غالي شكري منتقدًا القصيدة العربية القديمةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 18:03:38

د. رضا عبدالـرحيم

مصر

د. غالى شكري (1935-1998).. باحث صبور، وناقد متميز، وخاصة في كتابيه "المنتمي" و"ثورة المعتزل"، لكن عند انتقاله من دراسة أدب الخانة الفارغة (كما صنفه أرسطو) إلى تناول الشعر العربي القديم اختلج الميزان بين يديه.. فلم يقدر قيمتها؛ فنعى عليها وعلى أربابها، وجرّدها من محاسنها، وسلب عنها جمالها.. بل تورط فى أعجب العجب حين عقد مقارنة غير عادلة بين طويلات العرب وقصائد توماس إليوت!!

وصف الناقد الراحل الدكتور غالى شكري "المُطولات" (القصائد الطويلة) في الشعر العربي القديم على أنه كان من مظاهر الأعجاز أن يكتب الشاعر في بحر واحد، وربما قافية واحدة أكبر عدد ممكن من الأبيات، التي قد تصل إلى المئات والألوف. ولم يكن يهم الشاعر قط في مُطولته إلا الحفاظ على صحة المعيار الموسيقي، وصرامة الشكل الهندسي، أما ما تقوله هذه المُطولات، وطريقها في القول فإنها أشياء لم تخطر على بال الشاعر العربي القديم إلا فى القليل النادر من المُطولات في شيء.

ويجيبنا د. غالى شكري عن الشعر الأوروبي إجابة مغايرة تمامًا، فيقول لنا إن القصيدة الطويلة تركيبة شعرية جديدة لا علاقة لها بعدد الأبيات، وإن طولها مظهر خارجي فحسب، وهو نتيجة لأسباب أكثر عمقًا، تلك الأسباب التي قد تدرك أبعادها فى فن القصيدة الحديثة عند "إليوت".. فقصائده الطويلة لا سبيل أن تستغنى فيها عن مقطع بآخر ولا عن بيت بآخر، وإنما تطول القصيدة "الإليوتية" وفق تركيبها المُعقد الذي يجمع بين الفن التشكيلي والبناء السيمفوني، والتطور الدرامي في عجينة شعرية واحدة1.

بدأت القصيدة العربية "بالمقطعات" يصور العربي ما يعن له من فكرة وما داعب وجدانه من شعور في بيت أو بيتين، وكان مرجع ذلك إلى أعراقه في البداوة، وطوفانه الهائم في الصحراء فلم تكن حياته مستقرة آمنة، وبدأت حياته في الرقابة نوعًا ما، واستقرت نوع استقرار، وبدأت حاسته الفنية تتهيأ للنضج، وملكت في الاكتمال والرسوخ، فانتقل في شعره من مقطعاته المجزأة إلى القصيدة، ثم إلى عم فني كبير تمثل في "المعلقات"2.

والسبع الطوال هي القصائد الطويلة (المعلقات) التي قرضها أمرأ القيس وزهيرًا والنابغة والأعشى ولبيدًا وعمرًا وطرفة، ومن أسمائها (المذهبات) بدعوى أنها كتبت بماء الذهب، ولعل أقدم رواية في ذلك جاءت عند ابن قتيبة في حديثه عن عنترة العبسي، قال: فكان أول ما قال قصيدة: هل غادر الشعراء من متردّم، وهي أجود شعره، وكانوا يسمونها المذهبة. ومهما اختلف النقاد والرواة القدماء في تسميتها أو في كتابتها، فإنهم متفقون على أنها القصائد المختارة الجيدة الصحيحة التي نزلت من نفوسهم منزلاً رفيعًا، فقد أعجبوا بها وأولوها عنايتهم واهتمامهم، لما فيها من جودة وابداع ونضج، إضافة إلى أنها ترسم صورًا صادقة لحياة العرب السياسية والاجتماعية، إذا يتصل بعضها بحوادث كبيرة في الجاهلية كمعلقة زهير ومعلقة الحارث بن حلزة ومعلقة عمرو بن كلثوم، ويتصل بعضها بظاهرة اجتماعية واضحة في حياة العرب الجاهلية3 وهي حياة اللهو والفخر والكرم والفروسية4.

والمستشرق الألماني الكبير "فالتر براون" كان أكثر من د. غالى شكري فهمًا للقصيدة العربية القديمة، حين فسر تعدد الموضوعات في القصيدة لعربية تفسيرًا وجوديًا، وخاصة ما يسمى مقدمة القصيدة. وله في ذلك محاضرة نادرة عنوانها: (الوجودية فى الشعر الجاهلي) ألقاها في القاهرة منتصف الستينيات.. وفى موسوعته الشهيرة عن المستشرقين يشيد د. عبد الرحمن بدوى بالمستشرق الألماني "ألفرت فلهلم" حيث وصفه بأنه من أقدر المتمكنين من اللغة العربية، وأكبر حجة في الشعر الجاهلي، وشعر الرجازين العرب5، وقد حقق "فلهلم" الأصمعيات6 وديوان الشاعر رؤبة بن الحجاج، وألف كتاب (مجموع أشعار العرب) في 3 مجلدات، كما مدحه في مكان آخر بعد ذكره لمؤلفاته وتحقيقاته فقال عنها بأنها تدل على امتلاكه ناصية اللغة العربية فقهًا وأدبًا، وعلى قدرته الفائقة على التحقيق الفيلولوجي الدقيق لنصوص الشعر العربي القديم7. 

للأسف ما ذهب إليه د. غالى شكري تردد على لسان د. شوقي ضيف في كتابه عن العصر الجاهلي8. وقد كان د. طه حسين أعمق فهمًا للقصيدة الجاهلية، حيث رأى أن المُطولة غذاء؛ لأن النفس محتاجة إلى أن تنظر يمنه ويسره، وإلى أن تحزن قليلاً، ثم ترى هذا الحزن جزءًا من عالم قوامه البهجة والحرية التي لا يستبد بها الغرور والثقة المطلقة بعواطف الإنسان. والمُطولة في قراءة د. طه ترتفع على ما هو شخصي أو واقعي أو مادى إلى جو آخر قوامه عواطف الحنين والشوق، وقد ظن كثير من القراء أن الشوق لا يكون إلا مرة واحدة حيث يذكر الشاعر أحباءه الذين مضوا وغفوا عن تعبير السحابة الخفية والأتان والبقرة-  في قصيدة لبيد على سبيل المثال- كل هذا العالم يتحرك ويندفع يسوقه الشوق، لكن شوق سمح يخلو من العنف والقهر، ويحمل بشيء غير قليل من المروءة، ومن خلال هذا التيار المتدفق من الحرية والإسماح يحدثنا د. طه عن الوحدة الباطنية في المُطولة، ولكننا نقرأ القصيدة أجزاء متفرقة ولا نقرؤها مجموعة اكبر من هذه الأجزاء. وأوضح الأشياء في هذه الإشارات أن د. طه يغرينا بأن نلتمس نفسًا مثقفة تعطى أكثر مما تأخذ، وتبحث عن الخصب في داخلها، فالقريحة الخصبة والخيال القوى في المُطولة يعتمدان على هذه السماحة الحرة الوديعة. على هذا النحو جعل لبيد من حياة السحابة والأتان والبقر والناقة مثلاً إنسانية رفيعة بعيدة عن الأثرة والحفيظة والاندفاع المحموم9.

وكان د. مصطفى ناصف أشد من د. طه حسين عمقًا وأكثر ألمعية وقدرة على تأويل القصيدة الجاهلية، حين قال إن الشاعر الجاهلي كان خبا مراوغًا، غلف رؤاه ومواقفه بأستار وحجب صفيقة من الرموز التي لا تشف عما وراءها إلا بجهد جهيد10.

فالقصيدة الجاهلية ببساطة هي صراع محتدم بين الذات وموضوع الساحق لها. وقد تجلى ذلك الصراع الدرامي في القصائد القديمة بصورة تشكل ظاهرة واضحة المعالم. هذا كله غاب تمامًا عن الدكتور غالي شكري الذي لم يدرس القصيدة العربية أصلاً!! لكنه حاول إخضاعها لمعايير النقد الإنجليزي ومقولات صاحب الأرض الخراب.

 

الهوامش:

1 - غالى شكري، شعرنا الحديث إلى أين؟، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2023، ص ص 95-96.

2 - سعد عبدالمقصود ظلام، مدخل إلى النقد الحديث، دار المنار، القاهرة 1989، ص191

3 - الجاهلية مصطلح يطلق على العصر الذي عاش فيه العرب في الجزيرة العربية، وبعض المناطق في العراق والشام، لمدة تراوح 150 عامًا، وتنتهي بظهور الإسلام. (مهند محمد عميره، ثقافة العرب في الجاهلية، دار المعارف، القاهرة 2018، ص 25).

4 - يحيى الجبوري، الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه، جامعة قان يونس، بنغازي، الطبعة السادسة 1993، ص ص 113-119

5 - ظهر إلى جانب القصيدة "الرجز" الذي ينافس القصيدة في الأغراض الشعرية، وتطوير الفن الشعري فكان منه "القواديسي" و"المسمط" و"المخمس" و"المشور" و"المهوك" و"المجزء"(راجع العمدة، ج1، ص ص 178-180)

6 - الأصمعيات صدرت عن دار المعارف، القاهرة 1935 .

7 - محمد عبدالله العامري، موسوعة المستشرقين للدكتور عبدالرحمن بدوى، دراسة نقدية، مجلة الدراسات العربية، كلية دار العلوم، جامعة المنيا 1995، ص 4004.

8 - شوقي ضيف، العصر الجاهلي، دار المعارف المصرية، القاهرة 1960

9 - مصطفى ناصف، اللغة والميلاد الجديد، دار سعاد الصباح، الكويت 1992، ص ص 205-207.

10 - ----------------،المرجع السابق، ص 191-194.


عدد القراء: 4680

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-