رواية «لم يُصَلِّ عليهم أحد»: إعادة بناء حلب سرديّاالباب: مقالات الكتاب
د. عبد القادر الدحمني روائي وباحث في السرديات (المغرب) |
الكتاب: "لم يصل عليهم أحد"
المؤلف: خالد خليفة
الناشر: هاشيت أنطوان
سنة النشر: 25 أبريل 2019
اللغة: العربية
عدد الصفحات: 424 صفحة
تعد رواية "لم يصلّ عليهم أحد" للسوري خالد خليفة معمارًا إبداعيًا يوشك أن يقترح نفسه ملحمةً سورية وإنسانية بديعة، بما شيّدته من أبنية شكلية مركّبة، وما اجترحته من أفضية جمالية منحوتة بعناية، قدّمت نفسها مرآة لما يعتمل اليوم في الهوية من تمزقات وتداعيات، من خلال الاستناد إلى التاريخ، وقراءته إبداعيا دون الارتهان لسياقاته الخاصة، أو السقوط في أولياته الضاغطة. ومن هنا جاء جاءت محاولتنا الاقتراب من هذا العمل الإبداعي، في محاولة لاستجلاء بعض مظاهر قوته، وأسرار تميّزه، والاشتباك مع بعض قضاياه الجمالية والشكلية والموضوعاتية، والوقوف على خصوصية الرؤية التي شكلت الإطار المرجعي لبناء الرواية في علاقتها بسؤال الوعي بالكتابة، معرّجين على بعض أسس بناء الرواية وخصوصيات عمرانها، وصولاً إلى محاورة بعض الرهانات التي طرحتها.
1 - تصعيد البواعث وفلسفة النوازع:
تتكون رواية "لم يُصَلِّ عليهم أحد" من عشرة فصول، تحمل أغلب عناوينها بصمة تصعيد الفاجعة: (الطوفان- الآثام- قبر وسط حقول الكرز – الطريق الشاق- الجوع- عالم يتداعى..)، وللإمساك بطرف الخيط في اللعبة السردية لهذه الرواية يجب البحث عن البواعث الكُبرى للسلوك البشري الذي طبع شخوص الرواية، سواء في بعده الفردي (الحب- الانتقام- الشهوة- التملّك- الخوف..)، أو في بعده الجماعي (الكوارث الطبيعية: الفيضانات، الزلازل والبراكين، الجفاف...- الحروب والمجازر- المجاعات الكبرى الناتجة عن النهب والتهجير..).
وقد ذهب خالد خليفة بتلك البواعث إلى أقصاها في سلم تصعيدي بلا حدود، جَعَلَ النفوس البشرية تصل أقصى عُلِوّها وغُلُوّها وتسلّطها، أو تنهار حتى تصل إلى حضيض الضعف والذل والهوان، هكذا يتم تصعيد باعث الشهوة والملذات إلى أقصاه، ليتجاوز مجرد نزوع إلى الملذات أو الرغبات العابرة، ليصبح فلسفة قائمة بذاتها تمجّد اللذة ولا ترى العالم إلا من خلالها، من خلال قصة بناء حنا كريكوس وزكريا البيازيدي لقلعة اللذة التي صمّمها لهما المهندس عازار إستنبولي بمواصفات جنونية بالغة التطرف في الخيال المشرع، بعد أن صمم بداخلها منصة للمنتحرين الخاسرين في القمار بعد ليالي اللذة والنساء والخمور، وخصص مرافق لصنع عملة نقدية فضية خاصة بقلعة اللذة تمجّدها أثرا من مآثر المجد في أقصى جنوح اللهو والانتشاء، إنه استدعاء دنيوي للجنّة، وتطاول بشري يطمح بشكل ضمني إلى تعجيل النعيم بالشروط "الطينية" الممكنة.
كما تم تصعيد باعث التملّك ليصير حبًّا جنونيًا للسيطرة والتولّه بالسلطة، وهو ما تجلّى في عائلة الخضر الزاحفة على أراضي الغير بالقوة، كما تجلّى هذا الأمر في الضابط التركي حكمت ضاشوالي في محاولة تطويعه لعائشة المفتي والزواج بها ضدا على أبيها وحبيبها، والسعي إلى قتلها انتقامًا من هروبها مع عشيقها فيما بعد. وقد امتدّ حبّ السلطة أيضًا ليلبس لبوسًا دينيًا واضحًا هذه المرة، سواء مع شخصية الداعية أمينة، عمّة زكريا وسعاد البيازيدي، أو مع شخصية شيخها أبي الهدى الصيّادي، وهما الشخصيتان اللذان كانا في خدمة السلطة العثمانية القائمة، ولا يخفيان طموحهما السياسي، وحبّهما للرئاسة والزعامة وكثرة الأتباع والأمر المطاع، وهو ما جعلهما يتملّقان للسلطة بقمع المخالفين وتكفيرهم، والسعي إلى فرض تصوراتهم بالإكراه والعنف. كما تجلّى حب التسلّط أيضًا في الراهبة ماريانا التي سعت إلى صناعة "قدّيس" تتبوأ بفضله مكانة مرموقة تتجاوز بها عقدة الإهمال والفقر الماضية، وتبسط سيطرتها على شؤون الكنيسة الجديدة وتطمح في المزيد من النفود والسلطة، وما يرافق هذا المسار الطويل من انتهازية وتذلّل وخنوع، في مقابل القسوة والهيمنة والتوحّش بعد التمكّن والسيطرة.
وقد حدث نفس الأمر مع باعث الحب، بوصفه محرّكًا قويًا في الأحداث داخل الرواية، إذ تم تصعيد فعاليته ليقلب الأحداث ويشكل عنصر انعطاف حاد للمسارات السردية لدى العديد من شخوص الرواية، ولعل شخصية صالح العزيزي أبلغ مثال على هذا التحول الدرامي المثير، يقول السارد على لسان بطل الرواية حنا كريكوس: "فكّرتُ في صالح العزيزي، ولحاقه بحكمت ضاشوالي وقتله، حكايته لم تتركني، كنت معجبًا بشغفه، لقد انتقم لنا، أفكّر بقوّة الحب حين تحوّل الكائن من خادم إلى شاعر جوّال زاهد، ثمّ إلى واشٍ، ثمّ إلى قاتل، ثم إلى منتحِر، ثم إلى إمام العاشقين"2.
ولعلّ الأمر نفسه انتهجه الكاتب مع باعث الخوف، إذ تم تصعيده إلى درجة تجعله موضوع تأمل فلسفي، ومأزق وجودي، بجعله يخالط الوعي والرؤية، بل يصير مرضًا وفوبيًا عميقة كما حدث لإحدى الزوجات اليهوديات، إذ صارت ترتعب من الفقر والجوع، وتعيش اضطرابا فظيعا في علاقتها بالطعام والمال، بسبب نجاتها من تجربة مرعبة مع المجاعة التي ضربت حلب.
2 - ملحمة الرواية وسلطة المُفتَتَح:
تبدأ رواية "لم يُصَلِّ عليهم أحد" بداية ملحمية واضحة تنبئ منذ الجملة الأولى أننا بإزاء أحداث جسام، وتراجيديا كبرى في الانتظار: "كانت قرية حوش حنّا صامتة تمامًا حين هبّت العاصفة، وحدث الطوفان العظيم"3، ويحوز المُفتتح الروائي قيمة كبرى في أغلب السرديات التي انتزعت الاعتراف بتميّزها وكونيّتها، ولذلك، تعد من الركائز الأساسية في جذب اهتمام القارئ وإثارة تساؤلاته، واستمالة فضوله، والزجّ به في لعبة التخييل المحبوكة.
لقد عمل خالد خليفة على افتتاح روايته بحدث الطوفان العظيم، لأن أثره مفصلي في تبدل خط سير الحبكة، نتيجة الأثر البالغ الذي تركه في نفوس من عاشوا لحظته المرعبة، فنجوا بأعجوبة أو فقدوا أحبتهم وأقاربهم، وعلى رأسهم حنّا كريكوس الذي فقد زوجته جوزفين وابنه كابرييل.
وإذا كانت الرواية تبدأ بحدث الطوفان الذي ضرب قرية حوش حنا التي كان البطلان الرئيسيان حنا كريكوس وزكريا البيازيدي يقيمان فيها، بسرد استرجاعي يحاول أن يبث بعض تفاصيل المأساة، وما سكن أفئدة الناجين من شجون وأحزان وما أصاب نفوسهم من تصدّع وانكسار، وقيمهم من تداعٍ وانهيار، وما علق في أذهانهم من صور أليمة ومشاهد فجائعية، فإن الخط الزمني سرعان ما يتعرّج راجعا القهقرى، في استرجاع أعمق في التاريخ، حين يتذكّر زكريا قصة زواجه بِشاها، ويسترجع حنا قصة زواجه بجوزفين، وقصة بناء قلعة اللذة في حوش حنا، واستقدام "شمس الصباح" لتصبح سيدة القلعة ومدبّرتها المحنّكة، وهكذا داخل كل استرجاع نجد استرجاعا آخر، في دوائر زمنية متداخلة، تصل إلى حدود الطفولة البعيدة، إلى مشهد سحل أب حنّا كريكوس في شوارع حلب، على هامش مجزرة ماردين سنة 1876، حيث تمت تصفية عائلته بكاملها من طرف العثمانيين، على إثر انتقام سببته قضية شرف، لينجو حنّا وحيدا ويهرّبه أحمد البيازيدي والد زكريا ليربّيه مع أبنائه المسلمين، في صورة تسامح وتضامن وتعايش شكلت على الدوام حبل الأمل الذي ظل قائمًا رغم كل الصدامات العنيفة وصراعات الإلغاء المتبادل التي كانت تتحول إلى مجازر ومخططات تهجير وإبادة.
لقد حاولت الرواية أن تؤطّر ما حدث في حلب منذ نهاية القرن الثامن عشر، إلى حدود منتصف القرن العشرين، وهو ما تغطيه أحداثها واسترجاعاتها المختلفة، كما تفصح عنه التواريخ التي ذيّلت الفصول، باعتبارها أوراقا خلّفها جنيد خليفة، أحد شخوص الرواية، مضافا إليها تأملات واعترافات حنا كريكوس بعد أن أصبح راهبًا وأسس ديرًا مسيحيًا في قريته حوش حنا، على أنقاض كنيسة أثرية قديمة عثر عليها في نوبة يقين جعلته يحفر تصديقًا لرؤية، واستئناسًا بنبوءة راهب كان يثق في دراساته العميقة وقوة إيمانه (ابراهيم الحوراني)، وهي التواريخ التي تم ذكرها مرفوقة بأمكنة الكتابة في العناوين الفرعية لفصول الرواية كالآتي: (ماردين – حلب 1881/ حلب 1903/ حوش حنّا - حلب – كانون الثاني 1907/ حلب – دير زهر الرمان – 1908/ دير زهر الرمان – 1923/ حلب – دير زهر الرمان – 1948/ حلب – 1951/ دير زهر الرمان – حوش حنا – 1951).
لقد شكّل الطوفان رمزا لمنعطف شامل، انطلق مع بكونه كارثة طبيعية عادية لم تجرف البيوت وأهلها والزرائب وحيواناتها، والأغراس وثمارها، فحسب، ولكنها جرفت معها ماضي أشخاص، بدا وكأن الطوفان غسل أدرانهم، وجدّد وعيهم بأنفسهم، وأنار لهم دروبًا جديدة، وغيّر وجهات قلوبهم ومسارات حيواتهم، ومن ذلك ما طال حياة حنا كريكوس من تغيّر وأحواله من تبدّل، ولذلك فقد "رُوِيتْ سيرتُهُ كرجل مولع بالقمار والنساء، وتحوُّلِه بعد الطوفان العظيم إلى قدّيس، والقصص التي ألّفها أعداؤه قبل سنوات عن تهتُّكِه وجدت رواةً مَهَرَة يعيدون تركيبها باستخدام خيالهم، لتصبح قصصًا توحي بحقارة ماضي الذي عاقبه الربّ بالطّوفان، لكنّه منحه الرؤيا ليخرج من الخطيئة الكبرى إلى القداسة"4.
إن الطوفان مفهوم مفصلي فيما وقع للشخوص من تغيّرات داخلية ومنعطفات فكرية ونفسية واجتماعية، ورغم حضور رمزيته الدينية بوصفه عقابًا إلهيا صرفًا كما ذهب إلى ذلك العديد من الناس في الرواية، فإنه يبقى تمظهرًا ماديًا ذا أبعاد فوق بشرية قاهرة، يسهم في خلخلة المنظومات القيمية والأنساق الفكرية السابقة، ولذلك فقد زعزع ثقة حنّا في الأشياء، وجدد نظرته إلى الحياة، "شعر حنّا بأن الطوفان لم يغرق زوجته وابنه فقط، لكنّه أغرق ماضيه المتهتّك، الصاخب، حياته الكاملة، انبثقت في داخله رغبة قديمة في حياة جديدة"5.
ويمكن الحديث من هذه الزاوية عن دور الكوارث الطبيعية في تطوّر الحبكة: الطوفان، الزلزال، كما يمكن ربط هذه الوقائع بوصفها أحداثًا كبرى، بالحروب والمذابح، والمجاعات التي تليها.
وإذا كان الكاتب قد عمل على تصعيد البواعث، و"مَلْحَمَةِ" الأحداث انطلاقا من المُفْتَتَح الروائي، فإنه ظل وفيًّا لهذا التوجّه وهو يختم الرواية كذلك، إذ جاءت "قَفْلَتَها" موشومة بهذا البعد الدرامي التصعيدي، الذي يتجاوز مجرّد الرغبة في التأزيم والنزوع نحو الأجواء التراجيدية، إلى ما يشبه شرعنة تلك التراجيديا والتعامل معها بوصفها مصائر طبيعية، بل مرجوّة أحيانا، وهو ما يفيد نوعا من جمالية التأزيم، الذي يروم نوعا من المصالحة مع الانهيار والفجيعة، وتجميل الموت، بجعله ملاذا يحمل طابع الخلاص والحل الوجودي، على الأقل نكاية في الخوف والانتظار القاتل لزمن حضوره، ولذلك انتهت الرواية بطابع ملحمي، تجسّد في مشهد اختفاء الراهب كريكوس حنّا، وقدوم آلاف الناس "ينزلون من الباصات والسيارات التي ملأت المكان، ويتّجهون نحو ضفّة النهر، كأنّ مدينة ما انبثقت من جديد، عشرات الشباب يغوصون في المياه الباردة يبحثون عن حنّا الذي اختفى في الأعماق التي سار إليها قبل الفجر بقليل، كان القمر مكتملاً يسطع على صفحة النهر الهادئ، لم يتمهّل طويلاً، غاص في أعماق النهر، هناك كان ابنه كابرييل وجوزفين وابن زكريا والخوري وخطيب إيفون وأبوه صاحب المطحنة وباقي الغرقى ينهضون من موتهم مرحين، اصطحبوه من يده إلى ملكوتهم حيث الحياة هناك طريّة والأسماك لا تموت"6.
3 - مادّة الرواية وعمرانها:
من الواضح أن خبرة خالد خليفة السينمائية، بوصفه كاتب سيناريو متمرّس، انعكست بوضوح على كتابة الرواية، بحيث برزت تقنية الكتابة بالمشاهد والصور والاستعانة ببعض التقنيات السينمائية في عرض الأحداث، كتوظيف المونتاج، وتوضيب المشاهد في استعادات متكررة للمشهد نفسه بتفاصيل أوسع وإضاءات مختلفة في كل استرجاع، كما حضر النَّفَس الدرامي بقوة في خلق التشويق وتصعيد المأساة بنَفَس وجودي تراجيدي: انقلاب حنا من رجل متهتّك إلى قدّيس زاهد لم يعد يغريه التملّك والتطاول في البنيان، وكذا التحوّل العجائبي لشخصية صالح البيازيدي بسبب حبه الجارف لعائشة المفتي، إلى "إمام للعاشقين" قبل انتحاره، ثم الصيغة الغرائبية التي انتهت بها الرواية بانتحار حنا وفقدانه على ضفاف نهر الفرات، في مشهد يذكّرنا بتيار الواقعية السحرية التي عرفتها رواية أمريكا اللاتينية، حيث تتحوّل الفجيعة إلى شيء مألوف، ويتجاوز التصعيد حدود العقل وضوابط العالم المادي.
ولعلّ المراس اللغوي والذائقة الشعرية للروائي جعلت أسلوب الرواية أكثر جاذبية، وأسرع إلى الوجدان وأيسر تلقيًا، بتجنّبه الإيغال في المجازات والاستعارات، واعتماده الجمل السردية القصيرة، واللغة الرشيقة الخالية من ثقل المحسنات البلاغية وكثرة الرموز والإيحاءات.
غير أنّ ما أعطى الرواية بعدًا إنسانيًا واسعًا، هو ذلك التكثيف الذي ميّز بعض عباراتها، وهي تحاول تلخيص ما حدث، أو صياغة حِكَم ومقولات، توظّف السياق وتتعالى عليه في نفس الآن، بإنتاجها خطابًا تجريديًا يستخلص الحكمة، وينزح بالكتابة نحو التشذير: "لن تشعر بقوة الضعف إلا حين تهوي إلى الحضيض"7، "الطفولة تبتعد لكنّها لا تغادرنا"8، "كل الناس لديهم فائض خيال يجب استثماره في صناعة الجمال"9.
إنّ سعي الرواية إلى رصد مطامع الإمبراطوريات والأجناس المختلفة في حلب (الأتراك، الإنجليز، الإيطاليون، الفرنسيون)، لم يكن إلا تأطيرًا سياقيًا، لزمن وقوع أحداث الرواية، وهو سياق رصد مجمل التحوّلات الكبرى والمخاضات المختلفة التي وصل صداها إلى حلب، واعتملت في بناها الفكرية والسياسية والدينية بشكل واضح، ومن ذلك، الصراع بين الانفتاح والمحافظة، وبين النزوعات الماضوية وبين حركات التحرر من الأنساق القديمة، وهو ما هدّد التماسك الاجتماعي، وترك تصدّعات غائرة في المجتمع كما في البنيات الفكرية والثقافية للتيارات والأعراق والطوائف المتصارعة، كما فكّك المهاد النفسي والاجتماعي لذلك التعايش الإنساني النموذجي الذي ساد في أغلب فترات التاريخ الحلبي.
وإذا كانت الرواية قد زرعت فتيل المتناقضات داخل شخوصها، وصعّدت نوازع الحب والشهوة والانتقام ورغبة التملّك إلى أقصاها، فإنها في المقابل، وضعت جسورا، واقترحت نوافذ وأبوابا للإغاثة، ظلّت دوما مشرعة للخروج من حدّية التناقض التقابلي، إلى سعة الاختلاف التكاملي، من زاوية الحب حين يطأ الأعراف والحواجز الاجتماعية والدينية، كما من زاوية الموت الذي يتساوى أمامه الجميع (الزلزال، الطوفان، المجاعة، الأوبئة)، وهو ما يمكننا بسطه كالآتي:
- الحب جسر لترسيخ التعايش والتماسك الاجتماعي:
يمكن اعتبار الحب من أهم الجسور التي ظلّت قائمة للتواصل والتعايش في الرواية بين مختلف الطوائف والأعراق والأديان، إذ نجد أن حنّا المسيحي أحبّ سعادًا المسلمة، رغم أن حبّه لها كان ضحية أخوة قبلية استطاع حنّا أن يقدّمها على حبّه، لأنه تربّى في بيتهم، وكان دومًا يعتبرها أختًا له، أما عائشة المفتي المسلمة فقد أغرمت بوليم ميشيل عيسى المسيحي، وكانت مستعدة لفعل أي شيء في سبيل الفوز به والعيش معه، وهو ما كانت نهايته مأساوية بقتلهما معًا أثناء هروبهما، لكنّ قبرهما الذي حفره زكريا في ضيعة حنا كريكوس ظل شاهدًا على تلك اللُّحمة الإنسانية الجامعة التي تتخطّى كل المعيقات، وقد صوّر لنا السارد تلك العلاقة الغرامية المعقّدة التي ربطت مريم الأرمينية بوليم المصوّر العاشق، حين يكتفي العاشقان بأمور رمزية تغنيهما عن كل ما ينتظره العشاق من بعضهم البعض، حيث يتسامى الحب ليصير عذريًا تجريديًا، يستعيض عن الوجود المادي للمحبوب، بمجرّد أثر أو طيف أو رسائل أو حتى مناديل وصور، يتم تجميعها كأوراق حياة ونبضات عشق.
ورغم حضور الجسد بشكل واضح في تسريد الحب، إلا أن الحضور الشبقي الإيروتيكي كان ضئيلاً، رغم الحديث عن الليالي الحمراء وكثرة بنات الليل، إذ يكفي الإشارة إلى ترك "شمس الصباح" بكرا لسنوات عديدة، والاكتفاء منها بضمّة حنان أمومي، للدلالة على ما تريد قوله الرواية، من أن هناك ما هو أبعد من تلك اللذة الجسدية السريعة، وأن الأبقى هي المشاعر، والأَدْوَم هو الحب حين يصير رمزا، وسلطة مقاومة لِلَأْواء الحياة، وعنف الظروف، وتبدّل الأحوال، وحده الحبُّ سلاحٌ لا يخذلُ صاحبَه.
- الدين المعتدل السمح بساط المحبة الجامعة:
لقد قام الدين العميق والمعتدل بأدوار حاسمة في التأسيس لقاعدة صلبة استندت إليها فكرة التعايش، ذلك أن الدين الحق منبع للحكمة والاتزان إن وجد فقهًا راشدًا، وقلوبًا كبيرة تخلّصت من النوازع النفسية الضيّقة، واسْتَعْلَتْ على المطامع الدنيوية وحب السلطة، ويمكن الحديث عن شخصية أحمد البيازيدي نموذجًا، حيث أخذ صبيًا مسيحيًا صغيرًا ورباه مع أبنائه المسلمين دون أن يفرض عليه الإسلام، بل إنه حافظ على ثروته وسعى إلى تجميعها وتنميتها وحمياتها حتى يكبر الولد، الذي صار هو الراهب حنا كريكوس بطل الرواية، كما لعب الراهب إبراهيم الحوارني دورًا كبيرًا في ترشيد الفكر اللاهوتي، وربطه بالجدوى على الأرض، من خلال توجيهه لحنا كريكوس وبعده عن التجاذبات السياسية وعملية شراء الولاءات التي كانت تطال الرموز الدينية.
ومن صور التعايش اللامعة أيضًا، ذلك التضامن بين الأصدقاء الخمسة على اختلاف أديانهم وطوائفهم، تجمعهم الهوية الحلبية والإنسانية، تضمُّهُم طفولة متحابّة في مروج حلب وضيعاتها، وضفاف نهر الفرات وأشجاره المتنوعة، ومن تلك الصور صداقة حنّا وزكريا التي لم تغيّرها الأحداث ولا أثَّرَتْ فيها الأحوال، وذلك التبادل العجيب لأدوار التربية والاحتضان والرعاية، بين المسلمين والمسيحيين، إذ استضافت الكنيسة أطفالاً مسلمين وأرمن وربّتهم تمامًا كما فعل أحمد البيازيدي مع حنّا المسلم، هكذا يسرد لنا الروائي مشهدًا عجيبا لأطفال يدرسون أديان بلادهم بدون مواقف مسبقة أو تمثلات إلغائية معيقة: "بعد خمس سنوات كان وليم وعائشة يقرآن القرآن ببساطة كأي نص، يحفظان سورًا كاملة من القرآن والإنجيل"10، ومن صور ذلك التعايش التي تبقى راسخة في ذهن قارئ الرواية، صداقة الخادمتين، مارغو المسيحية وأم الخير المسلمة، تلك الصداقة الراقية التي جعلت إحداهما خادمة للأخرى وممرضة لها في أواخر حياتها، بل تقرأ لها من كتابها المقدس إن عجزت هي عن ذلك، كما أن من صور ذلك التعايش الحضاري الفريد فتح حنا الدير للصلاة على أموات المسلمين والسماح بدفنهم في حوزته، وأختم بصورة إنسانية بليغة عن هذا التعايش، وهي تصوّر لحظات وداع سعاد المسلمة لصديقها اليهودي الذي توفّي: "جلست في الصالون تنتظر إتمام خروج جثمانه لتسير وراءه، شعرت بغربة وسط المشيّعين، كان أبناء ديفيد وسارة يتحرّكون بسرعة، رتّبوا مراسم الدفن. شعرت بأنّها كائن زائد في المكان، خرجت من المنزل، انتظرت الجنازة في شرفة منزل سارة القريب، كانت مصمّمة على أن تلوّح لتابوته حين يخرج، لقد فقدت قطعة من روحها"11.
- الموت فوق الدين والإيديولوجيا:
إن من أخطر اللحظات التي يبرز فيها البعد الإنساني، وتختفي خلالها الأحقاد الإيديولوجة ويتم التخلي عن التمترس الديني، لحظات مداهمة الموت الجماعي وحلول الخطر العام، ومن ذلك، الكوارث الطبيعية التي ضربت حلب مثلاً، وهو ما أظهر المعدن الأصيل للمطران باسيلوس، الذي كان رجلاً خنوعًا وماكرًا وحريصًا على النفود، لكنّ حلول المجاعة أبرز أرومتَهُ الطّيبة، إذ قام "بعمل عظيم، فتح مستودعات الكنيسة، باع الأيقونات الثمينة، ورهن بعضها، ليطعم أهل مدينته، أفلست الكنيسة ولم يبق لديها ما تبيعه، تركها المطران وذهب في جولة ليشجّع أتباعه الأغنياء على فتح مخازنهم أمام الفقراء"12.
ففي زمن يعمّ فيه الموت جوعًا، وتنتشر الأوبئة والسرقة والشحاذة، يتحلّل فيه كل شيء وينهار، يبدو الفناء أقرب إلى التحقق نتيجة ارتفاع أعداد الموتى وغياب سبل الإنقاذ والعلاج والتدخل، ف"ها هو الموت يسير بقدمين حافيتين، يدبّ على الأرض قربي ويحصد آلاف الأرواح، يتسرّب من شقوق الأبواب، لا أحد يوقف طوفانه، تطوّعت مجموعات بشريّة لدفن الجثث المتروكة في الشوارع والبيوت المهجورة، لكنّهم لم يستطيعوا إكمال مهامّهم. من يستطيع دفن مدينة ميّتة؟"13، ولذلك استقدم حنّا كريكوس ما استطاع من الأطفال لينهبوا أثاث بيته من أجل بيعه وإنقاذ أنفسهم من الموت جوعًا، أولئك الأطفال الذين صوّرهم بشكل مؤلم قائلاً: "اعترضت طريقنا مجموعة كبيرة من الأطفال يبكون معًا كأنهم أوركسترا تعزف لحنا حزينًا، أمهاتهم قربهم، يمدّون أيديهنّ لمارّة لا يكترثون"14.
على سبيل الختم
لقد عمل خالد خليفة على بناء صرح روائي متماسك، بناه بلغة متينة رشيقة، لغة شفيفة أقرب إلى القلب، بجملها القاصرة كجرعات شراب محبوب، تخلّصت من الزوائد والأثقال، ولم تحرص على كثرة المساحيق والألوان، وهو ما أنتج عمران روائي مفعم بالجمال، ومحكم المفاصل والمنعطفات والجسور والدروب، بوعي زمني حاد، وإحكام للعبة الضمائر، وتجذير لأسئلة الشخوص الخاصة وعوالمهم النفسية المختلفة. كما اتسمت الرواية بجمالية عبقرية وهي تشرع الباب لتشغيل فعالية التخييل والذهاب به إلى أقصاه، في محاولة لاستبطان ما يعيشه الإنسان من تمزّقات، وما يعذّبه من تناقضات ويطمح إليه من رهانات، وهي الفعالية التي أطّرها بتوظيف براغماتي وسلس للمعرفة التاريخية، وأفرغ فيها بعمق أسئلته المعاصرة، دون أن يشتطّ في تحميل التاريخ ما لا يطيقه، مكتفيا بسبر أغوار المناطق المعتمة من تاريخ حلب، في سبيل إضاءة ليلها المعاصر، بحثا عن مشاعل أمل يمكن استلهام زيتها من تاريخ التعايش والقيم الإنسانية الجامعة، بعد تشريح مفاصل ذلك التاريخ وتعريض عفوناته للتهوية، وعلاجها بإبراز الحقائق المغيّبة والوقوف على ما جرى، بنيّة الشفاء مما جرى.
إنها رواية الحب والحيرة والألم: الحب الحلبي الضارب في عمق التاريخ، والحيرة الوجودية التي أنتجت الفن والثقافة والكتب والكثير من الحكايات، والألم، ذلك الوجع المتسرّب في شرايين التاريخ الحلبي، المفسد لمذاق الحياة، والمسمّم للهواء، عندما تتضخم أورامه، وتنعشه النفوس الخالية من الحب.
الهوامش والإحالات
1 - روائي وباحث في السرديات (المغرب).
2 - خليفة، خالد، لم يصلّ عليهم أحد، رواية، نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان للنشر، بيروت، لبنان، ص: 2019، ص: 212.
3 - نفسه، ص: 5.
4 - خليفة، خالد، لم يصلّ عليهم أحد، ص: 190.
5 - نفسه، ص: 14.
6 - خليفة، خالد، لم يصلّ عليهم أحد، ص: 344.
7 - خليفة، خالد، لم يصلّ عليهم أحد، ص: 14.
8 - نفسه، ص: 223.
9 - نفسه، ص: 331.
10 - خليفة، خالد، لم يصلّ عليهم أحد، ص: 225.
11 - خليفة، خالد، لم يصلّ عليهم أحد، ص: 331.
12 - نفسه، ص: 220.
13 - نفسه، ص: 218.
14 - نفسه، ص: 217.
تغريد
اكتب تعليقك