هواجس الكتابة وأسئلتها في رواية «ثورة الأيام الأربعة» لعبد الكريم الجويطيالباب: مقالات الكتاب
د. عبد القادر الدحمني روائي وباحث في السرديات (المغرب) |
تنتمي رواية "ثورة الأيام الأربعة" لعبدالكريم الجويطي إلى ما يسمى بالتخييل التاريخي، في حين يمكنها أيضًا أن تصنف ضمن رواية الذاكرة، حسب المرتكز الذي تم الانطلاق منه، ذلك أن الرواية انفتحت على التاريخ ووظفت مادته، في نفس الآن الذي متحت فيه من الذاكرة، واشتغلت بمعطياتها، ولذلك، فإن رواية "ثورة الأيام الأربعة، يمكن اعتبارها تخييلاً "مشتركًا" تُجَاوِرُ فيه الذاكرةُ التاريخَ، وتتآلف معه وتتحالف، ولسنا هنا بصدد التساؤل: أين ينتهي التاريخ وأين تبدأ الذاكرة؟ فهذا موضوع اختلف فيه المؤرخون والنقاد، واعتبروا في المحصلة أن زمن المعاصرة والمعايشة هو زمن ذاكري بامتياز، ويدخل فيه زمن الجيل السابق، باعتبار طراوة الذاكرة المحكية والمتداولة شفهيا، عبر جيل أو جيلين، لم تتعرض فيهما الأحداث لتغيُّر كبير وتحوُّل بنيوي فارق. على أن التاريخ هو تلك الأحداث البعيدة العميقة، التي لا تحيط بها الذاكرة والتداول الشفهي "المتضارب"، وتحتاج إلى مراجع ووثائق وإثباتات.
1 - التعاطي مع التاريخ روائيًا:
يكتب عبد الكريم الجويطي بالتاريخ، ولا يرتهن لولاية ومنطقه، وهو يدرك جيدًا أن الرواية تميل إلى خيانة "الحقيقة التاريخية" لا على سبيل التزييف والتحريف، ولكن على سبيل التشكيك في تلك الحقيقة ذاتها، وزعزعة وثوقيتها، وكشف ملابسات ترسيخها، ذلك أن التاريخ دومًا يكتبه المنتصرون، وينقل وجهة نظر المتغلبين، ولذلك فإن من وظائف الرواية مراجعة التاريخ ونخل مقولاته، وافتحاص أحكامه، وتقويض رؤيته المركزية بتعديد الرؤى وكسر أحادية النظرة، فـ"التاريخ يحتاج إلى مراجعات دائمة وخصوصًا حين يكتبه من ربحوا الحرب"2.
إن التاريخ علم سلطوي في الصميم؛ إذ "يدور حول مقولتين سلطويتين، هما الانتصار والهزيمة، يُنتَج ويُعاد إنتاجه في مؤسسات سلطوية، لا تقتصر في الرقابة حاذِفَةً ما لا تريد ومبرزةً ما تشاء وترغب. وبداهة، فإن ثنائية النصر والهزيمة، وهي سلطوية المنظور والغايات، تُفْضِي، لُزُومًا، إلى تاريخين متعالقَيْنِ متنافِيَيْن، يحدّث أحدهما عن منتصر جدير بنصره ويسرد ثانيهما سيرة مهزوم لا يليق النصر به"3.
وإذا كان التاريخ سلطويًا، فإنه يُكتب، بداهةً، بتوجيه من السلطة وعلى عينها، وتتم رعايته وفق أهدافها، ويتم إحياؤه والتذكير به حسب احتياجاتها، بوصفه مرتكزًا لشرعية، أو مستندًا لادعاء، أو تبريرًا لتوجه أو مُشَرْعِنًا لسياسة. إن "التاريخ أنانيّ أكثر من كائنات هذه الأرض، لأنه لا يأخذ من الحياة بشاعتها وتنوّعها إلا ما يشارك في صنعه: الفرح البئيس لاستبدال شكل سياسي بآخر"4.
يلتقط التاريخ إذا صورتَهُ الخاصة لتأبيدها وإعطاء الشرعية لرؤيتها، لكن تعقُّدَ الواقعة التاريخية لا يمكن أن تحيط به صورة من زاوية واحدة، أو تختزلَهُ لحظةٌ معينة، إنه بمثابة عزف جماعي، تجتمع فيه آلات مختلفة، ولمسات شخصية متباينة لمختلف المشاركين، هذا على المستوى التزامني السانكرونيزي (Synchronique)، ولكنه عزف، يخضع في نفس الآن، للمنطق التعاقبي، الدياكروني (Diachronique): إن الموسيقى لا تعني شيئًا بدون امتداد في الزمن، وهي ليست إلا مدة زمنية، أي تاريخية، صاعدة، تتضمن توزيعًا للصوت في الصمت، مما يعطي للحن معناه، ويفسح له أفق التموج، وفق هندسة الصوت والصمت، ومستويات التقلب بين المقامات والأنواع.
ولذلك تحتاج الإحاطة الوافية بواقعة تاريخية معينة، من أجل فهمها واستيعاب تكوّنها وخلفياته وامتداداته، أن نعيد النظر في مختلف الجوانب المسهمة في صناعة الحدث التاريخي، مهما كانت بسيطة أو هامشية، ونقلب النظر في كل العلاقات والإمكانيات المرتبطة به، ونكشف مناطق الظل، والزوايا المعتمة والروابط المجهولة، والتفسيرات الملفقة، وهذا من صميم عمل الروائي وهو يعود إلى التاريخ، ليبحث عما ينقص الصورة لتكتمل، فـ"الصورة ناقصة نقص آلة تصوير في التقاطها السريع للحظة عن الإحاطة بتشعُّبِ الواقعة التاريخية وتعدد الفاعلين"5.
لقد عادت رواية "ثورة الأيام الأربعة" إلى تقليب ملفات أحداث سنوات الرصاص، خاصة تلك الأحداث التي ارتبطت بمدينة بني ملال ونواحيها، ومنها أحداث 2 مارس 1973، في محاولة لقراءة فشل شرارة ثورة مسلحة، وقراءتها من مختلف الزوايا، من أجل فهم ما جرى، ومنه ضِمْنًا، فهم ما يجري هنا والآن، ولعل هذا هو الحبل السري الذي لا يمكن للرواية التاريخية أو التخييل التاريخي ادعاء الانفكاك عنه.
لقد سعت الرواية إذًا، إلى تجميع مختلف قطع الصورة، والبحث عن "فَهْمٍ ما"، من خلال خريطة الشخوص وبناء السياق وتفاصيل الأحداث، وهو الأمر الذي يصرح به السارد/ البطل زياد السمعلي بوضوح قائلاً: "لا تتاح لنا دومًا من الأحداث الكبيرة ومن الأمكنة ومن الفاعلين فيها إلا القشور، وما يراد لنا أن نعرفه فقط، وما ينفلت أحيانًا في لحظة بوح أو شهادة. ليست الأحداث الكبيرة سوى تحقّق فجائي لآلاف القطع المتداخلة فيما بينها، ولن يتمكن أحد، ومهما أوتي من فضول وعلم وخبرة من جمع بعضها إلى بعض بشكل صحيح"6.
ولا يتطلب التخييل التاريخي بحثًا متشعبًا في مختلف جوانب الواقعة التاريخية فقط، بل إنه يحتاج أساسًا إلى موسوعية معرفية ممتدة، تستعين بمختلف مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية، والخبرة الذاتية، وحساسية الوعي، إضافة إلى فعالية عنصر التخييل في العملية، إن "التخييل التاريخي مؤلَّف بوليفوني يستلزم بحثًا وتوثيقًا معمّقين، تتقاطع فيه السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا وعلم النفس والتاريخ، بشكل كبير وملحوظ"7.
2 - شهادة ذاكرية تقاوم النسيان:
إن "ثورة الأيام الأربعة" لا تدّعي بُعْدَها عن باعث المشاركة في تقديم شهادتها عمّا مضى، فهي إذا شهادة سردية، من زاوية معاصرة الكاتب نفسه لأحداثها إبان طفولته بمدينة بني ملال، وهي شهادة سردية تعبر عن وجهات نظر معاصرة، بمعنى أنها رواية أخرى عما حدث، ولو تزيّت بالطابع السردي ووظفت التخييل وأدوات البناء الفني لجنس أدبي معين هو الرواية، وها هو السارد يقدم وعدا بإكمال تلك الشهادة: "سأجد حتمًا الحيز للعودة لأفكاره هذه، إن قيّض لي أن أنهي هذه الشهادة"8.
إن بعد الرواية الذاكري، يعطي إشارة إلى أنها لم تقوض كلية الوقائع التاريخية، ولم تسع إلى تزييفها أو تحريفها بشكل جذري، وإنما حاولت تقديم شهادة سردية، من زاوية وظيفة الرواية وحقها في طرح الأسئلة على مختلف محطات التاريخ الوطني وتقليب ملفاته وإعادة بنائه سرديًا بغية الفهم، والتحيين، والتنسيب الإنساني الضروري.
غير أن بواعث كتابة الرواية، تتجاوز مجرد النبش في التاريخ ومساءلة حقائقه ووقائعه، إلى ربح رهان الذاكرة بمقاومة سلطة النسيان، وهو ما يضمر صراعًا وجوديًا مع الزمن كذلك، ولعل باعث الذاكرة من البواعث الرئيسة التي أسهمت في إخراج الرواية إلى الوجود، وهو باعث يترجم هاجس الخوف من النسيان، وهو ما يظهر بجلاء ثاويا خلف وعي شخصية السارد البطل المشارك، ولذلك فإنه يؤكد على أن "عظمة الإنسان الحقيقية لا تكمن في تكور ولا علم ولا انتصارات ولا اكتشافات ولا صبر على المكابدات، وإنما في كونه لا ينسى، وهو بعدم نسيانه يضع في حلق الحياة غصة دائمة. كل الكائنات الأخرى تنصرف لحياة أخرى بعد حادث مأساوي، كل الكائنات الأخرى تقوم بداخلها غريزة البقاء بتنظيف مسرح الجريمة بأقصى سرعة ممكنة لتمثل فيه مشاهد جديدة كلية، إلا الإنسان، فهو يقاوم بالتذكّر والدموع والحزن والانتظار والحنين وحتى الجنون، النسيان، لهذا لم يكن في حياة البشرية الطويلة أهم واقوى وأبقى من التاريخ"9.
3 - تأمل فعل الكتابة وهواجسها:
لقد حضرت هواجس الكتابة في الرواية، من خلال تعداد بواعثها المختلفة، والعمل على محاولة تفكيكها، بوصفها عملية مركبة، تشكل فيها الذات الكاتبة بوتقة تنصهر فيها كل الدوافع الخارجية الأخرى، ولذلك انشغلت الرواية بتأمل فعل الكتابة ذاته، وقراءة أبعاده، وتوصيف آليات اشتغاله.
إن رواية "ثورة الأيام الأربعة، وهي تقدم قراءتها لحدث تاريخي بعينه، تحمل ذاكرة الكاتب بعض شظاياه، تقصَّدت استحضار رهانات الكتابة في حد ذاتها، فهي إلى جانب طرح الأسئلة وبناء العوالم السردية التي تستنطق الحدث التاريخي، وتعيد بناءه جماليًا، تفك ارتباطها بالجاهز، والمُكرَّس، والرَّسمي، وتسهم في تأمل مخاطر فعل الكتابة وأبعاده، سواء من خلال تأملات السارد، أو من خلال وصف عملية الكتابة من لدن بعض الشخصيات.
فها هو السارد ينقل إلينا أحوال الكتابة عند جوليا ليتاس، مديرة المدرسة/ الضيعة، قائلاً: "مزّقت السيدة ليتاس مئات الأوراق، وشربت ما لا يحصى من فناجين القهوة، وغيرت لون القلم في كل مرة، وحسنت مزاجها بكؤوس من النبيذ، وغيرت مكان الكتابة، وفرحت وهلّلت لفكرة أو لصياغة، وسرعان ما غمرها شك قاتل في جدوى كل ذلك وعرفت أن الكتابة عراك جدي مع شيء ماكر ومخاتل يطرحك في كل مرة أرضًا، دون أن تتمكن من أن تنال منه للحظة واحدة. إنها مصارعة مع وهم مؤذٍ، وتسابق لاهث مع خيال، وبحث عن إبرة في كومة قش"10.
إنه وصف دقيق لعملية تخلّق التخييل، وما يقاسيه الكاتب وهو يفتل خيوطه ويعاند تعقُّدَّهُ وتشابكه، إذ "في كل مرّة ينبثق تفصيل صغير أو كبير كنت قد نَسيتُه، تولد زاوية نظر وأفكار جديدة إزاء ما يقع، تتراءى أسئلة مبهمة لم أكن قد طرحتها على نفسي من قبل، تنتصب في ذهني الأحداث دومًا كأشجار عارية في خريف بارد، وأعمل بانتشاء عارم أحيانًا، وبحزن ممضّ حينًا آخر، وبالحياد البارد لمن يتفحّص أوراق غريب في غالب الأحيان، على أن أهبها ربيعًا سخيًّا يكسو عريها، وكلما خيل إلي أنني بنيت غابة كاملة ويانعة، واستنفدت ضرع الذاكرة حتى آخر قطرة، حتى آخر تفصيل صغير، تفاجئني بأنها لا تنضب أبدًا، وأنها قادرة في كل مرة ومن دون جهد حقيقي مني، على إخراج ما نسيته أو تناسيته، وإبهاري بمسرب جديد لم أجرّب السير فيه في الغابة"11، إنها ليست سوى غابة السرد التي يضيع فيها الكاتب، ويتيه في دروبها على أمل الخروج بجولة تستحق أن تُحكى، ولذلك فإنها مشوبة بطابع التردد ما بين الرغبة في الإيراد أو التجاهل، بين الهدم والبناء، إنه سؤال عدم الرضى والشك الذي يسم عادة علاقة الكاتب بما يكتب، ولذلك يصرح السارد: "لدي فكرة أتردد في كتابتها، لم تنضج تماما بداخلي"12.
تظل الكتابة إذًا، إضافة إلى مختلف وظائفها الحيوية، حلمًا مطلوبًا، وضروريًا، بل حيويًا، لمواجهة قساوة الحياة وحيرة الوجود، إن بواعث الكتابة تتجاوز مجرد تقديم الشهادة أو مناكفة التاريخ الرسمي، أو مساءلة مسارات الثورات ومآلاتها، إنها تلك الأداة التي تناور بها الذات حيرة وجودها، و"تفعل" في العالم رمزيًا، وهو فعل مقاوم لاشتراطات الوجود، الزمنية بالأساس، إنه حلم التسامي البشري، في محاولة لانتزاع بعضٍ من "إرادة الوجود" من خلال رغبة الامتداد الأنطلوجي في الزمن، والتفلُّت من قبضة التلاشي التي تطارد الإنسان في هذا العالم. إن الإنسان الحامل لجمرة الوعي على الأخص، "لا يمكن أن يتحمّل هذا الموات الظاهر من دون حلم هائل يجعله وهو هامد يجبو الغابات ويرتاد المغارات والكهوف ويعبر السواقي والوديان. سرمد الزاهد مكتفٍ بحلمه ولا يحس بأنه مدعوّ لمحاربة غيلم آخر من أجل مكان أو سلطة أو ممتلكات أو عهد جديد"13.
الهوامش:
1 - روائي مغربي وباحث في السرديات.
2 - الجويطي، عبد الكريم، ثورة الأيام الأربعة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2021، ص: 354.
3 - درّاج، فيصل، الرواية وتأويل التاريخ: نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2004، الدار البيضاء المغرب، ص:82.
4 - الجويطي، عبد الكريم، نفسه، ص: 23.
5 - الجويطي، عبد الكريم، نفسه، ص: 274.
6 - الجويطي، عبدالكريم، نفسه، ص: 318.
7 - عثماني، الميلود، "السلطة في التخييل التاريخي المغربي المكتوب بالفرنسية، زكية حداد نموذجًا"، مقال ضمن كتاب "النص وهوية المعنى"، الكتاب السنوي لأعمال مختبر السرديات، عدد 2، منشورات مختبر السرديات، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2018، مطبعة: force equipementK، ص: 27.
8 - الجويطي، عبد الكريم، نفسه، ص: 369.
9 - الجويطي، عبدالكريم، نفسه، ص: 380.
10 - الجويطي، عبدالكريم، نفسه، ص: 280، 281.
11 - الجويطي، عبدالكريم، نفسه، ص: 25.
12 - الجويطي، عبدالكريم، نفسه، ص: 370.
13 - الجويطي، عبدالكريم، نفسه، ص: 382.
تغريد
اكتب تعليقك