حمد الحجي: شاعر سبق زمانهالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-10-02 07:45:26

سعد عبدالله الغريبي

أديب وشاعر - الرياض

عرفت حمد الحجي من خلال كتاب الأديب عبدالله بن إدريس (شعراء نجد المعاصرون) وعلق في ذاكرتي بيته الموغل في التشاؤم:

             إن تغنَّتْ حمامة مِلْتُ عنها    

                              ثم أرهفتُ مسمعي للغرابِ

هذا التشاؤم الذي لم أعرف له نظيرا سوى عند ابن الرومي وأبي العلاء المعري.

وقرأت بعد ذلك بسنوات ديوانه (عذاب السنين) الذي جمعه محمد بن أحمد الشدي بعد وفاة الحجي في عام 1409/1989 والذي أعادت طباعته وزارة الإعلام سنة 2019.

وقرأت الكثير بعد ذلك وبخاصة المقالات التأبينية في سنة وفاته وما تلاها من دراسات ومقالات كان آخرها رسالة ماجستير - للدكتور حاليًا - خالد الدخيل التي حولها إلى كتاب بعنوان (حمد الحجي شاعر الآلام) ونشر طبعته الثانية نادي الرياض الأدبي بالتعاون مع المركز الثقافي العربي عام 2017. وصدر بعد ذلك كتاب لعبد الله الضويحي بعنوان: (حمد الحجي الشاعر والإنسان) سنة 2019.

والحقُّ أن الدكتور الدخيل قد ألف مرجعًا لكل من أراد التعرف على حياة حمد الحجي وشعره، واستدرك ما فات سابقيه من دارسين، وبذل جهده في إجراء مقابلات مع أقارب وزملاء لحمد الحجي. ويمتاز كتابه عما سبقه بأنه دراسة أكاديمية منهجية درس فيها شخصيته وتتبع صدى ذلك في شعره كما درس شعره دراسة فنية.

فمعظم الذين كتبوا عن حمد الحجي - رحمه الله - أخذوا يتناقلون معلومات كالمُسَلَّمات؛ منها أنه نشأ يتيمًا فقيرًا، فقد أمه وهو في التاسعة وفقد أخوين له في تلك الفترة ثم فقد أباه بعد ذلك، وأن أباه لم يتزوج بعد وفاة والدته مباشرة لضيق ذات يده، ولذا انتقل الصبي للإقامة لدى شقيقته الكبرى وزوجها. ويجعلون هذه العوامل سببًا مباشرًا في إصابته بمرض الفصام الذي أصابه وهو في المرحلة الأخيرة من دراسته الجامعية.

الذين قرؤوا عن فترة الستينيات الهجرية؛ التي عاش فيها حمد طفولته - إن لم يدركوها - يعرفون أن الناس كلهم كانوا في ضنك من العيش، وأنهم جميعًا عانوا من الأمراض وندرة المستشفيات والعقاقير واللقاحات مما جعل الوفيات أمرًا مألوفًا، ولذا فمن النادر أن تجد أسرة لم يصبها اليتم في أكثر من ولد أو في أب أو أم. وبعض الذين عاشوا مع والديهم لم يكونوا أسعد حظًا من الأيتام، بل إن هناك فقراء ألحقوا أولادهم بدور الأيتام حين افتتاحها لتكفيهم مؤونتهم.

وفي ذلك يقول د. حمد الزيد: "ولم يكن الفقر وقتها ظاهرة فردية.. بل كان ظاهرة اجتماعية يغرق فيها معظم الناس.. ولذلك فإن الفقر - في رأيي - لم يكن السبب الأساسي في تعاسة الشاعر: حمد بن سعد الحجي كما يرى بعض من كتبوا عنه"(1).

ولنتأمل حال حمد في طفولته مقارنة بغيره:

 قالوا: إن والده كان فقيرًا؛ حتى إن دكانه الذي يبيع فيه المواد الغذائية لم يكن يغطي مصروفات أسرته. وأقول: إن هناك من مجايليه من لم يكن لآبائهم دكان أصلاً!

وقالوا إن أباه قد تأخر في الزواج بعد وفاة زوجه (أم حمد) لضيق ذات يده، ولذا عاش الطفل تحت رعاية أخته الكبرى وزوجها. وأقول: هل كان ليجد أحنى من شقيقته الكبرى بعد وفاة أمه؟ أليس هذا أفضل من معيشته تحت سلطة زوجة أب؟

وقد بالغ بعضهم في وصفه بالعبقرية واستشهد على ذلك بتفوقه الدراسي بدليل حصوله على ترتيب (الثاني) في المدرسة و(التاسع) على مستوى المملكة في الشهادة الابتدائية.. وكذا نبوغه الشعري المبكر منذ أن التحق دارسًا بالمعهد العلمي. وعدَّ هذ النبوغ في التحصيل الدراسي ونظم الشعر سببين آخرين في إصابته بالمرض النفسي.

لا أقلل من تفوقه الدراسي، لكني لا أعده دليلاً على ذكاء، لأن المواد الدراسية لم تكن سوى مقررات نظرية يكون التفوق فيها حليف من أوتي القدرة على الاستظهار لا الذكاء. ثم لا ننسى أنه درس في الكتّاب قبل التحاقه بالمدرسة الابتدائية وذلك ما جعل حصيلته اللغوية أوفر حظًا من أقرانه. أما نبوغه الشعري المبكر فتكفي نظرة سريعة على أشعاره في تلك الفترة لندرك أنه لم يكن سوى نظم لا يزيد في مستواه عن بدايات أي شاعر، أما الشعر الرصين فلم يتمكن منه إلا بعد التحاقه بالجامعة وتوسع قراءاته المختلفة واحتكاكه بزملائه ومشاركاته في المجالس الأدبية التي تعقد في الكلية وخارجها. وقد بلغت قصائده ذروتها الإبداعية بعد تعرضه لألوان المعاناة النفسية.

إن المتأمل في مرحلة طفولة حمد الحجي يجدها طفولة عادية كما أورد ذلك د. خالد الدخيل في كتابه آنف الذكر (حمد الحجي شاعر الآلام) إذ يقول: "وأما تفاعله مع أفراد المجتمع فقد كان يلهو مع أترابه في بلده الصغير مرات، إذ يؤكد زميله الشيخ إبراهيم الناصر بأنه وزملاءه كانوا يعيشون حياة صافية، ولم يُلحظ على حمد الحجي الانطواء فترة طفولته فكانوا يخرجون كثيرًا لممارسة رياضة السباحة في أماكن تجمع المياه بعد الأمطار ويأنس الشاعر (يعني حمدًا) بهذه الرياضة"(2).

وحتى في الجامعة كان الرجل طبعيًا يشارك في المحاورات والمجالس الأدبية "ومن المشاركات الفعالة تلك اللقاءات التي تجمعه بزملائه في الفسح حيث يجتمع زملاء الدراسة في فناء المعهد والكلية ويتبادلون الآراء وتحصل بينهم النقاشات في بعض الموضوعات وعلى رأسها الموضوعات الأدبية، وكان حمد الحجي من أهم أعضاء هذه الاجتماعات لما يملكه من موهبة إلقاء القصائد، ولما يتميز به من معلومات أفادها من قراءاته المتواصلة"(3). وما حبه لنجد ومن بها من أهل وخلان وتذكره لها وهو في مغاني لبنان إلا دليل على أنه كان شديد التعلق بوطنه وأهله، وهذا سلوك الأسوياء:

أراني غريبَ الدار بالشام مُبعدا 

            أعـانــي  عــذابـاتـي  وأشبُـهـا  وحدي

أراقبُ إخوان الصفاء وما الذي 

            تبدَّى لهم من راغد العيش من  بعدي

فآهٍ لقلبي كم  يعيثُ به الأسى

            على  نــأيِ إخـواني  وبـعدِ  ذوي  وُدِّي

أرى  غربةَ الأحرار مثلي فجيعةً

       فما الليثُ مأسورا وما السيفُ في الغمد(4)؟

بل إن شعره ينبض بتفاعله مع مجتمعه ومع وطنه الصغير والكبير واهتمامه بقضايا الأمة، وليس أدل على ذلك من قصيدتيه في إنشاء مطابع الرياض وجامعة الملك سعود باعتبارهما دليلاً على الرقي الذي ينشده لبلاده، وقصائده التي يحث فيها الشباب على التنافس في تحصيل العلم لكونه أحد أسباب التقدم، وقصائده في الوحدة العربية وفي قضيتي فلسطين والجزائر.

لقد عاش الحجي فترتي الطفولة ومقتبل الشباب عيشة سوية، ولم تظهر عليه علامات المرض حتى أصابه وهو في الرابعة والعشرين من عمره طالبًا في كلية اللغة العربية، مما يعني عدم تحميل ظروف النشأة الأولى أسباب مرضه.

حتى في أواخر عمره في دار الرعاية الاجتماعية بالرياض لم يكن حمد فاقدًا للذاكرة، أو عاجزًا أو غير مدرك لواقعه، فقد كان يحفظ بعض قصائد المتنبي وشيئًا من شعره وقد أثنى على محمد بن حسين وعلى عبد الله بن خميس رحمهما الله لأنهما كتبا عنه وعن تجربته الشعرية.

والذي أميل إليه أن لدى الحجي حساسية مفرطة ورؤية مثالية وفي ذهنه صورة نموذجية لما يجب أن يكون عليه المجتمع، ولمَّا بدأ يُظهر لأقرانه ولداته هذه الرؤى والتطلعات أخذ فريق لم ترقه هذه التطلعات بازدرائه والسخرية منه. ولأنه كان مفرط الحساسية ولم تكن لديه القدرة على مجابهة هؤلاء فضَّل الانسحاب من المجتمع الذي يرى أفراده:

بينَ  نذْلٍ  وخائنٍ  وعدوٍّ    

                 وحسودٍ وصاحبٍ ذي كذابِ(5)

وعندها بدأ يعيش غربة روحية قاتلة لم يلبث أن صرح بها:

وطنَ  الحب  أنت  معبدُ نجوا

                 ي وإن عشتُ منك في تجريحِ

أنا لم أشْكُ عنك غربة جسمي

                 إنما قد شكوتُ غربة روحي(6)

لا أظنه يبعد كثيرًا في معاناته عن أبي القاسم الشابي وفهد العسكر - كما أشار إلى ذلك الأستاذ عبدالله الحميد في كتابه شعراء من الجزيرة العربية(7) (ج1 ص149) - لكن الفارق هو أن مجتمع حمد تناقل أنه مصاب بمرض نفسي، وبدأ المقربون منه يبحثون له عن علاج. وأعتقد أن التشخيص الخاطئ والعلاج البدائي وتردده على المصحات داخل المملكة وخارجها والتي كان آخرها مستشفى الأمراض النفسية بالطائف - الذي كان يعرف عند العامة بـ (مستشفى المجانين) - كل هذه العوامل المتلاحقة كانت سببًا مباشرًا في تردي حالته.

وأوافق الدكتور خالد الدخيل إلى أن الحجي قد عرف الحب وعاش تجربة جميلة لكنها لم تكتمل ولم يكتب لها النجاح. لكنني أرى أن هذا الحب كان عنيفًا مما سبب له صدمة عاطفية فاقمت من حالته، وقد تكون حالته هي السبب في حدوث هذه الصدمة؛ فالمتأمل في بعض قصائده يجد شكوى مرة من بعد الحبيب فيتمنى قربه ليبدل خوفه أمنا:

ألا يا ليت من أهوى قريبٌ

                يخففُ وطءَ آلامي وحزني

ويغمرني بفيض النور منه

                ويبدلني رؤى خوفي بأمن

ويجعلُ وحشتي أُنسا وبِرًّا

                ويتركُني أنام بملء جفني(8)

بل بلغ به اليأس من لقاء الحبيب مداه، فقرر أن ينفض منه يديه ليعود بشرًا سويًا:

يئســتُ  من الغــرام فــلا  وصــالٌ

                          أُرجّــِيــه،  ولا أمـلٌ لـــديَّــا

صــبرتُ فحين لم يُجدِ اصطباري

                          نفضتُ من الهوى كلتا يديا

وإن مات الهوى في عمق صدري

                          أعودُ بموته بشــرا ســويا(9)

وليس البعد المكاني ما يعاني منه شاعرنا؛ بل هناك تجاهل الحبيب وذلك أنكى:

أمْ لأنَّ الحبيب قد بات لا ير

                     عى ذمــامـــا لحــرمـتي وائتـماني

فغــدا  الهــمُّ  لازمــا  لفؤادي

                    وغـــدا  الـشـــوقُ  آخـــذا  بعــنـاني

أيْ وربي فذاك مبعثُ شكوا

                    يَ أعاني من حرَّها ما أعاني(10)

ويبدو أن القضاء والقدر قد منعاه من الاقتران بالحبيبة فهو يقول عن نفسه:

كم ودَّ لو كان مقرونا بصاحبةٍ

                    وهل  ينامُ  قريرُ  العين  منفردُ

لكنه عاجــزٌ عن نيــل مأربه

                      ومالَه في تدابير القضاء يد(11)

ولا أريد أن أحمل الشاعر مسؤولية كل ما جرى على لسانه وهو الذي برَّأَه جلَّ وعلا بقوله (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) لكني لاحظت عشقه للطائف ولحي قروى خاصة، وما أظن هذا العشق للمكان بقدر ما هو لساكن المكان.. يقول في مطلع قصيدته (الحسن في الطائف):

الحسنُ في الطائف ألوانُهُ

                    كثيرةٌ في عين من ينظرُ

لكنما الحسن الذي شاقني

                    وبات عقلي منه لا يبصر

مُجسَّمٌ  في  غادةٍ  حلــوةٍ

                     تمشي الهوينى طرفها يسحر(12)

ويقول في ختام قصيدة أخرى:

سـكنَّا بقروى والحبيــبُ جـوارنـا

           فللــه مغنًــى قد ســكناه فــي قــروى

شربنا به كأس الصبابة والهوى

          وحمَّلني - يا ويحه - أعظــم البلــوى

وكنت أظن الوجد شيئا ميسرا

          فأمسى بروحي عاصف الوجد قد ألوى(13)

ولا تحسبن الفقر هو ما منعه من الزواج، فكيف يصطاف الفقير في الطائف أو لبنان، ومن ذا الذي كانت السياحة تشكل أحد بنود مصروفاته ذلك الوقت؟ وهو إن اشتكى من الفقر فلأنه حرمه من العودة للبنان مرة أخرى فهي بلد الأمراء والأثرياء:

إني أموت على مصيفٍ في ربى

                    لبنان لا راعَ الزمانُ رباهُ

لكننــي خالــي الوفــاض ومثلُــه ُ

                    بلدٌ جديــبٌ للفقيــر متاه

مــا حلَّــهُ  إلا  أميــرٌ ..  أو  أخــو

                    مال ومثلي قد يُعار رداه(14)

ولعلنا نلحظ أمرًا آخر قد يفتح المجال لتفسير بعض سلوكيات الحجي، وقد أشار إليه الدكتور الدخيل(15) وهو الخوف من الموت الذي اختطف مبكرًا والديه وأخويه، وقيَّد تصرفاته فيما بعد، فجعله لا يلتذ بمنظر جميل لأنه يعرف أن بعده زوالاً، ولا يستمتع بصحبة الأصدقاء لأنه يتذكر الموت الذي سيفرقهم:

إن نظرتُ الجمال غضا طريا

                     يتجلى في المنظر  الخلابِ

لاح لي أسود المصير كمسو

                    د  الليالــي  مكشــر الأنياب

فرأيت الجمال  يُطوى  بأكفا 

                     ن  ويبلى  ممزق الأســلاب

وإذا مـا الحيــاة قلبي يومـــــــا 

                     فـرَّحتْـهُ  بـزورة  الأحبـاب

أيقنتْ  نفسي  الفراق طويلا

                    ورأيت الوصال مثل السراب(16)

ولعل الخوف من الموت هو ما منعه من الزواج، فقد خشي أن يلقى حتفه ويترك ذرية ضعافًا من بعده، أو تلقى زوجه حتفها فيعيش أطفاله أيتامًا كما عاش، أو يموتون صغارًا كما حدث لطفل صغير حضر جنازته ورثاه ببضعة أبيات(17)..

 

الإحالات:

(1) د. حمد زيد الزيد: صحيفة الجزيرة العدد: 14007 في 3/2/1432 الموافق 3/2/2011.

(2) د. خالد بن عبد العزيز الدخيل: حمد الحجي شاعر الآلام – نادي الرياض الأدبي والمركز الثقافي العربي ط2  1438/2017 ص66-67

(3) الدخيل: ص71 من مقابلة مع محمد الطيار.

(4) ديوان عذاب السنين جمع محمد بن أحمد الشدي – دار الوطن للنشر والإعلام بالرياض. ط1 1409/1989: ص63-64

(5) عذاب السنين: 33

(6) عذاب السنين: 74

(7) عبدالله الحميد: شعراء من الجزيرة العربية – دار طويق للنشر والتوزيع ط2 1426 ج1/149

(8) عذاب السنين: 38

(9) عذاب السنين: 43   

(10) عذاب السنين: 117

(11) عذاب السنين: 83

(12) عذاب السنين: 80

(13) عذاب السنين: 96

(14) عذاب السنين: 100

(15) الدخيل: 222 وما بعدها

(16) عذاب السنين: 31

(17) عذاب السنين: 17


عدد القراء: 2539

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة عبدالله الحجي من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2022-10-05 08:27:55

    مقال رائع ومن اراد الاستزادة فهاك كتاب الاستاذ عبدالله الضويحي (حمد الحجي الشاعر و الانسان) .. كتاب جامع و وافي وشامل واصدق من كتب عن الشاعر رحمه الله

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-