قراءة وتقديم لكتاب «القصيدة والنص المضاد»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-29 09:50:18

لحسن ملـواني

كاتب من المغرب

الكتاب: "القصيدة والنص المضاد"

المؤلف: د. عبد الله الغذامي

الناشر: المركز الثقافي العربي

تاريخ النشر: 1994

عدد الصفحات: 205 صفحة

من أهم القضايا المثارة في الكتاب إعادة النظر في سلامة الشعر الجاهلي لما يُعتقد بأنه من التحريف والنقصان، فهو بذلك يحاول ملامسة قضية من القضايا الشائكة والشاغلة لثلة من الأقلام النقدية التي تناولتها وفق قناعات خاصة، وعبدالله الغذامي بكتابه "القصيدة والنص المضاد" يتناول القضية من زاوية تنم عن عمق النظر والتحكم في الأدوات المنهجية المقنعة في الطرح والتحليل. وكيف لا والغذامي ناقد معروف برجاحة وسداد تحليلاته التي تحمل تفردًا وجِدَّةً.

الكاتب يبحث عن الموضوعية في الدراسة النقدية للشعر العربي قديمه وحديثه محاولاً هدم الحاجز المعرفي الذي يقوم بيننا وبين النصوص، مما أدى إلى تصور أَثَّر سَلْبًا على نتائجنا، فالكاتب يحاول الانتقال بالدراسة النقدية من وهم الانفصال إلى حقيقة الاتصال والإيغال من أجل البحث عن الذات وذات الذات، عن النص ونص النص على حد قوله.

ففي التحليل يجب اللجوء إلى النص كبنية بغية الوقوف على الثابت المنتمي إليه، والدخيل الخارجي عنه.

وما آلت إليه نظرتنا نحو الشعر الجاهلي سببها الشفاهية السارية في المجتمع العربي في الجاهلية على حساب الكتابة والتدوين. فكل تشويه وتصرف في الشعر المروي مرجعه الرواة. على أن الغذامي لم يقف عند قضية الشعر الجاهلي وقضاياه، بل تجاوزه ليتناول، وبذات النظرة الثاقبة قضايا تخص إبداعية النص الحديث كما سيتبين باقتضاب في عرضنا وتلخيصنا لكتابه.

بدأ المؤلف بمقدمة طرح فيها الغرض من دراسته حيث انطلق من قول الجاحظ في "البيان والتبيين": "سياسة البلاغة أشد من البلاغة "كما انطلق من قول ليفي شتراوس الذي يعتقد أن الانتروبولوجي لا يستطيع أن يكتب عن قبيلته.

وهكذا يشير الكاتب إلى، أننا لم نتساءل عن قدرتنا أو عجزنا عن الكتابة عن نصوص هي بمثابة القبيلة التي ننتمي إليها. ولذا ينتقد الذين يعتقدون أنهم حين يكتبون عن النص، يكتبون الموضوعية لكتاباتهم عنه خارجه. فالانفصال عن النص بهذه الطريقة لن يحقق إلا موضوعية متوهمة، إذ العلاقة بين العربي والشعر هي علاقة الفرد بالقبيلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين"، لهذا يرى المؤلف ضرورة الانتقال من وهم الانفصال إلى حقيقة الاتصال، والإيغال من أجل الكشف والاستبصار من الداخل لا من الخارج. يقول "لقد صرت أتجه شيئًا فشيئًا إلى استنكار هذا التوهم بالانفصال، وصرت أرى استحالته. وبالتالي صرت أرى ضرورة الانتقال من وهم الانفصال إلى حقيقة الاتصال، بل الإيغال في الاتصال من أجل تحقيق الكشف والاستبصار من الداخل ـ لا من الخارج ـ"1.

فالحديث عن القصيدة يقتضي الغوص فيها للكشف فيها عن القصيدة وللكشف في اللغة عن اللغة وفي النص عن النص.

يتحدث الغذامي عن ذاكرة النص وذاكرة الراوي ليشير إلى كون التساؤل حول الشعر الجاهلي سيظل قائمًا مادام هناك كثرة الشاكين ومادام هناك موقنين من العرب والمستعربين. ومن ذلك سينشأ ركام جديد من التصورات يحدد النظر والفهم إزاء هذا الشعر.

ويقو ل الكاتب بأن الإبداع الجاهلي كان إبداعًا شعريًّا كتابيًا ـ بمعنى أنه يتسق مع شروط الكتابة أكثر من اتساقه مع شروط الشفاهية ـ فهو فردي يقوم على نص أصيل فرد، ويقوم على آليات الإنشاء الشعري الغنائي التي لا يفترق فيها امرؤ القيس عن بدر شاكر السياب إلا بمعرفتنا أن السياب يجيد الكتابة وعدم تيقننا من معرفة امرؤ القيس لها.

وليتحدث الكاتب عن الشفاهية التي وصلنا بها الشعر الجاهلي طرح بعض تصورات "باري" و"لورد" حول الشفاهية عن الشعر اليوغسلافي في "الإلياذة " نموذجًا. حيث ذهبا إلى أن الشعر الشفاهي/المروي شعر نمطي لا يقوم على نص ثابت بل هو نص متغير حسب منشده الذي قد يحذف أو يزيد فيه حسب ما يقتضيه موقف ما، فالنص الشفاهي بهذه الصفة نص نمطي مشاع عكس النص الكتابي الذي هو فردي ثابت غير نمطي.

إلا أن الشعر الجاهلي  فيه شفهية تختلف عما أشار إليه باري ولورد، ففيه شفهية ونمطية في نفس الآن، ولكن فيه تفرد ومبارزة مما يدل على أن هذا الشعر يجمع بين السمتين في نفس الوقت، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال تشريح نصوص، حيث يتم الوقوف على وجود ذاكرتين مختلفتين: ذاكرة الراوي وذاكرة النص، فهناك تشابهات في الشعر الجاهلي الأمر الذي أدى  إلى التشكيك في أصالته، لهذا حاول الكاتب أن يبحث من خلال دراسته عن النص داخل النص،  ولقد اعتمد في ذلك على "النقد النصوصي" وعلى مبدأ تفسير الشعر بالشعر بالخصوص، لان هذا  المبدأ يؤسس لعضوية الفعل الشعري التي يتبين من خلالها الدخيل بعد الكشف الأصيل. "ولا ريب أن النقد النصوصي بمفهوماته الأساسية يساعد على تجلية الأمر وتوجيه البحث، خاصة ما يتعلق منه بمبدأ (تفسير الشعر بالشعر) وهو مبدأ يؤسس لعضوية الفعل الشعري، ويؤكد جسدية النص بمعنى حيويته وتفاعله الداخلي الذي ينفي الدخيل ويثبت العنصر الأصيل ليبني ذاكرة النص. ولكن قبل ذلك سأقف وقفة على ذاكرة الراوي وما أحدثته من أحكام وفهم وتفسير. أو لنقل ما أحدثته من سوء أحكام وسوء فهم وسوء تفسير.2

وحين يتحدث الكاتب عن ذاكرة الراوي يشير إلى أن الشعر الجاهلي وصلنا عن طريق الرواة المعتمدين على الذاكرة، هذه الأخيرة التي تتحكم فيها الانتقائية أو الذوق فالشعر الجاهلي إذن مختارات الرواة، والرواة قسمان:

رواة الأعراب أبناء الصحراء والرواة العلماء المدونون للشعر كالأصمعي وبذلك يمر الشعر بفعلين انتقائيين فعل الأعرابي، وفعل العالم المدون. والمطلوب منا الفرز والتمييز بين الفعل الشعري داخل القصيدة وبين الفعل الانتقائي الذوقي فيها أي ذاكرة النص وذاكرة الراوي.

وبما أن الشعر الجاهلي ضاع منه الكثير، لأسباب شتى نذكر منها انشغال المسلمين بالفتوحات وبتدوين القرآن الكريم ...أصبح الرواة يتداولون هذا القليل وقد يضيفون إليه و يردونه ناقصًا في ظروف يهتم المدون بالنص أكثر من تحققه من شعريته أو صحة نسبته إلى قائله. "راح الرواة يحملون أشعارًا على الشعراء ليسدوا لذلك النقص".

إلى جانب هذا فالرواة لهم غايات في روايتهم للشعر فكانوا ـ حسب الجاحظ - يروون الأشعار التي فيها إعراب ومعان صعبة وشواهد الأخبار، فالجمالية الشعرية لم تكن ضمن هموم الرواة.

وقد حاول الكاتب انتقاد ما ذهب إليه مونرو الذي أخذ عليه الإسقاط حين حاول أن يقيس الشعر الجاهلي بالشعر اليوغسلافي فيقول بأنه شعر نمطي .. وقد   برر المؤلف مأخذه عليه في أمور أذكر منها كونه اكتفى بأجزاء من القصيدة "الطلل "ولم يربط ذلك بين غيره من أجزاء النص، وكونه لم يعرف أن الكذب أو الخطأ كان مستهجنًا لدى الأعرابي رغم احتمال قيامه، بل رغم اكتشاف بعض حالات التدليس، وأن التشابهات الواقعة في النصوص إنما خلط اعترى ذاكرة الراوي لها ... ويستنتج الشاعر بعد هذا أن "مجمل الشعر الجاهلي هو شعر عربي صحيح إجمالاً ولكنه من داخله مختلط ومتداخل لا بفعل الشعراء ولكن بأخطاء الرواة"3. 

وينطلق الكاتب في حديثه عن ذاكرة النص من كون بعض الشعراء ضاع كثير من أشعارهم فَحُمِل عليهم وقد خص بالذكر طرفة بن العبد وعبيد الأبرص.

وعن بيت مشترك بين امرئ القيس وطرفة بن العبد وهو:

وقوفًا بها صحبي علي مطيهم     يقولون لا تهلك أسى وتجمل

...  ...     ...  وتجلد

يقول المؤلف بأن المتحدثين فيه يقولون أن طرفة قد قاله إما أخذا من امرئ القيس أو تضمينا حسب ابن سلام وهنا يتجلى دور الرواية في الخلط. فالبيت حسب رأيه من زيادة الرواة الذين أدخلوه على معلقة طرفة. وكثير من التشابهات النمطية في الشعر الجاهلي ليست سوى خلط خاطئ من الرواة. وقد لجأ الكاتب لتبرير ما قاله إلى "الجملة الشعرية" حيث تمكن من التوصل إلى أن البيت لامرئ القيس حيث توصل إلى كون العلاقة ببين البيت وسائر القصيدة علاقة عضوية حتى لو أننا  جربنا وحذفنا البيت من القصيدة فإن العناصر الدلالية في النص سوف تشير إليه.

وتكشف عن غيابه بل إن دلالته سوف تتغير لو أنه خرج عن هذه القصيدة. أما قصيدة طرفة فتشير بوضوح إلى مشكلة الشاعر وإلى حلها. وهذه المشكلة وحلها لا يمتان بصلة إلى هذا البيت، مما يعني أنه دخيل على النص، وليس جزءا عضويًا في القصيدة.

هكذا يمكن لا يمكن القول بن طرفة قد ضمن البيت في قصيدته لأن البيت لا يتداخل مع كينونة النص ولا تستدعيه ذاكرة القصيدة، والمعروف أن التضمين يتعلق بضرب من التداعي يتطلبه النص ويقترحه، والمتأمل في قصيدة طرفة يجد أن البيت نشاز دلالي فيها.

وتوضيحًا يذكر ما يسميه الأسلوبيون بفكرة "الإجبار الركني" وتقوم هذه الفكرة على نتائج الفحص الأسلوبي والتي تشير دائمًا إلى العناصر عناصر النص يدعو بعضها بعضًا حيث يتم عادة اختيار هذه العناصر اختيارًا حرًا، ثم تفرض هذه العناصر الحقل الدلالي المرتبط بها من الطواف والعبادة والصلاة والسجود فيقول:

              هــذه  الـكـعـبـة  كنا  طـائفـــيها       

                                         والمصلين صباحًا ومساء

            كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها

                                       كيف بالله رجعنا غرباء.4".

وفق هذا المنحى يؤاخذ الكاتب من يحاول فهم الشعر العربي بما فيه الجاهلي باعتباره أبياتا لا انساق عضوية متكاملة، لذا وجب الارتكاز على مبدأ الجمل الشعرية بغية التفكك والتناقض والتناسق أيضًا، فالكاتب يروم بهذا التمييز بين إبداعية الشاعر وشفوية الراوي التي يعتريها ما يعتريها من مزالق فقد يخطئ وينسى بل إنه يستند إلى ذائقة تخصه لن يتنازل عنها وهو يروي والتمييز بين الصيغ النمطية والنسق العضوي للنص يجب الاستناد إلى: نَسب النص وذائقة الراوي وأعراف النص وتقاليد الشعر" وهي شروط قرائية تساعد على التمييز ما بين الصيغ النمطية وبين المعادلة الإبداعية والنسق العضوي. ولابد من أخذ هذه الوجوه في كامل الاعتبار، بوصفها مقدمات ضرورية للفهم أولاً ثم للتفسير.5.

يرى الكاتب بأن كوننا جزءًا من المنجز الشعري الحديث وبكوننا محكومين بالقصيدة العمودية يقلل من قدرتنا على تجاوزه و"وهذا ما يجعلنا في دائرة تكاد تكون مغلقة حيث المنجز الإبداعي الحديث يمنحنا حسًّا ذاتيًّا بالتميز والاختلاف، ولكن هؤلاء المتميزين المختلفين هم أصلاً واستمرارًا ناتج ثقافي ونفسي للذهنية العمودية".

وتبعًا لذلك ينبغي إدخال تجربة المنجز الإبداعي الحديث والقصيدة العربية العمودية في محاورة مفتوحة بينها وبينا باعتبارنا قراء ودارسين وملاحظين على أن يكون ذلك من الداخل لا من الخارج، وقد حاول الكاتب فعل ذلك عبر تجربتين دلاليتين إحداهما تبدأ بالمسيب بن علس وتتمدد من خلال صلاح عبدالصبور وغازي القصيبي. وكلتا الشجرتين الدلالتين جاءتا عن "لؤلؤة الخليج " يفعل الكاتب ذلك للوقوف على الاختلاف والتضاد بين التجربتين وبين نموذجين كامل ومغلق، مقابل ناقص ومفتوح.

جماليات الكذب

وعما سماه الكاتب بجماليات الكذب ينطلق من حكاية لأبي العباس عن أعرابيتين تكاذبتا [تبادلا الكذب] وهي حكاية تطرح أسئلة عميقة إزاء جماليات العبارة وعلاقات النص وسياقاته.

وقد خلص الكاتب حسب ملاحظاته إلى:

ـ كون جريان اللغة في إطار الاحتمال والإمكان يؤدي إلى الربط بين أدبية الأدب وكذب اللغة ربطًا عفويًا.

ـ كون الكذب فن القول وهو مادة شعرية بها يصير الشعر معبرًا.

ـ كون الجد لا يتحقق في الشعر إلا بالكذب [بمعناه الإبداعي]

ـ كون التكاذب جنسًا أدبيًا وقد انطلق الكاتب في التوسع في توضيح ذلك من قول بعض الدارسين الأوربيين الذين يرون أن فن الرواية يعود إلى أصل عربي لان العرب موهوبون في صناعة الكذب.

ـ كون الكذب والخيال فعلان نفسيان وشاعريان، تراهما العين من فوق حدود الواقع الماثل والحقيقة الحسيّة.

ـ كون الكذب مادة شعرية بها يصير الشعر شعرًا. يقول ابن فارس: «إن للشعر شرائط لا يسمى الإنسان بغيرها شاعرًا، وذاك أن إنسانًا لو عمل كلامًا مستقيمًا موزونًا يتحرى فيه الصدق من غير أن يفرط أو يتعدى أو يمين أو يمين أو يأتي بأشياء لا يمكن كونها بتة، لما سماه الناس شاعرًا، ولكان ما يقوله مخسولاً ساقطًا»6.

ويرى الكاتب ذلك بعيدًا عن القدح لاعتبار التكاذب فنًّا أدبيًّا ومهارةً إبداعية أساسية في تكوين الشعر والرواية.

وتحت ما سماه الكاتب "تنوير أو تعتيم" حاول أن يقدم للقارئ مقاربة نقدية لـ"وتنتحر النقوش...أحيانًا" ديوان الشاعر سعد الحميدين الذي يرى الكاتب انه يقدم نفسه تقديما صادمًا ويكاد يكون الفعل نفسه انتحارًا فهو أشبه بعازف الناي حينما يعلن انكسار نايه.

وتنتحر النقوش عنوان النص وعلامته الأولى فكأنها عقد وميثاق بين القارئ والنص. فالعنوان قيمة دلالة وشفرة نستفتح بها الديوان ومن ثم نفسره بها ونسائله عنها.

والديوان ينطوي على قصيدة طويلة واحدة مكونة من خمسة وعشرين مقطعًا وكل مقطع يتكون من نصين أحدهما مدور والثاني موشح وكلاهما وكل القصيدة من بحر الكامل ويمكن قراءة القصيدة مقطعًا مقطعًا وكأنها مجموع من قصائد والأمر متاح لمقدور كل مقطع على الاستقلال الدلالي بذاته ولكن القصيدة تكتمل دلاليًا مع عنوانها إذا ما قرئت بوصفها وحدة شعرية واحدة. وهذا ما يقوم به الكاتب.

أفق التوقع أو قلب السحر على الساحر:

ويحاول الكاتب الغوص في تجربة الشاعر الحميدين عبر ما يسمى بالمسافة الجمالية، اعتمادًا على "أفق التوقع" المتكون لدينا عن تجربة الشاعر وإبداعيته.

يشير الشاعر إلى أن نسج الحميدين للأجمل يتطلب كسر وضرب أفق التوقع كأساس لقراءة وكأساس لإبداعية النص، فهو مفهوم يضع منظومة التوقعات والافتراضات الأدبية والسياقية المترسبة في ذهن القارئ حول نص ما قبل قراءته وهي فروض قد تكون فردية وقد تكون خاصة بمجوعة من القراء تجاه نص معين، وتبعًا لذلك يجب قراءة النصوص في مواجهة الطبع، فإن عكسنا المسألة فواجهنا المطبوع في أذهاننا سيظهر لنا الجاهز والمعاد فيه مقابل المنجز الإبداعي، وبذلك نتبين المسافة الجمالية فيه.

والكاتب يرى أن التوقع ينشأ عندنا من مدخلين يفتحهما ديوان الشاعر ويفرضهما وهما:

ـ عنوان الديوان: وتنحر النقوش ...أحيانا.

ـ اسم الشاعر: سعد الحميدين.

وهذان هما المادتان المعرفيتان اللتان نجدهما على صفحة الغلاف، وهما أول ما نجد وما يتفاعل معنا. ومن هنا فإنهما يضربان داخل الذاكرة، ومن هذه الذاكرة يتم جلب الرصيد المخزون عن الشاعر من جهة وعن جملة العنوان من جهة أخرى.

وحينما نقول هنا إن اسم الشاعر يحدث لدينا نوعًا من التوقع فإن هذا يعني السياق الخاص المتمثل في المجموعات الشعرية التي نشرها الحميدين على مدى أربعة عشر عامًا فتكون له في ذاكرتنا رصيد خاص. وسوف يتم حضور هذه الذاكرة بمجرد أن نشاهد اسم الشاعر على غلاف هذا الديوان ومن هنا يحضر التوقع الذي سنقوم بإحداث معارضة بينه وبين الديوان لنكشف عن المسافة الجمالية بين ما نتوقعه وما نجده.

وتجربة الحميدين الشعرية ظهرت في ثلاث مجموعات تقدم شعرًا كأداة ضد اللغة، فهو يهز اللغة من جذوعها، يكسر علاقاتها الداخلة، يعيد صياغتها فصارت القصيدة لديه موعدًا مع التموقف والتجريب الذي سيحول اللغة إلى نوع من الفتوحات المتواصلة داخل اللغة بإيقاعاتها وسياقها من أجل استكشاف الإمكانات غير المستكشفة مما جعل الشاعر الممهد لمسلك اللغة لغيرهم. وصار من المجربين الجريئين في القصيدة الحديثة.

ويفاجأ الكاتب بديوان يقوم على قصيدة طويلة واحدة تتخلى عن التجريب في الأشكال والصيغ وتعتمد شكلاً شعريًا مقبولاً ومتعارفًا عليه هو شكل التدوير وشكل التوشيح ثم تتواضع مع اللغة مواضعة تعبيرية تجعله يتحول من شاعر ضد اللغة إلى شاعر عاشق لها، فيتسامى إلى منزلة فوق كل معرفة، فهو بذلك ينتقل نقلة نوعية في تعامله مع النص الشعري من حيث علاقته مع اللغة.

ويرى الكاتب أن الديوان يصدم ذلك التوقع فلا نجد فيه حضورًا صريحًا لعناصر ينتظر أن ترد فيه وبذلك تتحول هذه كلها إلى نوع جديد من التداخل الضمني فالرقصات الشعبية تغيب عن سطح النص ولن تتسرب إلى تمفصلاته الداخلية ولن تجد ذكرًا للمجرور والهجيني ولكنك ستجد إيقاعهما ومفرداتهما في توشيحات النص وستجد النص يرقص رقصة المجرور ويغني الهجيني يقول:

ضاقت بنا الساحات لا ظل لا واحات

والرمل في الراحات

نمشي على الأربع

هذا النص عامي فصيح، فيه إيقاعات شعبية لا تختلف عن العروض [منهوك الكامل] وفيه مفردات فصيحة عامية.

ويمضي الكاتب متحدثًا عن التجربة الفريدة المكسرة لأفق التوقع لدى القراء لشعر الحميدين ليخلص في آخر كتابه إلى أن قصيدة الشاعر الحميدين "تعلن الحرب على حالة الانكسار الداخلي، حينما ينكسر النص ويضعف أمام الإغراء الحسي وبريق الكشف والإعلان فيفضح سره، بينما دوره هو في فضح القبح والزيف ـ كما في مطلع النص ـ مع الاحتفاظ بحقه في التسامي والتعالي. وإلا فإن سمو السمو وعلو الاعتلاء هو في أن تنتحر النقوش ليكون انتحارها لغة للغة وسرًا للسر يفضح القبح من جهة، وينقل النص إلى عالم آخر أسمى وأرقى من عالم المادة ذي البريق والزيف. والانتحار هنا يكون انتصارًا ذاتيًا للنص الذي يربأ بجوهره عن البقاء في الزيف وفي سطوة اللامكان...7.

بهذا النفس النقدي العميق والرصين يتناول الكاتب بعضًا من قضايا الشعر العربي بأسلوب وبمصطلحات نقدية تجلي كثيرًا من القضايا المتناولة سابقًا. فالكتاب بذلك إضافة نوعية تستحق أن يقتدى بها في تناول كثير من القضايا الأدبية نقدًا وتحليلاً. ويحق القول أننا بصدد عمل نقدي ريادي يروم به صاحبه التأسيس لتقليد نقدي بغوص في الأعمال الإبداعية غوص المسلح بالأدوات التحليلية الكفيلة بتجديد النظرة والتناول والمقاربة، إنه بشكل ما يحاول أن يضع بديلاً لما يراه مكبلاً للوعي الموضوعي عبر طوق التقليد والتحليل المكرر الاستعمال، فهو بذلك يحاول أن يدلي بوجهة نظره الخاصة والمتفردة  إزاء الشعر العربي كجنس قيل وكتب عنه الكثير.

الهوامش:

* "القصيدة والنص المضاد" تأليف د. عبدالله الغذامي ـ المركز الثقافي العربي ـ الطبعة الأولى 1994

1) القصيدة والنص المضاد ص 6

2) نفسه ص 14

3) نفسه ص 26

4) نفسه ص 42

5)  نفسه ص 64ـ 65.

6) نفسه ص 120.

7)نفسه ص 188.


عدد القراء: 3812

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-