جمَاليَّات السُّؤَال في شِعْر المُتَنبِّيالباب: مقالات الكتاب
د. الحسين اخْليفة المغرب |
د. الحسين اخْليفة/ د.خديجة منير
توطئة
مَن يُمعن النظر في المنجز الشعري للشاعر العباسي أحمد بن الحسين المتنبي (303-354هـ)، سيفطن إلى تفرُّده بجملة من الظواهر الأسلوبية التي أثارت -ولا تزال- أنظار النقاد والبلاغيين واللغويين. من أجلِّها ظاهرة الاستخدام المفْرط لأسلوب الاستفهام عامة، والاستفهام بالهمزة خاصة. ولعله وجد في هذه الأسلوبية أداة جمالية مسعفة على البوح الشعري، والتعبير الجمالي عن الانفعالات والأفكار والمعاني المترجمة لرؤيته الوجودية، ونظرته إلى الواقع والإنسان والتاريخ.
نروم في هذا المقال إذن، تعقّب الجماليات الأسلوبية التي تتأسس على الهمزة الاستفهامية في شعر أبي الطيب، وذلك بمساءلة طرائق توظيفه للمستفهَم عنه، ومزاوجته بين الذكر والحذف، والثبوت والنفي، والتقديم والتأخير، والإفراد والتكرار، مساءلة أسلوبية.
2.1 - المستفهَم عنه
يتصرف المتنبي بذكاء في اختيار نوع المستفهَم عنه وعدده؛ إذ يورده أحاديًا تارة، كما يورده ثنائيًا وثلاثيًا ورباعيا تارة أخرى. وترد (أمْ) في الحالات الثلاث الأخيرة، فاصلة بين القضايا المستفهم عنها، فتفيد مع الهمزة السابقة عليها معنى التعيين، ويمكن تعويضها بـ(أيّ). وبذلك يقتضي طلب التعيين متعددًا، مثلما هو جليّ في البيت الآتي الذي رصد فيه أربع صفات: الرأي، والسخاء، والشجاعة، والأدب:
أفي الرَّأْي يشْبه أمْ في السَّخا
ءِ أم في الشَّجَاعة، أمْ في الأدبْ(1)
يمدح في القصيدة التي اجتزأنا منها هذا البيت سيف الدولة الحمداني، وقد بعث إليه برسالة من خط يده، يدعوه فيها إلى القدوم إليه، فوظف أسلوبية الاستفهام بالهمزة القائمة على مستفهَم عنه متعدد. وكأنه يريد بواسطة (أمْ) تحديد الصفة الذي يشبه فيه الممدوح غيره من الخلفاء والأمراء. وتتراوح في نظره بين: رجحان عقله، وسماحة يده، وبطولته وعزته، وجودة قريحته.
ويقتضي المنطق القاعدي تعيين أحد العناصر السابقة الذي حصلت فيه المشابهة والمماثلة بين المخاطَب وغيره. يقول عباس حسن في هذا الصدد: «ولما كان التعيين والتحديد هما الغرض من الإتيان بـ(أم) هذه -ومعها همزة الاستفهام التي قبلها- وجب أن يجيء الجواب مشتملا على ما يحقق الغرض، فيتضمن النص الصريح بذكر أحد الشيئين وحده»(2). بيد أن الممدوح في نظر الشاعر يخرق هذه القاعدة، حيث يحظى بشرف السبق والريادة لما يتفرد به من قيم وشمائل عربية أصيلة. هكذا وظف استفهامًا إنكاريًا، ينفي به عن الأفهام احتمال حصول تقارب وتماثل بين ممدوحه، وبين غيره من ذوي الفضل والكرم.
يتبين هنا أن التعدد في المستفهَم عنه ينبني على مقومات فنية وعناصر دلالية، ويؤسس أسلوبية تقتضي في حقيقة الأمر استقراء كل الحالات المحددة، والنفاذ إلى أسرارها في ديوان المتنبي، وبذلك نستطيع أن نبني صورة شمولية واضحة عنه. وبوسعنا أن نلمس هذا الاختيار الأسلوبي القائم على تعدد المستفهم عنه عند الشاعر في بنيات نصية كثيرة، منها قوله في مطلع داليته التي مدح بها بدر بن عمار الأسدي الطبرستاني، لما ولاه أبو بكر محمد بن رائق سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة حرب طبرية:
أحُلْماً نَـرَى أمْ زَماناً جَديدَا
أمِ الخَلْقُ في شَخصِ حيٍّ أُعيدَا(3)
وكما يستند هذا اللون الأسلوبي المبني على الهمزة الاستفهامية في اشتغاله الشعري عند المتنبي، إلى الاستخدام المحكم للمستفهم عنه، فإنه يراهن كذلك على تثبيت الكلام ونفيه.
3.1 - الثبوت والنفي
تعتبر أسلوبية النفي خرقًا للقاعدة المعيار "الثبوت"، وعدولاً عنها؛ حيث إن «نظرية الأسلوب كلها تعتمد على فكرة الاختيار، وفكرة الانحراف»(4). وبذلك يكون الدارس ملزمًا باتخاذ الاختيارات والانحرافات أو الانزياحات مداخل لمقاربة النصوص، واستجلاء ما تنطوي عليه من ملامح أسلوبية دفينة. «فنحن عندما نقرأ نصًّا ما قراءة أسلوبية، نحاول أن نميز الاختيارات والانحرافات فيه، لأنها هي المفاتيح التي تمكننا من الولوج إلى العالم الشعوري الكامن وراء القطعة الأدبية»(5).
وسيكون منطلقنا الأبيات الشعرية الآتية:
أوَمَا وجدتمْ في الصراةِ ملُوحةً
مما أرقرق في الفُـراتِ دمُـوعِـي(6)
ألمْ يكُ بيننَـــا بـلــــدٌ بـعـيــــــدُ
فصِـير طُــــولهُ عـرض النِّجــــادِ(7)
ألَمْ تَـرَ أيّهَــا المَلِـــــكُ المرجّى
عَجائِـبَ ما رأيْتُ منَ السَّـحـــابِ(8)
فيَا عَجَبـاً منْ دَائـــل أنْتَ سيْـفُه
أمَا يتَـوقَّى شَفْــــــــرتيْ ما تَقَلَّـدَا؟(10)
ويمكن تحديد المعاني المنفية في القول الاستفهامي بالهمزة في هذه الأبيات، كما يلي: وجود ملوحة دموعه في مياه الفرات/اتساع المسافة بين الشاعر والممدوح/رؤية عجائب السحاب/ توقّي الخليفة بطش سيف الدولة.
فإذا أمعنا النظر في هذه القضايا والظواهر المنفية، سيتبادر إلى الذهن أن المتنبي ينوع أداة النفي، فتتراوح بين «لم»، و«ليس»، و«ما»، مع العلم أن ثمة تقاربًا في درجة توظيفها. فقد وظف (ما) و(ليس) ثلاث مرات، ووظف (لم) مرتين. ويبدو أن أسلوبية الهمزة الاستفهامية بالسلب تضطلع بوظيفة إبلاغية وتواصلية هامة. ذلك أن المستهدف من ورائها هو المرسل إليه (المتلقي)؛ وغاية ذلك إثارة لبّه، ولفت نظره، وصولاً إلى استمالته واستدراجه لتقبل الرسالة الموجهة إليه. وبالعودة إلى الظواهر المنفية السابقة مرة أخرى، يتبين أن المتلقي يختلف من حيث مكانته الاجتماعية ومستواه الثقافي، وطبيعة علاقته بالشاعر: الخليفة، والقائد، والأمير، والحبيبة،..
إن النفي في بناء السؤال بالهمزة، منهج سلكه الشاعر الحكيم في تعامله مع متطلبات الحياة ووقائعها وأحداثها، وكأننا به ينطلق من الشك للوصول إلى اليقين. ومن هنا جاز التساؤل: ألا يحق لنا الحديث عن المنهج الاستدلالي بمفهومه الشعري على الأقل عند المتنبي؟ وإذا أمكن ذلك، فما طبيعته؟ وما آليات اشتغاله ووظائفه الشعرية والتواصلية؟ لا يسعفنا المقام على تعقب الإجابات الممكنة عن مثل هذه التساؤلات. لذا، سنتوقف عند بنية آخرى من البنيات الأسلوبية التي تتكئ عليها استفهامات المتنبي، وهي التقديم التأخير.
4.1 - التقديم والتأخير
يكتسي مبحث التقديم والتأخير أهميته، بوصفه أحد المباحث المشتركة بين النحو والبلاغة، وأحد الأركان التي يقوم عليها علم المعاني، كما هو الأمر عند أبي يعقوب السكاكي(11). وهو -في نظر عبدالقاهر الجرجاني- «كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفترُّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شيئًا يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك، أن قُدم فيه شيء، وحول اللفظ عن مكان إلى مكان... »(12). ويقربنا في موطن آخر من حاجة هذه الظاهرة الأسلوبية إلى المقاربة المتأنية والفاحصة التي ستمكننا من سبر أغوارها المختلفة عند قوله: «وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال: (إنه قدم للعناية ولأن ذكرهم أهم) من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهم؟ ولتخيلهم ذلك قد صغر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم..»(13).
ومن الوجوه الشائعة للتقديم والتأخير: تقديم الخبر على المبتدأ، والمفعول به على الفعل والفاعل، وتقديم المركب الحرفي المتعلِّق على الفعل المتعلَّق به، كما سنتوقف عند نماذج لها. ارتأى الشاعر تقديم الخبر على مبتدئه في شواهد شعرية كثيرة، نذكر منها ما جاء في داليته التي قالها بعد خروجه من مصر:
أَصَخْرَةٌ أنَا؟ مَالي لا تحــرِّكنِي
هذِي المدامُ ولا هَذي الأغَاريدُ(14)
قدم (الصخرة) على (الأنا)، مع أن القاعدة النحوية تفرض البنية المعيارية التي هي (أأنا صخرة؟) لكون المبتدأ يرد معرفة. ولعل أسلوبية التقديم ههنا تنبري فيما تختزنه كلمة (الصخرة) من شحنات موسيقية ودلالية قوية. ذلك أنها تتألف من الناحية الموسيقية، من حروف الصاد والخاء والراء، وهي حروف رغم اختلافها في المخرج (لثوي في الصاد والراء)، (وحنكي في الخاء والتاء)، واختلافها في صفات النطق (الجهر في الراء والهمس في الخاء والصاد والتاء). رغم ذلك كله، فإنها تأتلف، فتكوِّن صوتًا يوحي بالفخامة والجزالة والقوة، فخامة الصخرة نفسها في الطبيعة. وبذلك تنفجر الكلمة صلابة على المستوى الصوتي والنفسي والدلالي.
وقدم المفعول به على الفعل والفاعل في قوله مادحا مساور بن محمد الرومي:
هبْك ابْن يزْداذٍ حطمْتَ وصحْبهُ
أتُرى الوَرَى أضحَوا بنى يزْداذا؟(15)
واضحٌ أنه قدم المفعول به (ابن يزداذ) على الفاعل (حطمت)، لكون مدار الاهتمام هو المحكوم (ابن يزداذ). وليس الفعل (الحكم)، المتوقع من الممدوح المرتقب فيه؛ إذ إن من عادته ومبادئه الراسخة الانتقام من الأعداء شر انتقام. لذا فالذي يهم المتلقي هو حدود الفعل، وكأن المتنبي يخشى أن يمتد عقاب الممدوح إلى كل أمثال ابن يزذاذ مستقبلاً. أما هزمه ومن معه من الجنود، وطمس وجوههم بالضرب، وشق أكبادهم قطعًا صغيرة تفترسها الوحوش، أمر لا مرد له.
يقربنا شيخ البلغاء من الأبعاد الدلالية للتقديم والتأخير كما في حالتنا هاته، بقوله نقلاً عن علماء النحو: «وقال النحويون: إن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه، ولا يبالون بمن أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي، يخرج فيعيث ويفسد، (..). فإذا قتل وأراد مريد الإخبار بذلك، فإنه يقدم ذكر الخارجي، فيقول: قتل الخارجيَّ زيدٌ»(16). ثم إن الشاعر انتقى في البيت كلمة (حطَم) عوضا عن (هزم) مثلاً رغم أنه تسعفه وزنًا ودلالةً، وذلك لاستثمار دلالات الكلمة من تكسير وتدمير وعقاب شديد بالنار خاصة، ومن المعلوم أن (الحُطَمة) اسم من أسماء جهنم.
أما بشأن الشواهد النصية المتضمنة لتقديم الجار والمجرور على العمدة (الفاعل)، فنذكر منها قوله:
أيدْري مَا أرَابكَ مَن يُريبُ؟
وهَلْ ترْقَى إلَى الفلْكِ الخُطُوبُ(17)
نلحظ في الشاهد تقديمًا للجار والمجرور (إلى الفلك) على العمدة الفاعل الذي هو (الخطوب)، واستعار (الفلك) لسيف الدولة، لعلو قدره، وسمو شأوه سمو الفلك. ويستغرب من حال تلك الدَّماميل التي أفزعته وروَّعته، وكأنها لم تدر من هو سيف الدولة، ولم تقس قدرتها بقدرته لترى إلى أي حد استطاعت أن ترتقي إليه لتصيبه؛ فهو مقدم، عالي الهمة، رفيع الشأن. واختار كلمة (أراب) بدلاً من (أصاب)، لما في الكلمة من الشك والتهمة والظن والقلق والاضطراب...، موظفًا (ما) الموصولة الدالة على الإيهام، ليعبر بها عن ازدرائه بما ألمَّ به من مرض، وعدم استحقاقه التعريف به وباسمه، فتم إخفاؤه تحقيرًا له واستهجانًا لفعله بالممدوح.
ولعل هذه الصور التي سقناها للتقديم تندرج مجتمعة فيما أسماه الجرجاني «التقديم على نية التأخير»(18)؛ حيث إن الخبر يظل خبرًا سواء قدم أو أخّر، ويسري الحكم نفسه على المبتدأ والمفعول به ومتعلقات الفعل. ويختلف عنده هذا الوجه عن وجه آخر للتقديم والتأخير، ذكره ومثَّل له بتقديم (زيد على المنطلق، أو المنطلق على زيد). في هذه الحالة، يتناوب اللفظان على كل من المبتدأ والخبر، تبعًا لموقعهما في البنية التركيبية تقدمًا وتأخرًا.
5.1 - الحذف والذكر
يعتبر الحذف والذكر من الظواهر البلاغية والأسلوبية التي لها شأنها الكبير في تشكيل جماليات شعر المتنبي، وبناء أنساقه الدلالية والفنية. فـ«هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة»(19). ومن هنا يتبين أن الإفصاح عن مكامن النفوس، وتبليغ أفكارها وإحساساتها، لا يتم على الدوام بالذكر، بل قد يكون الحذف في بعض المَساقات أدق وأعمق. وإذا كان الذكر قاعدة وأصلاً، فإن الحذف استثناء وفرع.
تتعرض مقولات نحوية كثيرة للحذف؛ من قبيل الفاعل، والفعل، والحرف، والمبتدأ، والخبر، والمفعول به. ولنا أن نتأمل ذلك في الشواهد النصية الآتية، علنا نكشف من خلال بنياتها التركيبية وصيغها الأسلوبية عن جانب من القضية في أبعادها الفكرية والجمالية:
- أفي الرأْيِ يُشبــهُ أمْ في السَّخــــا
ء، أمْ في الشَّجَاعة، أمْ في الأدبِ(20)
- مَنْ علمَ الأسْودَ المَخصيَّ مكرُمةً
أقومُه البيضُ أم آبَـاؤهُ الصِّيــــدُ؟(21)
- شيَمُ الليــــــالي أن تُشَكِّـك نــاقتي
صَــدْري بها أفْضـى أم البيْــــداءُ(22)
لقد انزاح الشاعر عن اللغة المعيارية في الشاهد الأول، لما حذف الفاعل في البنية التركيبية (أفي الرأي يشبه)؛ إذ الأصل (أفي الرأي يشبه الأمراء سيف الدولة)، وتتضافر دواعي لفظية ومعنوية لهذا الحذف. من الدواعي اللفظية، القصد إلى الإيجاز في العبارة، ومن الدوافع المعنوية «رغبة المتكلم في إظهار تحقير الفاعل، بصون اللسان عن أن يجري بذكره»(23). وتقوم أسلوبية الحذف ههنا على التقليل من شأن غير الممدوح من القادة، وتنزيل الفعل المتعدي ههنا منزلة اللازم؛ لأن المراد هو مجرد ثبوت الفعل للفاعل أو نفيه، ولا غرض في ذكر المفعول به خاصة أنه معلوم. هكذا نفى بالاستفهام الإنكاري تلك المشابهة التي تتبادر إلى الذهن في جملة من القيم والشيم المشكلة للمنظومة القيمية العربية. ووظف الحرف (في) التي تفيد حيزًا ظرفيًا، وفضاءً مكانيًا لحصول التقارب والتماثل (في الرأي يشبه)، ثم انتقى كلمة (الرأي) معرَّفة بأل عوض (العقل)، لما توحي به من نظر بالبصيرة، ونفاذ للتأمل وعمقه، ما يجعلها أبلغ تعبيرًا، وأوسع دلالة.
وفي الشاهد الثاني إشارة إلى هجاء المتنبي كافور الإخشيدي في داليته الشهيرة، سنة ثلاثمائة وخمسين هجرية. فقد حذف الفعل في بنيته التركيبية (أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟)، إذ أصل البنية (أعلَّمه قومُه..)، كما دلت عليه قرينة السياق. وإذا أمعنا النظر في قول شيخ البلغاء: «ما من اسم أو فعل تجده قد حذف، ثم أصيب به موضعه، وحذف في الحال، ينبغي أن يحذف فيها إلا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره، وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النطق به»( ). فما الذي يجعل من حذف (علّم) أولى وآنس من ذكره؟ تقوم أسلوبية الحذف في البنية النَّصية السالفة، على تجريد المهجو (كافور الإخشيدي) من المكرمة بمختلف صنوفها وفنونها. ولعله هجاء مقذع، يلامس الوجدان في الصميم، ويَكلِم النفس في العمق.
ومن صور حذف الهمزة الاستفهامية، ما جاء في الشاهد الثالث الذي اجتزأناه من قصيدته، التي مدح بها أبا علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي الكاتب. يخاطب في البيت رفيقة حياته في الحل والترحال، والوسيلة المعتمدة عنده في قطع المفاوز، وتجشم المخاطر من أجل تقريب المسافة بينه وبين الممدوح. إن الليالي الطوال وما تحمله في طياتها من مشاق وشدائد، حملت الناقة على الشك في أي الطرفين أوسع: أصدر الشاعر أم البيداء؟ وقدم (الصدر) بعد حذف الهمزة على (البيداء)، وفصل بينهما بـ(أم) عساه أن يركز على الصدر، وما يرمز إليه من أناة وتجلد وصبر على المشقات والأسفار، ومضاهاة البيداء في امتدادها وسعتها.
وانتقى (البيداء) بدل (الصحراء)، بالرغم من أنها تسعفه معنى ووزنًا؛ لما توحي به من فخامة وقوة نطقًا ودلالةً. ذلك أنها تتألف على المستوى الصوتي من حروف مجهورة شديدة انفجارية (الباء والدال والهمزة). أما على المستوى الدلالي، فإن البيداء أكثر دلالة على الهلاك من "الصحراء" أو "الفلاة"، حتى إنها ما سميت كذلك إلا لكون مصير كل من يسلكها، أن يبيد ويهلك ويفنى. ولم يشغل المتنبي مبدأ «الاختيار» فحسب، بل عضده بمبدأ «التأليف»، لما عمد إلى تقديم الجار والمجرور الذي كان حقهما التأخير على الفعل (أفضى) الذي حقه التقديم.
وقد أسس رومان ياكوبصون مفهوم الوظيفة الشعرية على هذين المبدأين في قوله: «فحسب أي معيار لساني، نتعرف تجريبيًا على الوظيفة الشعرية؟ وعلى وجه الخصوص، ما هو العنصر الذي يعتبر وجوده ضروريًا في كل أثر شعري؟ وللإجابة على هذا السؤال، لا بد أن نذكر بالنمطين الأساسيين للترتيب المستعملين في السلوك اللفظي: الاختيار والتأليف»(24). وبذلك يستمد البيت وظيفته الشعرية وقيمته الفنية من منحيين: منحى اختياري قائم على المشابهة والمغايرة في الآن ذاته بين كلمتي (الصحراء) و(البيداء)، ومنحى تأليفي منبنٍ على أساس المجاورة التركيبية. والحق أن المتنبي كان ذا دراية بالسر الجمالي والمعرفي الثَّاوي خلف مفهوم الاختيار أو الانتقاء الذي كان من المفاهيم الراسخة في الدراسات الأسلوبية. ولعل هذا السر نفسه من جملة ما جعل بيير جيرو Pierre Guiraud يؤسس أسلوبيته على اختيارات جمالية معينة في قوله: «إن أسلوبيتنا دراسة للمتغيرات اللسانية إزاء المعيار القاعدي»(25).
إن للحذف -في ضوء ما سبق- بلاغة تنهض على أساس الانتقال من الطابع الخبري للتركيب إلى الطابع الأسلوبي، مما يكون مدعاة للاستدراك والعدول عن نمط خطابي إلى آخر. بيد أن رصد حالات احترام القاعدة المعيارية، وتمييزها عن حالات الانزياح عنها، يملي على الدارس إجراء إحصائيًا يقربه من أسراره؛ مما لا يسمح به المقام.
6.1 - التكرار
يعتبر التكرار من الآليات الأسلوبية التي تحكم اشتغال الاستفهام بالهمزة عند أبي الطيب أيضًا، حينما توظف في مدارها التركيبي. وتتأسس هذه الآلية على ترديد ملفوظات مرة أو مرتين لتأدية وظائف بلاغية جمَّة، تتنوع من مقام إلى مقام ومن سياق إلى آخر. وتعتبر هذه الظاهرة الأسلوبية من الأسلوبيات الرئيسة التي يستعين بها في تجسيد مواقف تواصلية مختلفة. ولنا أن نتأمل جليًا النماذج الآتية:
- هبْــــــك ابْن يزْداذٍ حطمْـــــت وصحْبهُ
أترَى الوَرَى أضحَــــوا بنى يزْداذا؟(26)
- أصخْــــرةٌ أنـــــا؟ مَالـي لا تحُـــــرِّكُني
هذِي المدَامُ ولا هَــــــذِي الأغَـــارِيدِ(27)
- ألَـمْ تَــــرَ أيّـــــهَـا المَلِــــــكُ المُرَجّــــى
عَجــــائِـبَ ما رأيْتُ منَ السَّحــــــابِ(28)
- أفي الرأي يُشْبــــــــــــهُ أمْ في السَّـخــــا
ءِ، أم في الشَّجَــــاعَةِ، أمْ فــي الأَدَبِ(29)
- أتُنْكـــــــرُ ما نطقْــــــــــت بهِ بَدِيـــــــهاً
وليْسَ بمنـكَـــــر سبـــقُ الجَـــــــوادِ(30)
- يفنى الكَـــــــــــــلامُ ولا يحيطُ بفضــلِكمْ
أيحيطُ مَا يَفْــــــــنى بمَـا لا ينْفَــــــدُ؟(31)
نلحظ أنه كرر جملة من الوحدات المعجمية (يزْداذٍ) في البيت الأول، و(هذه/ لا) في البيت الثاني، و(ترى) في البيت الثالث، و(أم/ في) في البيت الرابع و(تنكر) في البيت الخامس، و(يحيط/ يفنى) في البيت السادس. وإذا كانت وحدات من قبيل (يزذاذ)، و(أم)، و(في)، و(يحيط)، وغيرها تكررت تكرارًا مباشرًا بلفظها ومعناها، فجاء التكرار عندئذ متطابقًا متوازنًا، فإنه عمد إلى تكرار وحدات أخرى تكرارًا غير مباشر عن طريق استثمار مشتقاتها (ترى/ رأيت)، و(تنكر/ منكر).
ويفيد هذا التكرار دلالات بلاغية، كما ينطوي على أسرار دفينة تتنوع بتنوع السياق والمقام، وإن كانت جميعها تؤدي وظيفة عامة مشتركة، تتعلق بالإبلاغ والتواصل. فقد أدى التكرار في البيت الأول وظيفتين إيقاعية ودلالية؛ إذ أثرى البيت موسيقيًا، كما أسهم في تشكيل معناه المتمثل في عقد المقارنة بين طبيعة العلاقة بين الممدوح مساور بن محمد الرومي وخصمه ابن يزداذ من جهة، وبين مساور وباقي الناس من جهة أخرى، كما في قول الشارح: «احسبْ أنك حطمت ابن يزداذ ومن معه، أفتظن الناس كلهم أعداء لك مثل ابن يزداذ، فتعاملهم معاملتك إياهم، وتحاول أن تفنيهم جميعًا»(32).
وأدى التكرار في البيت الرابع وظيفة تنظيمية؛ لما أسهم في تقسيم البيت وتوزيع وحداته توزيعًا مشحونًا بأبعاده الدلالية، مفعمًا بسماته الموسيقية، فضلاً عن الوظيفة الحجاجية الإقناعية التي نلمسها في البيت الخامس. فهو يتوجه بالخطاب في البيت إلى أبي العشائر الحسين بن علي بن حمدان، يتعجب من سرعة بديهته بعد أن ارتجل أبياتًا. ثم يرد عليه الشاعر بأن السرعة في نظم الشعر وارتجاله صفة راسخة فيه، شأنها في ذلك شأن السرعة عند الجواد في حلبة السباق، وبذلك أسعفه التكرار على صياغة المعنى والاحتجاج له أيما إسعاف.
إن التكرار في الشواهد الشعرية التي سقناها -إن استثنيا الثاني- مستحسن فيما نحسب. والسر في ذلك أنه استعمل في أحد المواطن النصية والسياقية التي يصلح استعماله فيها، وهو المتعلق بمقام المدح. ذلك أن «للتكرار مواضع يحسن فيها ومواضع يقبح فيها»(33). وكان المتنبي على حد تعبير الجرجاني «أكثر الشعراء استعمالاً لذا التي هي للإشارة، وهي ضعيفة في صنعة الشعر دالة على التكلف»(34). فقد وظفها تارة مجردة من الهاء وتارة مقترنة بها، دالة على الجنس المذكر حينا، ودالة على الجنس المؤنث حينا آخر. ثم استعمل اسم الإشارة في حال التأنيث بصيغة (هذه) مرة، وبـ(هذي) مرة أخرى، ووظفه مصغرًا (ذيًّا) الذي هو تصغير لـ(ذا). ويلاحظ أن المشار إليه يرد بعده معرفًا إما بأل أو بالإضافة، مثلما يرد مقدمًا متبوعا باسم الإشارة، كما في قوله:
أمُسَاورٌ أم قرْنُ شَمسٍ هذَا
أمْ ليْثٌ غابَ يَقدُمُ الأسْتاذَا(35)
نحلص من ظاهرة التكرار إلى أن شغف الشاعر وولعه بالإشارة وتعيين المشار إليه، يمكن أن يخدم غرضين اثيين؛ أولهما حلمه بمجتمع تروج فيه تجارة الشعر، ويعترف فيه الجمهور بالجميل للشاعر، ويقيم الولائم عند نبوغه، وينصت لحكمه وقيمه. وثانيهما حنينه إلى ماض تسود فيه القيم العربية الأصيلة، وتستعيد فيه الذات العربية شخصيتها بعد ما أصابها من نكوص وخيبة وسقوط ومهانة.
خاتمة
وخلاصة القول أن أحمد بن الحسين المتنبي يعتبر قامة إنسانية وإبداعية سامقة، تميز منجزه الشعري بخواصّه ومزاياه الفنية التي لم يستطع الخطاب النقدي -على تنوع أطره النظرية وأسسه الإجرائية والمنهجية- الإلمام بها. وما أسلوبية السؤال بالهمزة في استخداماتها اللغوية والجمالية، ومنازعها المعرفية والوجودية سوى واحدة منها. وتلك سمة من سمات المبدع الحق الذي يشغل الناس في كل العصور والأمصار.
ومن الصعوبة بمكان -والحالة هاته- حصر ملامح القوة في الشخصية الإبداعية لأبي الطيب في هذه الزاوية أو تلك، إذ هي متضافرة يشد بعضها أزر بعض. فإلى جانب براعته اللغوية، وقدرته الخلاقة على تطويع إمكانات اللغة، وتفجير طاقاتها البلاغية والأسلوبية والتداولية، يتميز بسعة حسه الوجودي، وعمق نظرته إلى الذات والآخر والحياة والأحياء. وهو ما يؤكد مفهومه الدقيق للشعر، وتصوره العميق لبعده الوظيفي في الحياة.
الهوامش والإحالات
1 - ديوانه، دار بيروت للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، ط1، 1983م، ص 438.
2 - النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف مصر، ط3، د.ت، 3/591.
3 - ديوانه، ص 133.
4 - مدخل إلى علم الأسلوب، شكري محمد عياد، مكتبة مبارك العامة الجيزة، ط1، 1413هـ -1992م، ص45.
5 - نفسه، ص 46.
6 - ديوانه، ص 39.
7 - نفسه، ص 86.
8 - نفسه، ص 158.
9 - نفسه، ص 372.
10 - ينظر (مفتاح العلوم)، ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية بيروت، ط2، 1987م، ص231 -239.
11 - دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، ص143.
12 - نفسه، ص108-109.
13 - ديوانه، ص 506.
14 - نفسه، ص 69.
15 - دلائل الإعجاز، ص107-108.
16 - ديوانه، ص 362.
17 - دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، ص143.
18 - نفسه، ص 146.
19 - ديوانه، ص 438.
20 - نفسه، ص 508.
21 - نفسه، ص 125.
22 - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، دار التراث القاهرة، دار مصر للطباعة، ط20، 1980م، 2/112.
23 - دلائل الإعجاز، عبدالقاهر الجرجاني، تحقيق فايز الداية ورضوان الداية، ص 183.
24 - قضايا الشعرية، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، ط1، 1988م، ص 33.
25 - الأسلوبية، ترجمة منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري للطباعة والترجمة والنشر دمشق، ط2، 1994م، ص13.
26 - ديوانه، ص 69.
27 - نفسه، ص 506.
28 - نفسه، ص 158.
29 - نفسه، ص 468.
30 - نفسه، ص 246.
31 - نفسه، ص 50.
32 - شرح ديوان المتنبي، 2/185.
33 - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة بيروت، ط5، 1981م، 2/73. ومن المقامات الأخرى التي يستحسن فيها التكرار في تقدير ابن رشيق، مقام الغزل والمدح والتقرير والتوبيخ كما في قوله: «ولا يجب للشاعر أن يكرر اسمًا إلا على جهة التشوق والاستعذاب، (..)، أوعلى سبيل التنويه به والإشارة إليه بذكر (..)، أو على سبيل التقرير والتوبيخ»(1).
34 - الوساطة بين المتنبي وخصومه، القاضي الجرجاني، ص95. ينظر كذلك (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي)، للشيخ يوسف البديعي، تحقيق مصطفى الشقا ومحمد شتا، دار المعارف القاهرة، ط3، د.ت، ص374، و(يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) للثعالبي، شرح وتحقيق مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1983، ص202.
35 - ديوانه، ص 69. يعد تكرار اسم الإشارة في شعر المتنبي عامة، من الظواهر النقدية التي استوقفت بعض القدماء؛ من قبيل القاضي الجرجاني (ت393هـ)، وأبي منصور عبدالملك الثعالبي (ت429هـ)، وإن كان ما أورده لاحقهما مجرد تكرار لما ساقه سابقهما. وتلزم الإشارة إلى أن هذه الظاهرة تثار في معرض رصد معايب شعر المتنبي وهفواته؛ مما يجعلنا نتساءل: هل هي أمر عيب وهفوة، أو أنه أمر عقل وفطنة؟
تغريد
اكتب تعليقك