سياطُ الجوعِ في ديوان «فراغات الوحشة» الباب: مقالات الكتاب
د. عبده منصور المحمودي شاعر وناقد أكاديمي يمني |
الكتاب: «فراغات الوحشة» ديوان شعر
المؤلف: فخر العزب
الناشر: دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر
سنة النشر: 2022
عدد الصفحات: 298 صفحة
صدرَ للشاعر اليمني، فخر العزب ديوانُهُ "فراغات الوحشة"، عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر، في القاهرة 2022م، (298 صفحة). وقد زخرتْ نصوصُه بالألم الوجداني، الذي تعدّدتْ بواعثُهُ في حياة الذات الشاعرة، بخصائص هذه الحياة التي تشكّلتْ بها مساراتُ الشعريةِ من هذا العمل. حيثُ تتمَثَّلُ أبرزُ هذه الخصائص في غربة الذاتِ، المُنْسَحِقةِ بمأساة الجوعِ المتوالدِ من عواملِ فقرٍ مُدْقِع.
اغترابُ الذاتِ الشاعرة
يُشكّلُ هذا النوعُ الاغترابي تيمةً مركزيةً في هذا العمل، حيث تَكَاثَفَ حضورُه مركزيًّا في نَسَقِ العنونة، انطلاقًا من العنونةِ العامة الخارجية "فراغات الوحشة"، ثم توزيعًا لهذه الدلالة المركزية، على نصوص الديوان كلها؛ حيثُ كان كُلُّ نصٍّ منها معنونًا بواحدٍ من فراغات "الوحشة"ـ هذه ـ على صورة قوسين كبيرينـ ( )ـ لا شيء في المسافة الواسعة بينهما؛ فهي فارغةٌ حتى من علامةِ الترقيم الدالةِ على الحذف بنقاطها الثلاث "...".
وبهذه الصورة من العنونةـ التي شملت نصوص العمل كلهاـ تجانست العتبات الداخلية الفارغة تجانسًا تفصيليًّا مع الفضاء الدلالي الذي أوجَزَتْهُ العتبةُ الخارجية؛ حيث كان كلُّ نصٍّ تفصيلًا من تفاصيلها الإحالية.
وقد تبلورت هذه المركزيةُ الاغترابية في نمطٍ حياتيٍّ يعيشُ فيه المصابُ بالغربةِ النفسيةِ وحيدًا غيرَ متشاركٍ مع مَنْ حَوْلَهُ أيّ تفصيلٍ من تفاصيلِ المحيط الذي يتشاركون معه جغرافيتَه وصِلاتِه الإنسانية. حيثُ ظهرت مركزيةُ الاغتراب النفسي في مساحةٍ شاسعةٍ من العمل، استهلالًا من إهدائه للفراغ المعادل لهذه الصورة الاغترابية:
"إلى الـ لا أحدْ
وحْدَهُ مَنْ بقيَ معي في مواجهةِ الوحشة"، ص: (7).
وفي سياق تكرارِ هذه الصورةِ يأتي شمولُها لحياةِ الشخصيةِ الاغترابية، بمراحلها الثلاث:
"أنا يا رفاقي خُلِقْتُ وحيدًا
وعشتُ وحيدًا
وفي كل يوم أموت وحيدًا"، ص: (14).
حيث يظهرُـ هناـ مستوىً عالٍ من الإحالةِ على الإحباطِ وعلى قتامة الحياة؛ فقد استغرقتْ هذه الوحدةُ النفسيةُ حياةَ الشخص من بدايتها حتى نهايتها: وحيد الميلاد، وحيد المعيشة، وحيد الممات. كما كانت مرحلة المعيشة ـ من هذه المراحل ـ هي الأكثر تمثيلًا لمعـــطــــيــــات الاغــتــراب النفسي:
"وفـــــــــــوق ترابِ بلادي اليتيمةِ
أحيا وحيدًا
ومن حول قلبيَ
ما من أحد
أكابد قهر الحياة
وأمضي
كسيفٍ وحيد"، ص: 78
إن حياة الاغتراب الذاتي القاسية -هنا- تأتي ضمنَ جغرافيةٍ تنتمي إليها الذات الاغترابية (بلادي)، بصفتها المستمدة من أقسى حالٍ وجدانية بائسة (حال اليُتْم)، التي تُكابدُ قهرَ المعيشةِ بقلبٍ معزولٍ، كما تعترك مع من يتَكَتَّلونَ ضدها "صار الكل ضدي"، ص: (21)، حالٌ تخوض معركتها وحيدةً (كسيفٍ وحيدٍ)، وفي التشبيه بحال السيف ـ هناـ استثمارٌ لصورةٍ حاضرةٍ في نسق الشعرية العربية منذ القدم امتدادًا إلى اللحظة المعاصرة.
القصيدةُ بين أنياب الجوع
كانت مُتلازمةُ الفقر والجوع من أهم متغيرات الحياة الفاعلة في تشكيل الغربة النفسية التي قام عليها هذا العمل الشعري؛ حيث عمَّ الجوعُ شتى الفئات الاجتماعية، التي تنتمي إليها شخصيةُ الاغتراب الوجداني:
"وإنه قد عمَّ كل الكادحين،
العاملين، العاطلين،
الحالمين، الرافضين،
الباسمين، العابسين"، ص: (189).
وعلى استشراءِ ضررِ مُتلازِمَة الفقر والجوعِ، ترتبت حالٌ أسمَى للطعام؛ حينما تَمَوْضَعَ في خانةِ الأشياء النفيسة التي لا تُنال بسهولة:
"أعرفُ جائعًا
جعل من بطنهِ متحفًا
ـ ينافس متحف اللوفرـ
يعرض فيه قطعًا أثريةً جدًا
تسمى الطعام"، ص: (203).
حيثُ جسدت هذه الصورة الشعرية المــــســتـــــوى المـــــأســــــــاوي الذي وصَلَتْ إليه كارثيةُ الجوع الفاتكةُ بالناس والحياة؛ فَـــمَــنْ ظــفــرت أحشاؤه بطعامٍ يسير، تنتابه مشاعرُ الفوز بأمرٍ ذي قيمةٍ عاليةٍ متساويةٍ مــــــــع القيمةِ الحضارية
المرتبطة بمقتنيات أشهر المتاحف العالمية. وفي هذا التراتب المتعالي ـ فيما يسد القليل من حاجة القوت ـ تتمظهرُ فاعليةُ الجوعِ، في نَسْجِ علاقةِ البؤسِ بين اغتراب الذات الشاعرة وبين الحياة المحيطة بها:
"أنا "جائعٌ"
وإن كان هذا ـ كما تقولين ـ شعرًا
فأنا أغازل فيه كِسْرَةَ الخبز
وأبعث مشاعر الحنين لعملة النقود
تلك التي فارقت جيبي منذ زمن
وجعلتني أدرك مرارة الفراق"، ص: (182).
يُخاطب الشاعر ـ هنا ـ فتاةً لا تزال تُجِلُّ الشعر، لذلك يصحِّحُ لها الفكرة التي يمكن أن تتبلور في ذهنها من تأويلها لتيمة الجوع في شعره تأويلًا ينحو منحى الحاجة إلى الحب، فيؤكّد على أن شعره يتضمن تيمة الجوع بجوهرها البشري الذي يُصادرُ وجدانيات الشعر حينما يتلوى الشاعر تحت سياطه اللاهبة.
وقد كان "الجَيب" وعاءً لفاعلية الجوع ـ هذه ـ بمختلف تداعياتها، من خلال اكتنازهِ دلالةً مطردةً في الذهنية المجتمعيةِ على وظيفتهِ الاستيعابية للـ "النقود" سلاحِ الانتصار على
الفقر. ومن الصفة المناقضة لوظيفة "الجيب" السائدة، أسَّسَت الرؤية الشعرية علاقةَ الذاتِ الشاعرة بالفقر، من خلال التعاطي مع "جَيْب" المبدع/الشاعر، الفارغ من "النقود" التي فارقت صاحبَه، فارتقت لتستحوذ على مساحةٍ من تجربته الإبداعية، كانت ـ تلك المساحة قبل خوائه ـ مقصورةً على الفتاة المحبوبة؛ فباتت مأهولةً بـ "كسرة الخبز" التي يتجرع العاشق/الشاعر فُرْقَتَها، وإليها يشتاق غزلًا وحنينًا. بعد صيرورة "الجيب" وعاءً للجوع لا "النقود":
"في الجيب جوعٌ
في الغيب جوعٌ
في القلب جوعٌ
في الدرب جوعٌ"، ص: (188).
لقد أُفرغ "الجيب" من جوهريته ـ كوسيلةٍ لحياةٍ كريمة ـ إلى الضد منها؛ حينما غادرتْه "النقود"، وحل محلَّها الجوعُ سالبًا الجمالَ والسعادةَ من حياة الذات الشاعرة:
"ما العمل؟
حين تخلو جيوبُكَ من درهمٍ
ويخلو صباحكَ من بسمة
وصدرك من بارق للأمل!!
وحين تحدق في وجهِ طفلِكَ
إذ لا ترى فيه إلا الشحوب
وقد أغلقَ الدهر في وجهِ عمرِكَ
كل الدروب
إلى مَنْ تؤوب؟"، ص: (28).
فهنا صادر "الجَيْبُ" الخاوي البسمةَ من فجرِ الشاعر الفقير، وأضفى شحوبًا بائسًا على وجوه أطفاله، حاول الشاعرُ أن يلتمسَ وهمًا في "جيبه"؛ أدخل يده فيه، فخرَجَتْ مُعَفَّرةً بحقيقةِ الفقر القاسية:
"أوجستُ في نفسي
خيفةً
وأدخلتُ كفي بجيبي
فعادت بلا شيء
فلا مال لي يجعل العمر أبيض
واليوم بيضاء من غير سوء"، ص: (67).
لقد وظّفت شعريةُ النص الرمزيةَ القرآنية، توظيفًا نأى بها عن مداها المتواتر، فحمّلها معنى الفقر المُصادِر بياضَ الحياة من الفقير، كما حَمَلَتْ ضمنيّتها إحالةً على فاعلية المال في إضفاء السعادة على حياة مَنْ يمْلكه.
وكما كان لخواء "جَيْب" الشاعرِ فاعليتُه في مصادرة سعادةِ صاحبه، كان له فاعليته ـ أيضًاـ في سلب الشاعر عزاءه لنفسه التي اعتاد على مواساتها بالشعر فوزًا ورِبْحًا، كلما انسحقت بهزيمةٍ من هزائمها:
"لكني في معركةِ العمرِ
أراني أخسر كل نزالٍ
وأواسي نفسي بالزيفِ
أقول بأني بالكلمات أصيرُ ثريًّا
لكن ما بالجيب ريال"، ص: (191).
ينهزم صاحب "الجيب" المثقل بالفقر في كل معركةٍ من معارك الحياة، قد يكون شاعرًا، وجدَ في الشعر ملاذًا يهرب إليه من هزائمه، مستشعرًا ثراءه المعنوي الإبداعي، لكنه سرعان ما يخسر عزاءه ـ هذا ـ حينما يصفعُه "جيبُه" الخاوي بفقره وجوعه. ثم بتمادي الجوعِ إلى آلية هذا العزاء المعنوي ذاتها؛ وَنَيْلِهِ منها:
"مِنْ فرطِ جوعي
قد أكلتُ أصابعي
ونسيت أن أبقي القليلَ من الأصابعِ
للكتابة
والآن تأكلني الكآبة"، ص: (246).
لقد فَتَكَتْ حالُ الجوعِ هنا بالمبدع، فأكل أصابعَه ـ أداة الكتابة الرئيسة ـ فهيمَن الفقرُ على قدراته الإبداعية، حين أغرقه باشتراطاتِ حياته البائسة. وعلى استشعار المبدع بؤسَ حاله ـ هذه ـ تداهمُه الكآبةُ مُسْتَمْرِئةً مواصلةَ التهامه الذي استهلّهُ الجوعُ مُلْتَهِمًا أصابعَ الشاعرِ المحيلةِ على ملكتهِ الإبداعية. كما تداهمُه ـ في الوقت ذاته ـ قسوةُ أهلهِ وأصدقائه الضائقين بحاله:
"الأهل ضاقوا بي
وأصحابي رموني في الشتات ممزقًا
ولكي يُخففَ بعضُهم من قُبْحهِ
قذفوني ـ زورًا ـ بالغرور
لا شيء يقبل بي
ـ وقد ضاقت بيَ الدنيا ـ
سوى شعري المنمّق فوق أوشحةِ السطور"، ص: (243).
فبعد أن تنتصر الحياة على الشاعر ـ بأسلحتها واشتراطاتها غير المتسقة مع إحساس المبدع ورهافته وروحه الخلّاقة ـ تصيّره كائنًا فاشلًا سِلْبِيَ الجدوى، وأهلُه هم أَوَّل مَنْ يتداعى مع صيرورته ـ هذه ـ ثم أصدقاؤه. وجميعهم يتعاطون معه بناءً عليها: يضيقون به، يلتمسون مبررًا لتخلّيهم عنه، وبلؤمٍ يخاتلون في تسويغ نبذهم إيّاه، مُعيدينَ موقفَهم منه إلى صفةٍ يفترونها فيه "الغرور". فتؤول حاله ـ على إثر هذا الموقف ـ إلى وحدته، وإلى استحالة أن يقبل به أحد، سوى رفيقه المصيري "الشعر"، الذي لا يتخلى عن صاحبه. ولأنّ الشعر قيمةٌ فنية لا مادية؛ فإنه يُصابُ بما يُصابُ به صاحبُه من نبذٍ، فلا يلقى تقديرًا من أحد؛ لافتقاره إلى القيم المادية/المالية، التي على ضوئها ينالُ أيُّ شيءٍ في الحياةِ قيمتَهُ وتقديرَه، بما في ذلك القيم الفنية والإبداعية:
"لا يدهش اسمي
أو شعري
لا يدهش حرفي النادب حينًا
والمندوب
حرفُ ذوي الأموال
فقط
كان المدهش والمرغوب"، ص: (30).
فالمبدع الفقير، لا يحظى إبداعُه بأي تقديرٍ، مهما وصل إليهِ من مستوىً تجويديٍّ وإتقاني. وفي الجهةِ الأخرى، يحظى المبدعُ الغنيُّ بحفاوةٍ وتقديرٍ اجتماعيٍّ يفوق إمكاناته الفنية؛ فقط لأنه يمتلك العصا السحريةَ المُتَحَكِّمَةَ في تفاصيل الحياة كلها، بما في ذلك الذائقة والفن والإبداع.
لقد تعاطى ـ هذا العمل ـ مع تفاصيلِ الحياةِ شائكة المتغيرات والغايات، وظهر من خلاله المبدعُ مسحوقًا بتروس الواقع الذي لا يلقي بالًا لخصوصية الإبداع واستثنائيته من مجالات الحياة الأخرى. تلك التروس الحياتية المتوحشة التي يديرها المال؛ بصفته سلطةً نافذةَ القرار، لها قوانينُها الفاتكةُ بالخاويةِ جيوبُهم، منهم المبدع/الشاعر، المُتَمَزِّق بضيقِ يدهِ جوعًا وحسرةً، يلتهمُهُ اغترابُه النفسي وحيدًا، منبوذًا من الأهل والأصدقاء، يُلازمه شعره عوضًا عنهم، متشاركًا معه المأساة ذاتها: الانعزال الاجتماعي، وكآبةَ المصير الواحد.
تغريد
اكتب تعليقك