، وباستمرار مرئيًا visible" (فوكو، المراقبة والعقاب 200:1977). إن فكرة "البانوبتيكون" (من المشكوك فيه أن التصميم قد تحقق) هي استعارة للسلطة الدائمة، غير المرئية، والمنتشرة في كل مكان، وللمراقبة التي تعمل في جميع حقول التنظيم الاجتماعي.
إنتاجية السلطة
في تصور فوكو تنتشر السلطة عبر العلاقات الاجتماعية، ولا يمكن اختزالها في الأشكال والمحددات الاقتصادية المركزية، ولا في طبيعتها الشرعية أو القانونية. على خلاف ذلك، تشكل السلطة نسيجًا منتشرًا في بنية النظام الاجتماعي بأكمله. وبالإضافة إلى ذلك، السلطة ليست ببساطة أداة للقمع repressive؛ بل قوة منتجة productive. بمعنى أنها تشكل الذوات. إنها متورطة في "توليد القوى، وجعلها تنمو؛ ومسؤولة عن تنظيمها، ولا تكرس قوة واحدة لإعاقة القوى الأخرى، ودفعها إلى الخضوع، أو تدميرها." (فوكو السلطة والمعرفة 136:1980).
في هذا السياق يعارض فوكو "الفرضية القمعية" التي يسلم أصحابها بأن خطابات الجنسانية تتعرض للقمع. بدلاً من ذاك، يشير إلى وجود "تحريض على خطاب الجنس"؛ بمعنى تكاثر للخطابات حول الجنس من خلال مجموعة من الخطابات (أي تشكيل خطابي)؛ على سبيل المثال: خطابات الطب والمسيحية ودراسات السكان. وتضطلع هذه الخطابات المتمحورة حول الجنس بتحليل الجنسانية sexuality (الحياة الجنسية) وتصنيفها وتنظيمها بطريقة تؤدي إلى إنتاج ذوات جنسية sexed subjects؛ وتجعل الجنسانية عاملاً أساسيًا في تشكيل الذاتية.
يقيم فوكو علاقة متبادلة بين السلطة والمعرفة، بحيث لا تنفصل المعرفة عن أنظمة السلطة؛ ذلك أن المعرفة تتشكل في إطار ممارسات السلطة؛ وهي العامل الأساس في تطوير التقنيات الجديدة للسلطة وتحسينها وانتشارها. وهذا ما يقصده فوكو بالمصطلح التحليلي "السلطة/المعرفة" 1980. على سبيل المثال، نشأ الطب النفسي psychiatry من خلال ممارسات محاولة فهم "الجنون" madness ومراقبته وضبطه. وفي إطار هذه الممارسة قام الطب النفسي بتصنيف أشكال الجنون؛ مما أدى إلى ظهور أشكال جديدة من المعرفة وأصناف جديدة من الموضوعات. ويكشف لنا هذا التشكيل الخطابي، أن الطب النفسي (باعتباره خطابًا) يقرر فهمنا لماهية الجنون وماهية العقل، مثلما يفرض علينا هذا التصنيف باعتباره عملية "طبيعية" وليست ثقافية.
ذوات الخطاب
في تصور فوكو تخضع الأجساد للسلطة المنظمة للخطاب، التي من خلالها تصبح "ذواتًا" تدرك نفسها والآخرين. في هذا الإطار، يهتم فوكو بالذاتية كما تتشكل في مواقع الخطاب التي تشغلها؛ ولا يعتبر الذات المتكلمة speking هي مصدر أو أصل العبارة، لأن الذاتية تعتمد على الوجود المسبق للمواقع الخطابية، التي "يمكن تقريبًا أن يشغلها أي فرد عندما ينشئ عبارة؛ وبقدر ما يمكن للفرد الواحد أن يشغل مواقعَ مختلفة في نفس سلسلة المنطوقات، فإنه يشغل وظائف مختلفة في الخطاب." (فوكو حفريات المعرفة 1972:94)
إن فوكو يزودنا بأدوات مفيدة لفهم الكيفية التي تُشكّل بها خطابات السلطة النظامَ الاجتماعي. وهو يصف بشكل خاص العمليات التي يُنتج بها الانتظام الثقافي regulation ذواتًا تتوافق مع هذا النظام، وتعمل على تشكيله وإعادة إنتاجه. ومع ذلك، يرى بعض النقاد، أن مفاهيم فوكو حول مواقع الذات والأجساد الطيّعة تَحرِمُ الذات من أي شكل من أشكال الفاعلية agency؛ لكن فوكو في عمله الأخير، ينتقل إلى التساؤل حول "الكيفية التي تُدفَع بها الذوات إلى تركيز الاهتمام على نفسها، وإلى فهم ذواتها وإدراكها والاعتراف بها كذوات الرغبة subjects of desir (فوكو 1985،:5). هذا البعد الجديد، يتصل بالكيفية التي يتعرف بها الفرد على نفسه كذات فردية متورطة في ممارسات التَّكَوّن الذاتي، والاعتراف والتفكير.
إن الاهتمام بالتكوّن الذاتي –من قبل فوكو-، باعتباره ممارسة خِطابية، يتركز حول مسألة الاتيقا ethics (فلسفة الأخلاق)، التي هي صيغة "للعناية بالذات". وفي منظور فوكو، تهتم الاتيقا بالحكمة العملية؛ كيف ينبغي للفرد أن يعتنيَ بذاته في الحياة اليومية. بهذا المعنى، تتمحور الاتيقا حول "حُكْم الآخرين وحكم الذات"، وتشكل جزءًا من استراتيجياتنا "للسلوك حول السلوك" والتدبير المحسوب للشؤون. (فوكو 1979، 1984).
مصدر النص:
Chris Barker, Cultural Studies :Theory and Practice, SAGE, Publication.London-Thousand Oaks-New Dilhi,2003,pp101- 104.
تغريد
اكتب تعليقك