التداوليات الثقافية (مقدمة نظرية) ... نحو تأويل معرفي عبر لساني «مفهوم التواصل الثقافي»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-01-31 13:23:23

د. عبد الجبار ربيعي

الجزائر

• تمهيد:

على امتداد عقود من البحث والتأسيس درجت الدراسات اللسانية والعلوم البينية الحديثة-موضوعًا ومنهجًا- على وضع منظومات من المفاهيم والقواعد النظرية المتراكمة في سعي مستمر لمقاربة الظاهرة اللغوية، وكان لأعمال "سوسير" (الكلاسيكية) الأثر الجلي في بلورة المنهج البنوي إطارًا للدراسة اللغوية الحديثة1، ثم ما برحت التيارات والاستراتيجيات اللسانية تنبثق تباعًا فبرزت المدارس اللسانية المعروفة مثل التوزيعية والاجتماعية والتوليدية التحويلية واللسانيات العرفنية والنحو الوظيفي..، وتشاركت البحث اللغوي مع علوم مثل السيميائيات والتداوليات وعلم النص؛ حيث تعددت المرجعيات والخلفيات الفلسفية والمعرفية والتاريخية التي انبنت عليها هذه التوجهات المتقاطعة والمتفاصلة في آن.

وقد كان موضوع الدراسة اللسانية ومجالها والأطر النظرية في تناولها، مناط تحولات كبرى من الجملة إلى النص إلى الخطاب، ومن النسق اللغوي المنغلق إلى الحيثيات المصاحبة والمساهمة في إنتاج الخطاب وتأويله، وكان لعلم النص والسيميائيات والتداوليات ونظريات السياق المنزلة الأولى بين اتجاهات الدراسة اللسانية في توجيه الأدوات المنهجية نحو مقاربة الأنظمة غير اللسانية والأبنية المتخطية للدلالة النصية بوصفها عوامل ضرورية في عمليتي الإنتاج والتأويل، يرى "المتوكل" أن الخطاب هو «كل إنتاج لغوي يربط فيه ربط تبعية بين بنيته الداخلية وظروفه المقامية (بالمعنى الواسع)»2  وفي المسار نفسه يؤكد سيمون ديك في حديثه عن الخطاب أنه: «لا يتواصل مستعملو اللغة الطبيعية عن طريق جمل منعزلة بل إنهم يكونون من هذه الجمل قطعًا أكبر وأعقد يمكن أن نطلق عليها اللفظ العام "الخطاب"»3 على الرغم من أن هذا التصور يبدو قريبًا من المماثلة بين النص والخطاب.

لقد أصبح من الواضح أن قضية الإغراق في التخصص أو استغراقه والاستقلال به قضية بعيدة نسبيًا عن الدورة العلمية المعاصرة؛ إذ خرقت الفلسفة من قديم هذه القاعدة وأمعنت في خلخلتها، ثم جاءت المداخل المتعددة التخصصات وحقيقة تراسل العلوم المتجاورة وغير المتجاورة لتؤكد هذا المنحى، أحيانًا على المستوى المنهجي، وأحيانًا أخرى على مستوى المفاهيم والاصطلاحات المتجوّلة بين حقول المعرفة المختلفة.

من هذا المنطلق تأسيسًا وإضافة عليه تأتي "التداوليات الثقافية" بوصفها فرعًا من فروع التداوليات العامة لتطرح السؤال الآتي: كيف يمكن تأويل المنتج اللغوي ضمن تأويل عملية الفهم نفسها؟

ولمحاولة الإجابة عن هذا السؤال حاولنا أن نضع جملة من المحددات والمفاهيم المركزية التي يمكن أن تساعدنا في حلحلة التصورات الموضوعية الأولية نحو بناء نموذج عملي، معرفي، وعقلاني في مقاربة اللغة الإنسانية بوصفها نمطا وأداة للتواصل الثقافي؛ بالمفهوم المعرفي والإنساني العميق للتواصل.

وقد أثّثنا هذه المحاولة بمجموعة من المقولات على النحو الآتي:

(من الخطاب إلى الثقافة/أو الثقافة بؤرة للتأويل)، (في مفهوم الثقافة)، (الفهم والتأويل/جوهرية المعنى والدلالة المراوغة)، (ما بعد اللغة)، (التأويل عبر اللساني والمعرفة المركبّة)، (الافتراضات النظرية للتداوليات الثقافية).

1. من الخطاب إلى الثقافة/أو الثقافة بؤرة للتأويل:

أ‌. التواصل الثقافي:

لقد كانت إشكالية تأويل المنجز اللساني مدار تناول عريض في التراث اللساني والبحوث النظرية والتطبيقية الحديثة، ونفتأ نذكر في ذلك جهود الجرجاني والقرطاجني والسيوطي وغيرهم من القدامى، وتنظيرات ياكبسون وأوستن وسيرل وسيمون ديك ومايكل هاليداي ورقية حسن والمتوكل وغيرهم من المحدثين.

كانت هذه الجهود تدور -في كثير منها- حول بؤرة الإنتاج والتأويل؛ في أي مجال يمكن تأويل الحدث اللساني التواصلي، وكان الخطاب بمفهومه الموسّع (عوامل الإنتاج، الأنظمة الدالة، السياق، مقاصد المتكلمين، الأفعال الإنجازية..) من أحدث بؤر إنتاج وتأويل الدلالة اللسانية.

وقد أصبح مفهوم الخطاب مفهومًا مرتحلاً بين الحقول اللسانية ومتعلقاتها والحقول المعرفية الأخرى؛ خاصة في مجال الإنسانيات، واتخذ لنفسه شكلاً منفتحًا ومكثفًا من الدلالة على المنظومات والميادين المعرفية إلى الدلالة على النظام الثقافي العام إلى غير ذلك من التقلبات التي عرفها هذا المفهوم ضمن الاشتغال اللساني والمعرفي المعاصر.

لكن هذه المقاربة تدعو إلى تجاوز الخطاب بوصفه بؤرة للإنتاج والتأويل ضمن ثلاثية منهجية تحليلية هي: التواصل الثقافي العميق بديلاً من التواصل اللساني، الثقافة بؤرة لإنتاج الدلالة وتأويلها بديلاً من الخطاب، التأويل عبر اللساني بديلا من حدث اللغة.

إن التواصل – من منظور التداوليات الثقافية- ليس مجرد عملية فهم وإفهام أو نقل رسالة بواسطة قنوات خاصة في سياق عناصر الاتصال الستة التي اقترحها ياكبسون؛ فهذا التحديد هو نوع من الوصف البنوي الهادف إلى تقييد القوانين الصورية الداخلية المجردة التي تحكم عملية التواصل.

ليس التواصل أيضًا مقتصرًا على الموقف الكلامي وسياق الخطاب، والفعل الكلامي وقدرة اللغة على الإنجاز، وأدواتها، وصيغها، وأساليبها، ونظامها الحجاجي، ومرجعها المخي العصبي، ومظاهرها العقلية.

ليس التواصل وصفًا أو تحليلاً للتعبيرات والأشكال والمفارقات الإنجازية بين الثقافات والأنظمة المحلية المختلفة.

إن التواصل لا يبدأ من الحقيقة منتقلاً إلى المجاز، بل على العكس من ذلك هو صيغة مجازية يتم إدراكها تدريجيًا من طريق التأويل بتنزيلها منزلة الحقيقة، والتأويل في أطروحة التواصل الثقافي يتخذ مسلك الوعي بالرسالة بإزاحة دوائرها وأثوابها المجازية للمرور إلى الدلالة الحقيقية، فالتأويل بوصفه فعالية وفعلاً لا يرتبط بالمجاز ولكن بالحقيقة؛ أي الحقيقة الدلالية. وليس المجاز هنا ذا طبيعة رمزية أو أيقونية متصلة بطبيعة العلامة المؤولة ضمن السيرورة الدلالية؛ حيث تتناسل وتتكاثر المدلولات؛ بل إن حركته تبدأ من هذه المدلولات المتناسلة بما يشبه الانتخاب اللغوي أو المعنوي بحثًا عن البؤرة الدلالية الصغرى وهي المعنى الذي لا يمكن تأويله إلا في إطار الثقافة وهي بؤرة الإنتاج والتأويل؛ حيث يتحول في لحظة التأويل إلى دلالة، ذلك أن المعنى جوهري والدلالة مراوغة كما يأتي إن شاء الله.

إن اللغة ستصير أداة للتواصل العام؛ أي أنها لا يمكن أن تشكل مرجعا للفهم والتأويل، فعبارة "السلام عليكم" قد تعني حرفيًا "انتهى أمرك"، وما وراء "انتهى أمرك" هو ثقافي محض، قد يكون ذا مرجع خرافي ميتافيزيقي ينحو منحى التطيّر.. ولا تبدو أي صلة نظرية بين العبارتين؛ لأننا توقفنا مبدئيًا عند حدود اللغة في عملية التأويل الأولي، ذلك أن الدلالة بدأت مجازية؛ لأن عبارة "السلام عليكم" تحمل في معناها الديني والإنساني دلالة المحبة والتقدير والأخوة، لكنها استخدمت هنا في معنى ومؤدى ثقافي، لم يدركه المؤول من داخل اللغة بل من خارجها، ولم تكن اللغة في هذه الحال سوى أداة ووسيط مضمر ومشوّه لنقل الدلالة.

ولا تكفي مقاصد المتكلمين، ولا الموقف الكلامي والسياق وشروط الخطاب لتفسير هذا النموذج الذهني؛ لأنه مرتبط بالوعي الجمعي، والوعي واللاوعي الثقافي العام؛ فليس المتكلم الفرد هو الذي يستخدم هذه العبارة بتلك الدلالة، وإنما هي مظهر من مظاهر النسق الجماعي المحلي.

أما النموذج من حيث هو بنية قاعدية أو نمطية مجردة فلا يعد كافيا لتأويل الطبقات الخطابية داخل نظام الثقافة؛ لأن النموذج الذهني الثقافي يبدأ من المحمولات لينتهي إلى الموضوعات، وغايته هي إدراك المخزون غير اللغوي داخل نسق اللغة نفسه.

وليس التواضع والاصطلاح هو الذي يفسر هذه الظاهرة؛ لأنه مسألة صورية إلى حد ما، بل الوضع الثقافي؛ أي المعطى اللاتاريخي للوعي الجماعي؛ فهو الذي يمكن له أن يفسر هذا النموذج؛ من خلال المبادئ الثقافية المسبقة التي تحكم منطق الوعي الإنساني ذاته.

يمكن لنا أن نعود إلى تاريخ العلاقة بين باث هذه الرسالة ومستقبلها، التي من المرجّح أن تكون علاقة متوترة، تكتنفها خصومة أو سوء تفاهم ما، أو تحاسد وتباغض دفع المتكلم إلى إطلاق هذه الرسالة الجارحة متحصنة ومتترسة باللغة، التي لم تكن إلا وسيطًا خادعًا وممانعًا للمعنى.

إن اللغة هنا لم تفعل شيئًا سوى أنها حصّنت المتكلم من المساءلة الأدبية، وأدخلت المتلقي إلى نسق الوعي واللاوعي الثقافي العام وفرضت عليه منطق المجاز وقوانين الإنجاز الثقافي، وأرخت الدلالة مع أنها لا يمكن أن تحول دون المعنى بسبب جوهريته، وجوهرية المعنى لم تحل هي الأخرى دون هيمنة الدلالة المتشظّية عليه.

إن المعنى قد يتحدد بواسطة نبرة خطابية متعالية وابتسامة عريضة هازئة، وكلمة توقير إضافية وبعض إشارات وإيماءات السخرية المستترة بالظاهر بطبيعة الحال؛ مثل نظرة جافية ماسحة، ورمي شيء ما إلى الأرض؛ حيث يمتزج السلوك الحسن بالسلوك الباهت الذي تغطيه اللغة في خلطة سحرية باهرة، لكن الدلالة جاءت مراوغة؛ لأنها استخدمت المعنى وكان المجاز المقنّع وسيلتها لبث الدلالة الحقيقية.

إن مهمة إدراك هذه الرسالة لا تنتهي عند الفهم والتأويل على الرغم من أهميتهما الكبيرة ولا تنحصر في الوعي الجزئي بمضمون الرسالة المؤقت، وإنما تتعدى ذلك إلى إدراك قوانين إنتاج الخطاب ضمن بؤرة الثقافة؛ لأننا إذا لم ندرك قوانين الوعي واللاوعي الثقافي لم نستطع إدراك حقيقة التواصل بين المتكلمين في مثال بسيط واحد مثل هذا المثال.

والوعي الثقافي هنا هو تلك الممارسة الثقافية التي تصبغ العالم بصبغتها العقلية الخاصة، والتي تجعل اللغة خادمة للنظام الثقافي، فالتطور الدلالي لا يعني -من وجهة نظر التداوليات الثقافية- تقلبات دلالات الألفاظ انطلاقًا من صيغها الصرفية وأبنيتها الصوتية (ظواهر مثل الإقلاب والحذف وتقلبات الدلالة المعجمية) لكنه يعني التطور أو التحول في القوانين العقلية والنفسية للوعي الثقافي والتي تفضي إلى التحول في الأنظمة اللغوية إلا أن الوعي الثقافي نفسه يعبر عن نوع من التحولات الصورية في نظام الثقافة؛ لأن الثقافة ليست هي المجتمع ولا أنماط الحياة الاجتماعية، ومقدار التحول فيها ضئيل جدًا فهي النسق اللاتاريخي الأكثر صلابة؛ من حيث هي كنه وجودي مجرد متوار وراء أنماط الخطابات.

إن التواصل الثقافي يعني أن عملية التواصل ذات صيغة جمعية، قصدية "محلية" لا تاريخية، وذات صورة مجازية، كنائية، بلاغية، متمردة، وهي كذلك ليست تواصلاً بين فردين "في حالة التواصل الفردي"، بل هي تواصل مداره وعي ولاوعي مشترك، لا مجرد اتصال وتفاهم ثنائي4، ولذلك فإن التواصل الثقافي يحيلنا على نمطين سبق أن أشار إليها "المتوكل" في (الخطاب الموسط) وهما: التخاطب والتواصل، وليس الفرق بينهما هنا كما عند المتوكل هو الإفهام، ولكن يجب التمييز بين التواصل الثقافي والتخاطب الإنساني فالتخاطب الإنساني مناطه فهم الرسالة لا غير5، ويرتبط بالمضمون البراغماتي الذرائعي للرسالة، وهو يتجاوز الشرط الأساس في التواصل الثقافي وهو: "المحلية" وهي تعبير عن وعي جماعي لا تاريخي، أما التواصل الثقافي فهو ليس ذا منحى براغماتي إطلاقًا بل هو ممارسة قائمة على وضع المتلقي والمرسل في حالة من حالات الوعي النفسي والوجودي والعقلي الخاص الناشئ عن الوعي الثقافي المشترك.

يمكن أن يتضمن نظام التواصل الثقافي أكثر من خطاب، "خطابين أو أكثر"، ويمكن أن يتلبس أحد هذين الخطابين بالآخر، كما يمكن أن يكون الاشتغال التواصلي في مسارين متعارضين أو متوازيين، وبالتأكيد فإن الغاية الثقافية هي مكمن الدلالات المتعددة والمتوارية للاستخدامات اللغوية الحاجبة للمعنى.  

 

الهوامش:

1 - تظل نزعة التصنيف الكيفي والتجريد والتقعيد الكلياتي أبرز آثار البنوية في اللسانيات المعاصرة.

2 - أحمد المتوكل، الوظيفة والبنية مقاربات لبعض قضايا التركيب في اللغة العربية، منشورات عكاظ، الرباط، 1993، ص16.

-3 Dik ;s.c.the theory of functionl grammar ,berline, mouton de gryter, 1997,p.409.

4 - يمكن أن نمثل لذلك بحركة اليدين في الثقافة الهندية التي تشير إلى تحية محلية تقليدية مضمونها التوقير والاحترام والتبجيل والمحبة (المرجع الديني أيضا حاضر)، فهي هنا ليست جزءا من التواصل الثقافي إلا إذا كانت مجرد أداة لتوصيل مضمون ثقافي خارجي، بشروط التواصل الثقافي الآنفة؛ حيث لا يمكن أن يكون هذا التواصل في نهاية الأمر بمعزل عن اللغة.

5 - لأن بؤرته ومرجعه هو الخطاب وهو مستوى ومدرك أولي من مستويات ومدركات الثقافة.


عدد القراء: 2641

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-