مزالق الترجمةالباب: مقالات الكتاب
د. محمد سارح العسيري جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية – الرياض |
الترجمة والحساسية الثقافية: ترجمة مصطلح "اليهودي" في الأفلام الأمريكية على قنوات الأفلام في شبكة MBC
في عالم يزداد ترابطًا، تلعب الترجمة دورًا حاسمًا في تشكيل فهمنا للثقافات الأخرى كأداة للتواصل والفهم المتبادل بين الشعوب. لكن عندما تصطدم هذه الأداة بالحساسيات الثقافية والصراعات القومية تتولد تحديات معقدة، كما هو الحال في ترجمة الأفلام الأمريكية في العالم العربي.
حيث لاحظت ظاهرةً ملفتة للنظر عند مشاهدة الأفلام الأمريكية المترجمة على قنوات MBC تكشف عن نمط مثير للاهتمام وهي تحوير أو حجب مصطلح "اليهود" واستبداله بكلمات أكثر عمومية مثل الآخرين أو الناس وهذه الظاهرة تستحق الفحص والتحليل لفهم دلالاتها وتأثيراتها في سياق القومية العربية والصراع العربي-الإسرائيلي.
وأنه من خلال متابعتي لقنوات MBC 2, MBC ACTION, MBC MAX أثارت انتباهي ظاهرة حجب كلمة اليهود أو اليهودي من الترجمة العربية عندما يذكر في الأفلام كلمات مشتقة من كلمة Jews مما جعلني أتساءل ما إذا كان هذا الحجب مقصودًا أولاً؟ وإذا كان مقصودًا فلمصلحة من؟ وانصافًا للقارئ الكريم، سأذكر بعض الأمثلة لأفلام أمريكية عرضت على قنوات MBC وفيها لم تترجم كلمة Jewish أو Jews باليهودي أو باليهود بل استبدلت بكلمة أخرى عامة مبهمة بعيدة كل البعد عن الثقافة اليهودية. والمتعارف عليه ثقافيًا بأن تحوير كلمات محددة يمكن أن يغير من تجربة المشاهد ويؤثر على فهمه للنص. وهذا المقال يركز بصورة خاصة على المشاهدين العرب غير الناطقين بالإنجليزية، الذين يعتمدون بشكل أساسي على الترجمة العربية لفهم محتوى هذه الأفلام. ولهذا السبب تعد الدقة والأمانة العلمية في الترجمة ضرورية ليس فقط للحفاظ على النص الأصلي، ولكن أيضًا لتمكين المشاهدين من فهم الرسائل الثقافية والتاريخية للأفلام. وقد ذكرت اسم الفيلم وسياق الكلمة في آخر المقال ليتسنى للقارئ الكريم الرجوع إليه.
يعلق الدكتور نياف العنزي أستاذ اللغة العربية في جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية بأن بعض ممارسات الترجمة متكلفة وغير مبررة وتؤدي إلى بتر النص الأصلي مما يؤدي إلى فقدان المعنى الأصلي للنص لأن النص المبتور يفقد عناصر مهمة تؤثر بصورة سلبية على فهم المشاهد للنص. وسنذكر بعض الأمثلة على هذه الظاهرة ونبيِّن تأثيرها على النص الأصلي وتلقي الجمهور للفيلم المترجم.
أحد الأمثلة الملفتة لهذا الحجب يظهر في الفيلم الأمريكي"The Campaign"، حيث يتحدث المرشح مارتي هقنز Marty Huggins في خطاب أمام الناخبين الأمريكيين عن نصيحة أبيه والتي يقول فيها "never say anything bad about the Jews" وترجمتها الحرفية "بأنك يجب أن لا تتحدث أبدًا عن اليهود بسوء". ومع ذلك، ترجمت قناة MBC 2 هذا الجزء بـ"بأنك يجب أن لا تتحدث أبدًا عن الآخرين بسوء" حيث استبدل المترجم كلمة اليهود بكلمة الآخرين وهذا يغير المعنى الأصلي تمامًا خصوصًا إذا علمنا بأن هذه النصيحة حقيقة مشاهدة نشاهدها على التلفاز خلال الموسم الانتخابي الأمريكي عندما نرى حرص المرشح على دعم لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (الأيباك) وتأكيده على دعمه الكامل لحق إسرائيل في الوجود والدفاع عن حقها في البقاء. فهنا كان لزامًا على مترجمي MBC ذكر الترجمة الدقيقة وذكر كلمة اليهود في هذا السياق ليفهم المشاهد العربي مغزى الحوار.
وفي السياق نفسه، نشاهد أحيانًا تحويرًا في الترجمة يفقد النص أصالته وقوته الدلالية، كما في فيلم "Casino Jack"، الذي يعرض الحياة المهنية لرجل الاعمال اليهودي جاك أبراموف Jack Abramoff وبالتالي نشاهد استخدام وصف اليهودي بصورة مكثفة في الفيلم وفي الوقت نفسه نلاحظ تحوير قنوات MBC لكلمة اليهود أو وصف اليهودي في أي ترجمة للنص بصورة مثيرة للشك. حيث نلاحظ في أحد المشاهد القاء رجل الأعمال اليهودي جاك لخطبة مقتضبة خلال اجتماعات مجموعة الدروس الدينية في مبني البرلمان يتحدث فيها عن التشابه بين مبادئ الحزب الجمهوري والرب، وعند خروجه من الاجتماع برفقة زوجته وأولاده يصادفه القسيس ويقول له “it is refreshing to see both Christian and Jews partnering together” والترجمة الحرفية هي "من المفرح أن نرى المسيحين واليهود يتشاركون معًا" وللأسف ترجمة قنوات MBC كانت "إن رؤية رجال من مختلف الديانات لجعل العالم مكان أفضل لأمر جميل" حيث نلاحظ استمرار حجب قنوات MBC لمصطلح اليهود وتحوير الترجمة لكلمة أخرى عامة مما يخل بالمعنى الإجمالي فالنص السينمائي يتحدث عن المسيحين واليهود وليس عن مختلف الديانات. وفي نفس المشهد يصادف جاك صديقه اليهودي الآخر آدم والذي يبدي اعجابه بملابس جاك بقوله “wow, you have gone for the whole Jew package” والذي يترجم حرفيًا إلى "يا للهول لقد اخترت الحزمة اليهودية بأكملها" ولكن نلاحظ هذه الترجمة في قنوات MBC "يبدو إنك أردت مظهرًا متدينًا بحتًا" والتي جاءت بعدم التصريح باسم اليهودية.
يعتقد البعض أن تحوير مصطلحات مثل "اليهود" في ترجمة الأفلام الأمريكية ظاهرة تعكس الحساسيات القومية والتاريخية العميقة في العقل العربي. ويشكل هذا التحوير انعكاسًا للعداء المتواصل بين العرب واليهود نتيجة للصراع العربي الإسرائيلي. وبالتالي، تصبح الترجمة أداة ليست فقط لنقل المعاني، بل للتعبير عن موقف قومي وسياسي ويصبح الانحياز في الترجمة موضوعًا يتجاوز حدود اللغة إلى أعماق الهوية والانتماء، مما يطرح تساؤلات مهمة حول كيفية التعامل مع هذه التحديات بمهنية ونزاهة، وكيف يمكن للمترجم أن يلعب دورًا فعالاً في تعزيز الفهم المتبادل بين الثقافات في ظل هذه التعقيدات.
يبين الدكتور سعد البازعي في محاضرته بعنوان "الترجمة بين المعرفة والإبداع" أن الترجمة تشكل عملية ثقافية مشحونة بالتوتر، نظرًا لتأثرها بالتحيزات الثقافية والأيديولوجية ولأنها تمثل أحد أبرز نقاط التماس والتلاقي بين الثقافات. لذلك، كان من المتوقع أن تظهر قنوات MBC حيادتيها في ترجمتها، خاصةً عند ترجمة مصطلحات مثل "Jewish" إلى "يهودي"، لضمان فهم الجمهور العربي للنصوص السينمائية بشكل دقيق.
هذا التحور في الترجمة يمكن أن يُعزى إلى مفهوم "الحساسية الثقافية" والهدف منه هو التقليل من الجدل أو الاستياء من خلال تجنب الكلمات التي قد تُعتبر حساسة أو مثيرة للجدل. ولكن، هل هذا النهج يخدم الفهم الحقيقي والموضوعي للثقافة الأصلية، أم أنه يشوه الرسالة الأصلية للنص؟
ومن ناحية أخرى يمكن أن يُنظر إلى هذا التحوير كمحاولة لحماية المشاهد من التأثير الثقافي اليهودي أو كوسيلة للحفاظ على نقاء القضية العربية. لكن مع ذلك، قد يؤدي هذا التحور إلى تقديم صورة مشوهة أو مبسطة للنزاع والثقافات المتصارعة، مما يؤثر على فهم المشاهد للتعقيدات الحقيقية للصراع ومن ثم يفقد المشاهد العربي الفرصة للتفاعل مع الرسائل التي يعكسها النص الأصلي.
إن مثل هذه الممارسات في ترجمة مصطلح اليهود هي أمثلة حية تبين أن الترجمة أصبحت عملية معقدة تتجاوز مجرد نقل الكلمات، لتصبح عملية تفاعلية تشتبك مع السياقات الثقافية والاجتماعية.
يطرح تحوير مثل هذه المصطلحات تساؤلات مهمة حول الحاجة إلى الدقة في الترجمة مع المحافظ على احترام الحساسيات الثقافية والقومية هل يمكن للترجمة أن تظل موضوعية ودقيقة في ظل ضغوط الواقع السياسي والقومي؟ وهل يمكن للمشاهد العربي أن يتلقى فهمًا كاملاً للثقافة الأمريكية واليهودية من خلال عدسة الترجمة المتأثرة بالقضايا القومية؟
يذكر الدكتور وليد الصبحى أستاذ علوم الترجمة في جامعة جدة بأن المفردات أو المفاهيم تحمل خصوصية ثقافية يصعب نقلها إلى لغة أخرى لأن الكلمات تحمل في طياتها ثقل الثقافات والتاريخ، وعندما يتم ترجمتها، تصبح مرآة تعكس مدى تعقيد وتداخل البنى الثقافية والاجتماعية. ويتجلى هذا المعنى عندما تستخدم صفة اليهودي او كلمة اليهود في الفيلم فهي ذات دلالة ثقافية واجتماعية معينه وكان حري بالقناة الالتزام بالترجمة الحرفية ليستقيم المعنى وإلا لأصبحت الجملة بلا معنى كما هي ترجمة MBC .
في المقابل فإننا لاحظنا أن الإعلام المنحاز لإسرائيل قد وثق بشكل موسع جرائم النازية، بما في ذلك الهولوكوست وغيرها من الفظائع وهذا التوثيق يشمل الأفلام الوثائقية، الكتب، المقالات الأكاديمية، والبرامج التعليمية وبالإمكان مشاهدة أفلام Schindler's list أوThe Pianist ستلاحظ الاستخدام المكثف لكلمات منحازة كالنازية والهولوكوست وأكاد اجزم أنه عندما تعرض وتترجم هذه الأفلام في إسرائيل بالعبرية لن يتم حجب مصطلح النازية أو استبدالها بكلمة أخرى عامة كالناس مثلاً أو استبدال اسم هتلر بالقائد.
ويحق لنا بعد هذا أن نتساءل هل ظاهرة حجب ترجمة بعض الهويات أو الأقليات ظاهرة عالمية بمعنى هل نشاهد هذه الظاهرة في الأفلام الأمريكية عند الإشارة إلى العرب أو القضايا الإسلامية؟ هل يتم إخفاء أو تجنب ذكر العرب أو المسلمين في الأفلام الأمريكية حفاظًا على مشاعرهم وحماية لهم من التشويه؟ فمثلاً عندما نشاهد فيلم "Long Kiss Goodnight" من عام 1996، نجد أن المشهد يظهر الخطة لتفجير مركز التجارة العالمي وقتل 4000 مدني وإلقاء اللوم على المسلمين. والمثير للاهتمام هو إجازة النص من قبل الجهة الرقابية دون حجبه أو تغييره رغم انحيازه التام للنظرة العنصرية ضد المسلمين. حيث يقول المتحدث في الفيلم علانية وبكل وضوح شارحًا لخطته لإجبار الكونجرس على ضمان التمويل المالي له " “I have no idea how to fake killing 4,000 people, so are just have to do it for real, blame it on the Muslims naturally” والترجمة الحرفية هنا "ليس لدي فكرة عن كيفية تزوير قتل 4000 ألاف شخص. لذا، علينا ان نفعل ذلك بالفعل ونلقي اللوم على المسلمين بطبيعة الحال". فهنا لم يتغير النص ولم يتم تحويره احترامًا للمسلمين كما تم تحوير النصوص المتعلقة باليهود وهذا ينفي الحيادية عن صناعة الأفلام الأمريكية.
والسؤال الذي يطرحه هذا المقال حول الانحياز في الترجمة وعلاقته بالضعف والجبن الثقافي هو سؤال عميق ومتشعب، لأن التحيز في الترجمة موضوع متعدد الجوانب لأن له جذورًا متعددة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا. لكن ما هو الضابط المعتبر ثقافيًا واجتماعيًا للحياد؟ هناك فرق دقيق بين الحيادية والضعف أو الخوف. الحيادية في الترجمة يمكن أن تكون مقبولة ومحببة أحيانًا، خاصةً في سياقات معينة مثل الترجمة القانونية أو الأكاديمية. ولكن تكون دليل ضعفٍ عندما تتجنب اتخاذ موقفٍ في مواضيع حساسة أو مثيرةٍ للجدل.
وفي الوقت الحالي الذي تقتل فيه اسرائيل المدنيين في غزة في وضح النهار بشتى أنواع الأسلحة دون حياء ودون خوف من المجتمع الدولي، يصعب علينا كعرب ومسلمين ادعاء الحياد هنا وحتى إن ادعينا ذلك مؤقتًا لأسباب سياسية، سنجد أنفسنا منحازين بشكل غير واعي نتيجة للرابط الديني والقومي والإنساني.
إن الترجمة تمثل حقلاً معقدًا حيث تتداخل اللغة مع الثقافة والسياسة والهوية القومية وفي العالم العربي، حيث يكشف تحوير مصطلحات مثل "اليهودي" في ترجمة الأفلام الأمريكية عن تحديات تتعلق بكيفية تقديم الآخر في ظل الصراعات القومية المستمرة. هذه الظاهرة قد تفتح الباب لنقاش عميق حول دور الترجمة في تشكيل الوعي الثقافي والقومي، كما تؤكد على أهمية دور الترجمة في المقاربة بين الحقيقة والحساسية الثقافية.
وفي نهاية المطاف يؤثر الانحياز في الترجمة على الدقة والموضوعية خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا القومية ذات الأبعاد السياسية والثقافية مثل ترجمة المصطلحات اليهودية في سياق القضية العربية الإسرائيلية مما يجعل المترجم يواجه تحديًا كبيرًا لأي انحياز قد يؤثر على تفسير النص وترجمته أو يؤدي الى تحريف المعنى او إلباسه تفسيرًا متحيزًا يعكس وجهات نظر مقصودة.
مصادر تتحدث عن الأفلام المذكورة وعن تأثير المكون اليهودي فيها:
- https://www.vulture.com/2012/08/movie-review-the-campaign.html
- https://thetamnews.org/6093/lifestyles/reviews/the-hangover-part-iii-review/
تغريد
اكتب تعليقك