بعضُ الصناديق يجب أن تبقى مُقفلةالباب: نصوص
د. جورج عيسى دبي |
كّنا-إخوتي وأنا- أطفالاً عندما سافر والدي كَغيره من شباب القرية إلى فنزويلا. وفي خزانة البيت اليتيمة والقديمة، كان هناك صندوقًا ينتظرنا. صندوقٌ مُقفلٌ بِغَير إحكام وكأنّه يدعونا لسَبر أغواره. عرفنا لاحقًا أن الصندوق يحوي كلّ ما تخلصت منه ذاكرة وروح أبي عند السفر، كالسفينة إذْ تَرمي بالنفيس من بضاعتها طمعًا بالنجاة. أما وقد سافرنا أخي وأنا فيما بعد، فقَد تأكّد لنا من التجربةِ، خطورة عدم وضع ذكرياتك في صندوق خاص، بل ورعونة أخذ أية تذكارات معك في حقيبة السفر، فلن يزيد هذا إلّا جراحك جرحًا، ولن يُسهّل عليك طريقك الجديدة الغير مُعبّدة أصلاً، بَلْ والمفروشة بالشوك حُكمًا.
قريتنا والقرى المجاورة وربما الوطن السوري كُلّه محكومٌ بِلَعْنة السفر المديد، وكل طفلٍ يعرفُ في قرارة نَفسِه أنّ سَفرَ الأب أو الخال أو العم أو الأخ، غالبًا سيكون بتذكرةٍ باتّجاهٍ واحد.
وكأيِّ طفل ينمو وتنمو معه الأسئلة، وليس هناك من مُجيب، دفَعَنا فضولُنا ذات يوم لفتح صندوق خزانتنا، خفقت قلوبنا بشدّة، وشَعرنا بتوتر شديد ولكن لذيذ كمن يسرق مال أبيه. أيّها الصندوق بُحْ لنا الآن بمكنوناتك، وللصناديق أن تكون كصندوق (باندوره) جالبةً لشرٍّ مُستَطيْرٍ، ولها أن تكون كصندوق الدنيا نافذتنا إلى العالم فأيهما أنت؟؟
مجموعةٌ من الكتب الشاحبةِ ذات الورق الأصفر كانت بانتظارنا. أُغرِمنا سريعًا باللون الأصفر لِلوَرَق، إنّه لون القديم، لون الغامض، لون المخطوطات وشهر أيلول. أعتقد أن سِرَّ إعجابي الدائم بدار نشر رياض الريس العظيمة، يعود ليس لقيمة الكتب التي ينشرها (على أهميتها)، بل لاعتماد الدار نوعًا من الورق الأصفر الرائع يعيد لنا الذكرى الأولى لاحتضان أول كتاب بين أيدينا البريئة.
لم نكن نعرف إنه حالما تقرأ كتابًا، يرفضُ عقلك رفضًا قاطعًا أن يعودَ لِحَجمهِ السابق، وعمومًا لورق الكتب سحرٌ وقد سَحَرَنا الوَرَق.
ولكن ما هذه الكتب؟
رأس المال لكارل ماركس، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية لحسين مروة، نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري، القفص الزجاجي لكولن ولسون، المُستطرف الجديد لهادي العلوي، الأم لمكسيم غوركي.
يا رب الأقدار تَرفّْق بِنا.
لِوَهلةٍ نَدِمْنا على فتح هذا الصندوق، وقد خاب أملنا من هذه العناوين المُخيفةِ، ومِنْ صعوبةِ قراءةِ هذه الكتب، عداكَ عن فَهمِها.
كنّا نتفحّصُها يوميًا، ونعيدها إلى الصندوق بَنَفس الترتيب، وكأنَّ الوالد يراقبنا غاضبًا. ولكن الكنز الحقيقي للصندوق اكتشفناه بعد عِدّة أيام: كيس صغير فيه أربعة اسطوانات (كاسيتات) غنائية: الأطلال لكوكب الشرق أم كلثوم، وشآميات للعظيمة فيروز، وقصيدة مديح الظل العالي بصوت الشاعر الكبير محمود درويش، وأخيرًا طَرَبٌ حَلبّي قديم بصوت المنشد القدير مصطفى ماهر.
قريتنا صغيرة جدًّا، وكنتُ أنزعج من تسميتها مزرعة، عندما أُخبرُ أصدقائي في الجامعة أنّ عدد سكانها نحوَ مئتين وخمسين شخصًا فقط. ولكن ربّما كان الأصدقاء على حق، إذ كان جميع مَن في القرية أقارب بشكل أو بآخر. لا وسائل مواصلات تربطها بالمدينة، لا مكتبات أو سينما، لا ملاعب لا هاتف لا تلفاز. الوجبة الثقافية الوحيدة هي ما يَبثّهُ مِذياع الجارة وهي تعمل في البيت، والمذياع يعمل طبعًا بالبطاريات، إذ لا كهرباء. بَدأنا ويا للمفارقة نستمع للأطلال بصوت الِستْ. كانت المقدمة الموسيقية طويلة جدًّا لأَذنِ طفل مازالت عذراء (الحقيقة إنّ آذانَنا كانت تألف الشتائم والكلام النابي والجارح وربما مَردُّ ذلك لشَظَفِ العَيْش الذي يَستنزف الروح في القرى النائية).
نتأمّل بمُخيلتنا لحظة وقوف أم كلثوم على المسرح، ونعرف ذلك من التصفيق الحار والطويل. بدأنا نُعْجَب بعازف القانون القدير محمد عبده صالح، دون أن نعرف اسمه، وفيما بعد عرفنا أنه كمبيوتر أم كلثوم وخازن دار أغانيها.
نَستمعُ مِرارًا لقصيدة الأطلال، نستمع يوميًا لهذه التُحفة، وكل يوم نُعجب بمقطع فَمَرّة: أين مِنّي مجلسٌ أنت به . ومَرّة: يا حبيبًا زرت يومًا أيكَهُ
وطبعًا:
يا حبيبي كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء.
الآن بعد مرور أربعة عقود، وبعد أن تَعمّقتُ كثيرًا بالصوت الكلثومي، أقول: خسارة أن السِّت غَنّتْ هذه القصيدة سنة 1966، وكانت متقدمة في السن. كان يجب لهذه القصيدة أن تنتمي لأعمال أم كلثوم والسنباطي في الأربعينيات، حين كان صوت السّت خُرافيّا.
أطفالٌ نحن، وأرواحنا كصَفحةٍ ديكارتيةٍ بيضاء، يمكن للآخرين وللزَمَن وللمُعَلّم وللجغرافية أن يخطّوا عليها ما يريدون وبغَيرِ استئذانٍ طبعًا.
انضمَّ إلى قائمة الأصدقاء الجدد، العظيمة فيروز مع الأخوين رحباني وسعيد عقل وكم فَتَنتنا جملة (الأخوين رحباني). استمعنا إلى شآميات فيروز مئات المرات، وكان سِحْرُ صوت فيروز يُغنينا عن فَهْم ِالكلمات الصعبة للشاعر سعيد عقل. (هل ينحت في صخر أم يغرف من بحر؟ لا أعرف): بستان هشام!! شبا المُران!! الأولى جبهوا!! كنّا بفطرتنا نعرف أن الوقت في القرية ثقيل وطويل، وسيأتي يوم نُدرِك ما يَرمي إليه سعيد عقل. لَمْ نكن مستعجلين، كنّا فرحين بهذا الغموض اللذيد.
نَغوصُ يوميًّا في بَحرٍ من العُرَبِ اللّحنيةِ المذهلة. وحينَ كنّا نَستمعُ مثلاً للمُنشد القدير مصطفى ماهر، وهو يؤدي موشح- قلتُ لمّا غاب عني- للشيخ عمر البطش، ترتفع أرواحنا مع صوته لجواب الجواب، وعندما يهبط باقتدار للقرار، تأبى أرواحنا أن تهبطَ من عليائِها، وقد استخفَّ بها الطَرب.
لا شيء نفعلهُ في القرية، في أيام الصيف الحارةِ إلاّ السِباحة في النهر، وذلك قبل أن يَجِفَّ ويصبح مَزبَلةً. وحين تَغرُب الشمس، ننفردُ مع كُتبِنا، مع اسطواناتنا، مع أحبائنا: أم كلثوم، السنباطي، فيروز والرحابنة، سعيد عقل، إبراهيم ناجي، مصطفى ماهر، وطبعًا الشاعر العظيم محمود درويش.
أن تستمع لقصيدة مديح الظل العالي بصوت محمود درويش وأنت فتى صغير، فهذه مغامرة غير محسوبة العواقب. كنّا كَمَنْ مَسَّه سِحْر ومِن أوَّلِ جملةٍ قالها:
بَحرٌ لأيلول الجديد خريفنا يدنو من الأبواب
لَمْ نَعُدْ كسابق عهدنا، وكانت كلمات القصيدة كصاعقةٍ أحرقت مِعطَف طفولتنا الذي أخاطه سليمان العيسى الشاعر الحصرّي والرسميُّ للطفولة. أحسسنا أنَّ هناك شِعرًا آخر أدبًا آخر يحتفي بثقافة الهامش وليس المتن.
عَشِقْنا اللغة العربية بصوت محمود درويش، تشرّبناها، استحمينا بها، ضَممناها بقوّة كأننا نودعها قبل أن (تموتَ كَكلِّ مَن فيها وتُرمى في المعاجم).
وبِشعِر محمود درويش، بدأت علاقتنا مع المُحَرّم، مع الممنوع، مع المسكوت عنه، وكَبُرَتْ أشجار الأسئلة فأصبحتْ غابات.
وأنا أروي قِصّة هذا الصندوق لإبني، أجابني سريعًا: يا أبي قرأتُ "بالإنكليزية" حِكمةٌ تقول: مِنَ الأفضل أن تبقى بعض الأبواب مغلقه.
فَكّرتُ في كلامه مليًّا، وقلت لنفسي: هل يا ترى فتحنا صندوق الوالد قبل الأوان فَكبرنا قبل الأوان، أم أن لكلّ بيت صندوقه الذي سيفتح يومًا ما من قِبَلِ طفلٍ ما فتبدأُ رحلة ما؟
أليسَ الكتاب والثقافة والأدب والفِكر، وما يرشح عنهم من أسئلة مؤرقة، سبب كل فاقة وغربة وكآبة في هذا الشرق القاسي والحزين والمهزوم!؟ أم إنّ الثعالبي كان على حق حين قال:
ولو أنّي جُعِلْتُ أميرَ جيشٍ لمَا حاربتُ إلّا بالسؤال
لقد حاولنا - إخوتي وأنا – اكتشاف والدي الغائب من خلال ما تَرَكهُ لنا، ولكن كنّا أزهارًا وكان هو بُستاني، وهل تَتّسع ذاكرة زهرة لحياة بُستاني، أيّها البستاني الجميل!
تغريد
اكتب تعليقك