«خرائط التيه» هل نعبد الله على حرف؟الباب: مقالات الكتاب
سماح ممدوح حسن مترجمة وكاتبة مصرية |
الكتاب: "خرائط التيه"
المؤلف: بثينة العيسى
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون
تاريخ النشر: 1 أكتوبر 2015
عدد الصفحات: 405 صفحة
نمت ليلة وحلمت بضياع ابنة أخي التي أعتبر نفسي أمها الثانية، وصحوت على طعنة ألم في القلب من فظاعة الكابوس، وهو بالضبط الإحساس الذي عاودني وسيحسه أي قارئ عندما يبدأ في قراءة رواية "خرائط التيه، بثينة العيسى" والتي تبدأ بجملتها الأولى لتبث القلق في الصدور "قبل تلك اللحظة، كان كل شيء على ما يرام" ليغرق القارئ من بعد تلك الجملة في بحور من الفظاعات.
يتوجه أبوان كويتيان بصحبة ابنهما الوحيد "مشاري" لأداء فريضة الحج، مطمئنين لاِصطحاب ابنهما إلى مكان قدسيته في قلوب المؤمنين تمحو كل ذرة شك في إلمام النوائب بهم، فإيمانهم الغيبي بقدسية المكان الذي يرعاه الله بنفسه أعمت عنهم كل فكرة تلزمهم بالحذر من القسوة البشرية. خُطف الولد داخل الحرم المحتشد به ثلاثة مليون نفس تطوف وتتضرع، وبعد رحلة بحث مضنية من الأب "فيصل" والعم "سعود" تتصل الخاطفة التي خانت بقية أفراد العصابة بعد أن قرأت الإعلان الذي سيدفع فيه الأب مليون دولار فدية، والتي ستُغير حياتها كليًّا. اتصلت بالعم لتخبره مكان المبادلة، لكنها لم تنجح في خطتها في الهروب بالولد الذي فر هاربًا بمفرده ونجا من الجحيم لجحيم مماثل.
تخصصت تلك العصابة في خطف الأولاد لبيعهم في سوق تجارة الأعضاء، والذي سترسم الكاتبة خريطة له. تبدأ الخريطة من ازدحام الحرم المكي، فشعاب مكة، منافذ التهريب منها عبر البحر الأحمر إلى سيناء، ثم إلى إسرائيل، وإعادتهم جثثًا خالية الأعضاء إلى صحراء سيناء مرة أخرى، مستغلين في ذلك الفراغ الأمني في المنطقة بموجب اتفاقية "كامب ديفيد".
سيعيش القارئ رحلة من الفظائع البشرية التي تجعل من يطّلع عليها (حتى على الورق) يتمنى الاختباء وليس فقط مجرد الهروب. أربعة وعشرون يومًا قضاها مشاري "النتفة" كما يطلق عليه عمه، وذلك بسبب صغر وضآلة جسده كطفل في عمر السابعة ولا يبين أكثر من خمسة، وعاش رعبًا لن ينساه ما عاش. في البداية يُخدّر في الحرم ويُحمل في صندوق سيارة، يتكدس وسط أجساد مماثلة سيكتشف بعدها أن إحداها مقطوعة الذراع. ليصل إلى المحطة المؤقتة للخاطفين في بيتهم النائي الذي يجمعون فيه ضحاياهم استعدادًا لنقلهم إلى رحلتهم الجهنمية أو مثواهم الأخير بعد سرقة أعضائهم ورميهم في الصحراء تنهشهم الضواري. سيعيش "مشاري" المرتعب على طول الرحلة فظائعه وفظائع رفاقه في الحبس حيث الضرب والتعذيب والتجويع، والاغتصاب، كما حدث مع الطفلة الهندية "مريم أكبر" الفقيرة، والتي اغتصبها رجل العصابة "جرجس" لتنزف حتى الموت ويلقى بجثتها في البحر الأحمر لتتناهشها أسماك القرش أمام أعين خاطفيها.
يستطيع "مشاري" الهرب، ليجده ذلك الباكستاني الذي يعيش في مزرعة نائية في جنوب مدينة عسير السعودية. بالتأكيد يغتصبه ويقرر أن يحتفظ به كعبد جنسي، لكن الولد على ضألته يقاوم حتى يوشك على الموت، يتهدد المزارع بفضح أمر احتباس الطفل، فيأخذه إلى كهف مسكون بالوطاويط ويتركه بعد أن حاول ذبحه وتراجع، ليرجع إليه مرة أخرى يأخذه من الكهف ليضعه على باب بيت أحد المزارعين الذين سيبلغون الشرطة ليجده أبويه أخيرًا بعد رحلة كابوسية استغرقت 24 يومًا. ولكل ما حدث في هذه الأيام لن تعود الحياة أبدًا أبدًا لما كانت عليه قبلها، لكل الأطراف، الصبي والأب والأم والعم. فالولد لم ينطق بكلمة واحدة إلا بعد ثمانية أشهر من عودته لهول ما رأى، أما الأب والعم اللذين جابا العالم من الكويت للسعودية لسيناء والعودة للسعودية مرة أخرى، هما أيضًا لن يعودا كما كانا، تاه العم، ألحد الأب، وتدروشت الأم.
ترتكز الرواية على محورين أساسيين، هما فكرتا: الإيمان، والإلحاد، وهل يعبد المؤمنون الله على حرف؟ وفكرة الضعف مقابل القوة، القدرة مقابل العجز.
المحور الأول هي فكرة الإيمان، هل إيمان المؤمنين متجذر حقًّا في قلوبهم أم هو إيمان (البراح)؟ بمعنى، عندما تلم النوائب بالمؤمنين هل ستظل قلوبهم عامرة بالإيمان ليرتع فيه، أم أنهم سيكفرون بمن كانت تلهج ألسنتهم بالثناء والحمد له قبل لحظة؟ فالرواية تفتتح على مشهد تأدية أقدس المناسك لدى المسلمين، الطواف بالكعبة في الحج، الطقس الغارق في الإيمان والأمان، لكن بعد فاجعة اختطاف الابن، كفر الأب بعد أن أيقن أن لا أحد في السماء، فكان يرى إن كان الله لا يزال بالسماء فلما سمح باختطاف ابنه وهو يؤدي فرضًا يرضيه؟ لكن هذا على عكس الأم التي تطرفت على الجانب النقيض، فهي قبل الحادث كانت سيدة تؤدي فروضها وبعد الحادث، وعلى غير المتوقع، أصبحت أكثر قربًا من الله، وكانت على يقين أن الله سيعيد ابنها بكثرة العبادة، هذا الاعتقاد الذي تجذر لديها في نهاية الرواية بعد عثورهم على الولد، فجاء النص يقول على لسان سعود "أما سمية، فقد تدروشت، صارت تكلم الله، وتتكلم عنه وتتكلم باسمه طوال الوقت" وقد أظهرت الكاتبة هذا في يوم موقف عرفات، عندما كدحت "سمية" للصعود لقمة الجبل اعتقادًا منها إنها كلما صعدت رأته، بعدما كان إمام الحرم يخطب بأن الله يتجلى في ذلك اليوم لعباده فوق الجبل، وعندما نزلت وعثرت على طفل آخر تائه وأوصلته لمركز الأطفال التائهين أيقنت أكثر بأن الله هو من أرسلها لتقوم بهذه المهمة.
تلك الفكرة الرئيسة في الرواية، ربما هي ما تدور في قلوب وأذهان وحيوات كل الناس كل يوم ومن جميع الملل، فمنهم من يكفر بعد النوائب ومنهم من يزيد إيمانه. والجميع يسأل كيف نتأذى في مكان من المفترض، حسب اعتقادنا، إنه المكان الأكثر أمانًا؟ ربما أنا شخصيًّا سألت هذا السؤال عندما قرأت عن عدد من الحجيج الذين ينتحرون داخل الحرم في موسم الحج، ويقتلون معهم آخرين، أنالهم الأذى حقيقة وهم في المكان الآمن؟ أم أنهم من شدة إيمانهم بأمان المكان ثقُل عليهم أن يغادروه إلى غيره؟
ستنتاب القارئ حيرة في قضية الإيمان والإلحاد هنا، خاصة وأن "بثينة العيسى" كتبت المشاهد بحيث عندما نقرأ عن إلحاد "فيصل" نتعاطف ونفكر بأسباب إلحاده، ولا شك أن الكثيرين عندما يطالعون أخبار الحروب خاصة إن كانت حروبًا باسم الله، والتي لا تطحن إلا من ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، من يهجّرون، ويموتون جوعًا وتعذيبًا، لا شك أننا جميعًا سألنا كـ"فيصل" مخاطبين الله" أين أنت من كل هذا". وعلى الناحية الأخرى عنما نقرأ أسباب "سمية" وسر تعلقها بالله أكثر، سنرى مشاهد في حياتنا أننا بعد السخط والاعتراض، رأينا الحكمة الإلهية فيما حدث من مكاره ألمّت بنا. لذا سنقتنع بكلا التحولين الكفر بعد الإيمان، والمغالاة في الإيمان بعد إيمان.
أما الفكرة الأخرى محور الرواية وهي الفقر مقابل الغنى، العجز مقابل القدرة. الطبقية حتى في الجريمة والموت. وذلك عندما كانت العصابة تُفصح عن مبدأها في الخطف، يخطفون الفقراء (السود) ممن لن يسأل عليهم أو يهتم لغيابهم أحدًا. كـ"مريم" الطفلة التي أكلتها وحوش البحر، ابنة الهندي الذي لم يملك، مثل ما يملك أبو مشاري، مليون دولار فدية لابنته، ورأينا أن السلطات تحركت أسرع فقط عندما رافق "فيصل" الكويتي الغني صاحب النفوذ "محمد أكبر" الذي لم يُهتم له كثيرًا من قبل. أيضًا، عندما تبينت هويات زعماء العصابة، من وزير وحاخام صهيوني ورجال أعمال ممن يقبضون ملايين الدولارات مِن بيع أعضاء من لا يجدون أقوات يومهم. مِن هؤلاء الذي وصفهم "جرجس" في أحد محادثاته، بأنهم يرتدون البذلات الباهظة، ويدخنون السيجار، ويجلسون أمام كاميرات التلفزيون ليحكو أمجادهم. المستغلين لنفوذهم وقدراتهم ليعيثوا في الأرض فسادًا وبطشًا أكثر من الشيطان ذاته.
لكن لا بد للقارئ وأن يسأل وهو يقرأ، وهذا ليس تعاطفًا مع هؤلاء الشياطين، لكن تلك العصابة التي لم يكن أفرادها يعرفون لهم موطنًا أو أهلاً، لم يعرفوا سوى المخيمات والجوع والهروب من العصابات، لم يهتموا يومًا سوى بالعثورعلى ما يسد رمقهم، فكانت كلمات كالأخلاق، والحرام، والعدل، طلاسم وسط عالمهم لأنها ببساطة لم ترد فيه، أيعقل أن يحاسب ويُنظر لهذا كمرتدي البذلة الباهظة؟ ومن أين أصلاً لمن أتى من الجحيم أن يعرف غير الجحيم وتصرف الشياطين؟
في الرواية علاقة الوالدين، والتي كانت تبدو في البداية على إنهما حبيبان أكثر منهما زوجان، تعرضا لصدع في علاقتهما حد الانفصال. فكما انفصلا في إيمانهم واعتقاداتهم انفصلا أيضًا في علاقتهم. هل هما أيضًا كانا يحبان بعضهما على حرف؟ أو كما قال "فيصل" لزوجته وهي تسأله إن كان قد كفر بالله، ورد على سؤالها الذي يصلح للحالتين "لا أحد ينجح في هذا الاختبار".
وكما أن العمل بين يدينا من وحي خيال الكاتبة، إلا أن هناك بعض الأجزاء خاصة تلك التي تدور في سيناء ليست خيالاً، بل هي حقائق تُثبت كل يوم. المهاجرين الأفارقة الذين يعبرون صحراء سيناء إلى إسرائيل، بيوت الأشباح، كون الصهاينة هم الأكثر تصديرًا وتجارة في الأعضاء البشرية. وقد وردت كل تلك الحقائق، بل وتردنا أخبارها كل يوم من القبض على مهاجرين أفارقة متسللين من معبر رفح آملين في الأحلام الكاذبة التي يعدهم الصهاينة بها من العيش والعمل والخ..... أيضًا الجمعيات الحقوقية والصحفيين الاستقصائيين ينتجون أفلامًا تحكي لنا، بل وتصور ما ورد في الرواية وحدوثه حقيقة.
من الأمور الملفتة في الرواية، هي تقنية الكتابة. فأحيانًا تضع الكاتبة الحوار على لسان الأشخاص، وأحيانًا تكتبها بضمير المتكلم تكون هي "الراوية" أو كمن يذكّر أحدهم بتفاصيل ضائعة منه. أيضًا الحكي على كل المحاور وفي خطوط متعددة، فالروائية تحكي حادث الخطف ومشهد الحرم، وعلى الناحية الأخرى تحكي ماذا فعلت العصابة، تحكي ماذا يحدث في عسير، وترجع لتُرينا ما الذي وصل إليه الأشخاص في سيناء، كما لو كنا نشاهد فيلمًا سينمائيًا. وهذه التقنية تنم عن احترافية حقيقية لدى الكاتبة والتي لا تحتاج لشهادات كثيرة. تلم كل الخيوط في يدها دون تشابك. أيضًا رغم قسوة المشاهدات في الرواية والتي ستدفع الكثيرين لعدم إنهائها، إلا أن براعة الكاتبة فيما تفعل ستغري على الاستكمال للنهاية.
الرواية الأكثر من رائعة هذه، لم تُجب على سؤال البشرية أجمع وإن كانوا لم يسألوه لأنفسهم بشكل مباشر أو بكلمات، هل نحن مهتدون حقًا أم إننا كلنا في التيه؟ كيف يُجيب عملٌ واحد عما جهلته البشرية كلها من يوم الخليقة؟
تغريد
اكتب تعليقك