تجليات التربية النفسية في التراث العربيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 11:37:05

د. عبد الله رمضاني

المغرب

التربية النفسية السليمة نهر ثرّ بالخير، زاخر بالنماء، وهي أرض متجذرة ثمارها الحنان والعطف. وعندما نقول التربية النفسية للأطفال نقصد من ذلك أن يعقلوا على الكمال والاتزان الشخصي والنفسي، وعلى ضبط انفعالاتهم ورغباتهم وحاجاتهم النفسية والعاطفية والوجدانية، وأن يربى الأبناء على الجرأة والصراحة والتحلي بكل الفضائل النفسية.

وتستمد التربية النفسية أهميتها وقيمتها من نفس الإنسان بذاته، لأن بصلاح النفس يصلح الإنسان وبفساد النفس يفسد الإنسان، بحيث أن التربية هي التنشئة والإصلاح في تشكيل الشخصية السوية بجميع جوانبها، والجانب النفسي يرتبط بجميع جوانب الشخصية، فالجانب العقلي مثلاً يرقى عندما ترقى النفس البشرية، وكذلك الجانب الأخلاقي يرقى برقي الجانب النفسي، ولا ضير أن الجانب الاجتماعي ذا صلة مباشرة بالجانب النفسي، وكذلك الجانب الجسمي.

ومن فوائد التربية النفسية أنها تهدف إلى تربية الفرد على الاستقرار النفسي، والارتقاء بها، وتزكيتها، وتطهيرها، والتحلي بكل الفضائل النفسية.

ومن خلال هذا البحث المتواضع سنحاول، قدر المستطاع، إبراز بعض تجليات هذه التربية النفسية في تراثنا العربي والإسلامي، والتنقيب عن بعض جذورها في هذا التراث التليد. 

أولاً- التربية النفسية في الشعر الجاهلي

1 - شعر الصعاليك

الصعلكة لغة: من مادة "صعلك" فلانًا: أفقره. والصعلوك الفقير الذي لا مال له ولا اعتماد، وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك، قال حاتم الطائي (من الطويل):

غَنينا زمانا بالتصعلك والغنى   

                          فكلاًّ سقاناه بكأسيهما الدهر 

 وصعاليك العرب: فتاكها وذؤبانها، وكان عروة بن الورد يسمى "عروة الصعاليك"، لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم بما يغنم (1).

وأما اصطلاحًا: فالصعلوك هو الفقير الذي يتخذ من اللصوصية وقطع الطريق وسيلة للكسب بعد أن خلعته قبيلته أو خرج على الجماعة. إذًا فهو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا أحد يتكئ عليه ليعينه عليها.

ويمكننا أن نسجل في هذا المقام أن مادة صعلك تدور في دائرتين: إحداهما "الدائرة اللغوية" التي تدل فيها على معنى الفقر

وما يتصل به من حرمان في الحياة.. والأخرى يمكن أن نطلق عليها "الدائرة الاجتماعية"، وفيها نرى المادة يتوسع مدلولها فصارت تدل على صفات خاصة تتصل بالوضع الاجتماعي للفرد في مجتمعه، وبالطريقة التي يسلكها لتغيير هذا الوضع (2).

ولما اتسمت الحياة العربية في العصر الجاهلي بالتباين الحادّ في العرق والسلوك والاقتصاد، فقد أدى إلى تحولات نفسية واجتماعية، نجم عنها ظاهرة جماعية معقدة، كجماعة أطلق عليها اسم "الصعاليك". 

ويبين ابن خلدون ذلك قائلاً: (...وذلك لما اختصوا به من نكد العيش، وشظف الأموال، وسوء المواطن، حملتهم عليها الضرورة التي عيّنت لهم تلك القسمة... فصار لهم إلفًا وعادة، وربّيت فيها أجيالهم حتى تمكنت خلقًا وجبلّة، فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهم في حالهم) (3).

ومن الخصال الجميلة للصعاليك التي نشأت عن روح الالتزام، عدم التعرض للفقراء بسوء، لأن غايتهم إرواء الظمأ وتأمين القوت وسد الرمق، ولا يكون ذلك إلا من الطبقة الثرية، إذ لا يصح التصدي للفقراء وهم الإطار الاجتماعي للصعاليك، وهم الأساس الذي قامت عليه ثورتهم في الغزو والتمرد والتحلل من قيم المجتمع.

فلم يكن عدلاً، حسب رأيهم، أن يملك بعض الناس أعدادا وفيرة من الإبل، فيما لا يملك بعضهم الآخر إلا حبلاً يجره ولا بعير فيه، على حد قول أحد الصعاليك (من الطويل)(4):

وإني لأستحيي من الله أن أرى  

                           أطوف بحبل ليس فيه بعير

وأن أسأل المرء اللئيــم بــعـــيـــره    

                            وبعران ربي في البلاد  كثير  

ولو أردنا حصر السلوك التربوي النفسي لدى هؤلاء الصعاليك لرأيناه يتجلى، على سبيل الحصر، في بعض التمظهرات الآتية:

أ- القوة والحيلة:

وقد لخصهما تأبط شرًا ببيتيه التاليين (من الطويل)(5):

إذا المرء لم يــحتل وقد جـــد جـــــدّه    

                      أضـــاع وقاسى أمــره وهــو مدبــــر

ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا      

                        به الأمر، إلا وهو للحزم مبصر

فإما الحيلة والتدبر في الظروف المتشابكة، وإما الحزم البصير الذي لا يخلو من المرونة إذا سدّت منافذ الأمر، وانعدمت وسائل الحيلة والتدبر...

وإذا أعيت المرء حيله وعزائمه، فلابد من الصبر على المصائب والشدائد كالموت أو ما هو في فلكه وحظيرته (من الطويل)(6):

وأجمل موت المرء إن كان ميتا      

                            ولا بد يوما موته وهو صابر

ب- العفة وعزة النفس:

من جميل خصال الشاعر الصعلوك، امتناعه عن الوقوف في باب الحكام والأعيان، فلا مديح ولا توسل ولا تكسب بالشعر ولا ارتزاقًا...

وإذا كان مدح فلأبناء جبلّته، حرفته ومصيره المحفوف بالمخاطر والموت المحتوم.. لذلك فلا غرابة إذا رافق المدح الصعلوكي فخر بالخصال المأثورة كعفة النفس وسلامة العرض وإباء الخلق، كما نرى في قصيدة تأبط شرًا في رثاء الشنفرى (من الطويل)(7):

قضى نحبه مستكثرا من جميله      

                   مقلا من الفحشاء، والعرض وافر

 وإنــك لو لاقيتنــي بعدمــا تــرى      

            وهـل يُـلْـقـَيــــنْ مـن غيـّـبـــــتــه الـمــقـــابــر؟

 لألــفيتـــنــي في غــــارة أدعى لــــهـــا     

              إلــيـــــــك، وإمــــــا راجـــــعـــــا أنــــــا ثــــــائــــر

ج- قوة العزيمة والإرادة

- يقول عروة بن الورد (من الوافر)(8):

  دعيني للغنى أسعى فإنـي     

                          رأيــت الناسَ شرُّهـم الفقــيــــرُ

  وأبعدهم وأهونهم عليهم     

                           وإن أمسى له حسبٌ  وخيــــرُ

فالفقير في رأي عروة بن الورد حسب نظرة المجتمع الظالم هو شرّ الناس ولو كان شريف النسب.

- وقال أيضًا في الدعوة إلى البحث عن أسباب الرزق (من الطويل)(9):

وما طالبُ الحاجات من كل وجهة      

                       من الـنـاس إلا من أجـدّ وشــمــّرا

فســـرْ في بلاد الله والتمـــس الــغنـى      

                       تعشْ ذا يسار، أو تموت فتُعذرا

ففي هذين البيتين دعوة صريحة من الشاعر نحو البحث عن الرزق والغنى، وهما يجسدان تمامًا فلسفة الخروج والتحرر من ذلك القيد الاجتماعي القاهر.

د- القوة النفسية وعدم الاستكانة والإذلال

هذه القوة النفسية كانت تدفعهم إلى الأنفة عن القيام بما يأنف عنه السادة، ومع ما يلاقونه فهم يتسترون وراء كرمهم.

يقول تأبط شرا (من البسيط)(10):

يا مـــن لعَـــــذّالـــةٍ خَـــذّالــــــةٍ أشِــــبِ      

                    حـــرَّقَ باللـــوم جلــدي أيّ تـِــحـــراقِ

يقول أهلكت مالا لو قنعتَ بـــه      

                     من ثـــوب صــدقٍ ومن بـزٍّ وأعــلاقِ

 عاذلتـي إن بعـــض اللّـــوم مـــعــنـــفـــةٌ       

             وهـــل مـــتـــاعٌ، وإن أبـــقـــــيـــتــَـــه، بـــاقِ ؟!

هذا هو سلوك الشاعر، وتلك هي حال من وجدوا في بيئة اختل فيها التوازن الاجتماعي والاقتصادي. فمن البديهي التمسك ببعض أساليب العيش والتفكير، والتخلق بما يؤدي إلى ديمومة العيش والسؤدد النفسي ولو في أدنى مراتبه من إباء وتعفف وصبر على المكاره ونشدان الحرية... وما ذلك إلا لإحداث توازن آخر، وإقامة البديل في مجتمع طغت عليه مكاسب التمايز الطبقي، والاستئثار بالمال والسلطة إما بالوراثة أو بالإنفاق الكبير.. لكن، هل كان الأمر كذلك مع شعراء الجاهليين خاصة أصحاب المعلقات؟

2 - التربية النفسية في شعر المعلقات

من يتأمل في شعر المعلقات، سيرى الخطوط العريضة لمعالم الحياة العربية القديمة ببدوها وحضرها، صورّها أصحابها بصدق وواقعية بعيدًا عن التكلف أو الادعاء.

أ- التربية على الخلق الجميل، وإخلاص النص للآخرين

  هذا زهير بن أبي سلمى الحكيم المجرب دقائق الأمور وعواقبها، لا يعنيه من أمر الدنيا في معلقته سوى حسن التدبير، وجمال الخلق، وأمانة النفس واليد (من الطويل)(11):

فلا تكتمَنَّ اللهَ ما في صدوركم     

                     لِيخفى، ومهما يُكتمِ، الله يعلمِ 

أما الخصال الحميدة فقد حثّ عليها زهير وشرّع لها نظامًا حكميا تغنت به الألسن، وسارت به الركبان، حتى لقب الشاعر بصاحب (من ومن).. كقوله فيمن لم يقدم شيئًا من ماله إلى المحتاجين من بني قومه، فيُذَم ويحتقر (12):

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله     

                      على قومه، يستغن عنه ويُذْممِ

أو قوله في الرجل خرج من أرضه واغترب (13):

ومن يغترب يحسب عدوا صديقه     

                           ومن لم يُكرّم نفسه لا يُكرّمِ

ومثله(14):

  ومن لم يذذ عن حوضه بسلاحه      

                    يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم

يتبين لنا أن الشاعر ينطلق من مبدأ تربوي شبه مكرس في الحياة العربية، هو تفعيل الإنسان في بيئته ومحيطه، والقيام بالدور المناط به، وعدم جواز الاعتزال في هذا الشأن، لأنه بذلك يحرم جماعته من طاقاته وخدماته، فلابد له من الوقوع بحرمان أشد وأقصى. فالقوم مدار التربية النفسية والخصال الحميدة لا تكون خارجها..

ب- التربية على خلق حماية الجار ونصرة المظلوم

ويمدح لبيد بن ربيعة قومه في التعاضد ودفع المخاطر العظيمة (من الكامل)(15):

وهـم السعـاة إذا الـعـشــيــرة أُفــظــعَـــتْ     

                    وهــم فــــوارسـهــا وهـــــم حُــكَّـــامـهـا

ويشيد بمآثرهم في الدفاع عن جيرانهم والذوذ عنهم ولا سيما الأرامل اللواتي يطول بهن الفقر والحرمان:

وهـم ربـــــيـــع للـــمـجــاور فـــيـــهــم      

                 والـمـرمـلات إذا تـــطــــاول عـامـهــا

وهـــم العشيــــرة أن يُــبـــطِّـــئ حاســـــد

                     أو أن يــلـوم مـع العـدو لَـــيّــــامـهــا

وصفوة القول في المحصلة التربوية النفسية لشعراء المعلقات أنهم فطروا على الأنفة والعفة وحماية الجار والمظلوم والمحروم، وهم في ذلك يلتقون مع شعراء الصعاليك، لكنهم يختلفون عنهم بفخار النسب والحسب والشعور القومي الذي جعل الإسلام يتبنى أحد قواعد السلوك الجاهلي مع تصحيح مساره ألا هو: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا). ولكننا مع ذلك لا نزعم أن هذا كل ما عرفه العرب في الجاهلية من ثروة تربوية ونفسية.. فقد اكتفينا بهذا النزر، وببعض الإشارات التي لها علاقة بموضوعنا.

ثانيًا- معالم التربية النفسية في التراث الإسلامي  

لقد أحدث مجيء الإسلام هزة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية السائدة في المجتمع العربي. وأتى بفلسفة جديدة غيرت المفاهيم السابقة. وقد كان الجانب التربوي من بين مناحي الحياة الذي لحقه التغيير، حيث أصبح الإنسان المركز المحوري في هذا الكون، وبالتالي كان لزامًا إعداد هذا الإنسان وإخراجه، وتنمية قدراته لبلوغ درجة الكمال. ولا يتم هذا إلا بربط هذا الكائن العاقل بخالقه، وتطال علاقته الكون والحياة والآخرة.

ولعل أهم مرتكزات التربية النفسية في القرآن الكريم تقوم على ثنائية متلازمة وثيقة العرى وهي الثواب والعقاب، الأمل والخوف، الرغبة والرهبة...

فعلى هذا المسلك التربوي النفسي القويم شرع القرآن الكريم للناس سبلهم ومذاهبهم، وعالج النفس الإنسانية بأسلوب فريد يجمع بين ثنائية الرجاء والخوف تأديبًا، طبقًا لما طبعت عليه الفطرة الإنسانية نفسها من الرجاء المشوب بالخشية، ليصون معدنها الأصيل من كل الشوائب والأدران(16).

وإذا تفحصنا سير المسلمين الأوائل لنتبين مدى تطبيق المنهج التربوي النفسي القرآني، نجدها مشعة بأخبار البطولات، وجمال السلوك، وحسن السيرة، التي ملأت بطون الكتب وأمهات التآليف، وأخبر بها الرواة في شتى أرجاء الأرض.

وسنكتفي في هذا المقام بالتركيز على ما أنتجه بعض العلماء المسلمين في التربية النفسية.

1 - ابن سينا (ت: 428هـ)

يعد الشيخ الرئيس ابن سينا علمًا من أعلام التربية والتعليم، كما هو في ميادين الطب والفلسفة والعلوم النظرية الأخرى. ويأتي في طليعة الفلاسفة والفقهاء الذين اهتموا بدراسة كتاب الله وتأمل معانيه، فخرجوا بنظريات وآراء وأفكار واستنبطوا منها مبادئ عامة سارت عليها الأجيال، وطبقتها في مختلف مراحل الحياة على امتداد العصور التي تلت عصرهم.

ويشكل كتاباه "الشفاء" و"القانون"، ولا سيما الثاني، خلاصة آرائه في تربية الطفل والأمومة وعلاقة الأم بطفلها، مضافًا إلى ذلك الطرق السليمة في تربية الأجيال وتعليمها.

ولا نريد أن نقف طويلاً مع تفاصيل هذين المؤلفين، ولكن نأخذ من كلامه ما يفيدنا في التربية النفسية مما يتعلق بتهذيب النفس ورياضتها.

وسنتناول في هذا المقام، بإيجاز شديد، أهم المواضيع التربوية النفسية التي تعرض لها ابن سينا في حديثه عن سياسة الرجل مع ولده.

فلعل أول نقطة استرعت اهتمام ابن سينا نجملها بقوله: (إذا فطم الصبي عن الرضاع بُدئ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة، وتفاجئه الشيم الذميمة. فإن الصبي تتبادر إليه مساوئ الأخلاق، وتنثال عليه المصائب الخبيثة، فما تمكن منه من ذلك غلبَ عليه، فلم يستطع له مفارقة ولا عنه نزوعًا) (17).

وفي نظره أن في تعديل الأخلاق حفظا للصحة النفسية والبدن جميعا، فهو يقول في هذا المعنى: (إذا انتقلوا إلى سن الصبا يجب أن يكون وكد العناية مصروفًا إلى مراعاة أخلاق الصبي، فيُعدَّل، وذلك بأن يحفظ كيلا يعرض له غضب شديد، أو خوف شديد، أو غم، أو سهر، وذلك بأن يتأمل كل وقت ما الذي يشتهيه ويحنّ إليه، فيقرب إليه، وما الذي يكرهه، فينحى عن وجهه. وفي ذلك منفعتان: إحداهما في نفسه بأن ينشأ من الطفولة حسن الأخلاق، ويصير ذلك له ملكة لازمة. والثانية لبدنه فإنه كما أن الأخلاق الرديئة تابعة لأنواع سوء المزاج، فكذلك إذا حدثت عن العادة استتبعت سوء المزاج المناسب لها...ففي تعديل الأخلاق حفظ الصحة للنفس والبدن جميعًا معًا) (18).

ويشير ابن سينا في موضع آخر إلى وجوب اتباع بعض الأساليب التربوية في تأديب الصبيان: كالترغيب والترهيب والمكافأة والعقاب، والضرب إذا اقتضى الأمر، وغير ذلك من الوسائل التي تهدف إلى أن يتجنب الصبي الرذائل، وأن يتمسك بالفضائل، حيث يقول: (فينبغي لغُنم الصبي أن يجنبه مقابح الأخلاق، وينكّب عنه معايب العادات: بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، وبالإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ أخرى.. فإن احتاج إلى الاستعانة باليد لا يحجم عنه....) ولكن بالاعتدال(19).

ولا يفوت ابن سينا، في هذا السياق، أن يؤكد على ضرورة أن يراعي المعلم الحالة النفسية للمتعلم فـــ(يتأمل كل وقت ما يشتهيه ويحن إليه، فيقرب منه، ومن الذي يكرهه، فينحى عن وجهه...) (20) لا استجابة لأمره، ولكن تيسيرًا عليه.

ولقد أدرك ابن سينا دور القدوة في حياة المتعلم، وأن الدور الذي يلعبه المعلم يتجاوز حدود عرض المعلومات على المتعلم، ولذا رأى أنه ينبغي أن يكون المعلم (عاقلاً ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق، حاذقًا.. وقورًا، رزينًا، بعيدًا عن الخفة والسخف، قليل التبذل) (21).

وخلاصة القول في فلسفة ابن سينا التربوية النفسية، إنها عصارة عصر ونتاج فكر تخمرا بالتعاليم الإسلامية والمبادئ القرآنية وسنة الرسول الأعظم، فجمعت بين النظرية والتطبيق. ولا نكاد نجد بين فلسفته وتعاليمه، وبين مبادئ التربية الحديثة من كبير فرق..

2 - أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ)

غرف أبو حامد الغزالي من معين القرآن والسنة الشريفة، فجاء بآثار علمية جليلة في الفكر العَقَدي والفلسفي والتأملي والديني والتربوي.

وقد عرض الغزالي في الربع الثالث والرابع من كتابه "الإحياء"، خلال حديثه عن المهلكات والمنجيات، آراءه ومنهجه في التربية النفسية، مبينًا عجائب القلب، وموضحًا آفات اللسان والغضب والحقد والحسد، داعيًا إلى مراقبة النفس ومحاسبتها..

ونستطيع أن نصف التربية النفسية عند الغزالي بأنها تربية أخلاقية، تستهدف تزكية النفس وطهارتها عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف عن طريق المجاهدة والرياضة مع الالتزام بالاعتدال والموضوعية، وهو يقول في ذلك:

(الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها، كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له، والميل عن الاعتدال مرض فيه..) (22).

ولا يتحقق الوسط والاعتدال في نظره إلا أن يكون هناك توازن بين ما يطلبه الطبع ويطلبه الشرع، فالطبع باعث، والشرع مانع، فيتقاومان فيحصل الاعتدال.

وعلى سبيل التمثيل للأخلاق التي تصدى لها الغزالي لمعالجتها نراه يقول: (وكل من هذه الأخلاق يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة، وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها، وتنفر عن قبحها، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت عن الرذائل، وتخلصت أيضا عن الغضب الذي يتولد عنها..) (23).

ولا يغفل الغزالي أهمية تربية الطفل، ويعتبر أن الصبي أمانة عند والديه، وهم مسؤولون عن تأديبه وتعليمه محاسن الأخلاق، ويدعو المربين إلى تعويد الطفل على العادات السليمة..

ولا ينسى الغزالي أن يشير إلى أهمية التربية الدينية في الطفولة، وضرورة تعليم الأطفال أحكام الشرع، ومكارم الأخلاق...

ويختم الغزالي هذا الفصل الخاص بتربية الأطفال بقوله: (فإذا كان النشوء صالحًا كان هذا الكلام عند البلوغ دافعًا مؤثرًا ناجعًا يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر، وإن وقع النشوء بخلاف ذلك حتى ألف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس والتزين والتفاخر نبا قلبه عن قبول الحق نبوة الحائط عن التراب اليابس.. فإن الصبي بجوهره خلق قابل للخير والشر جميعًا، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين..) (24).

هذه الآراء التي أورها الغزالي في كتابه "الإحياء" تعبر عن منهجيته في التربية النفسية، متميزة المعالم، أخلاقية الخصائص، إسلامية المنطلقات، مثالية الأهداف والغايات...

كما تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى رسالته القيمة "أيها الولد" التي تعتبر معلمًا من معالم الفكر التربوي النفسي الصوفي، إذ تضمنت جملة من المبادئ أو الوصايا التربوية الهادفة لا يتسع المقام لتفصيلها...

3 - ابن جماعة (ت: 733هـ) 

كان أبو عبدالله بدر الدين محمد بن جماعة صاحب معارف وإطلاع، وكانت له مشاركة جيدة في فنون كثيرة، يشهد عليها كثرة تصانيفه ومؤلفاته.

ويعد كتابه "تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم" أهم كتبه وأشهرها، حيث وضع فيه عصارة فكره، وخلاصة تجاربه في مجال التربية الأخلاقية والتعليم وتنظيم المدارس وآدابها، واعتبره كثير من الباحثين أحد المصادر المهمة للفكر التربوي وآداب العالم والمتعلم(25).

وتتجلى معالم التربية النفسية لديه في نظرته للعالم من خلال دعوته له إلى الاحتفاظ بهدوئه واتزانه الانفعالي في علاج حالات سوء أدب تلاميذه، والصبر على ذلك، فمن واجبه نحو تلميذه، حسب رأيه (الصبر على جفاء ربما وقع منه، ونقص يكاد يخلو إنسان منه.. ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصدا بذلك حسن تربيته وتحسين خلقه..) (26).

كما عرض ابن جماعة لعدد من العلل الرديئة التي تصيب بعض العلماء مما له أخطر الأثر على علاقاتهم بتلاميذهم، من أبرزها: (الغلّ والحسد.. والكبرياء والرياء والعجب والسمعة والبخل والطمع والفخر والخيلاء.. فالحذر والحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرديئة، فإنها باب كل شر..) (27).

 وبعد ذلك طالب العالم إلى التخلص منها إذا ابتلي بها، ونصحه (أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الرديئة، ويعمره بالأخلاق الرضية) (28).

ويذهب ابن جماعة إلى أن المتعلم في بداية تعلمه يكون أشد حاجة إلى الترغيب والتشجيع، وإثارة دوافعه، وعبر ابن جماعة

عن ذلك بقوله: (الشيح يحرض المبتدئ) (29)، على التعلم، وذلك بتذكيره أنه بالتعلم (ينال الرتبة العلية من العلم والعمل، وفيض اللطائف وأنواع الحكم، وتنوير القلب وانشراح الصدر، وتوفيق العزم، وإصابة الحق، وحسن الحال، والتسديد في المقال، وعلو الدرجة) (30). وتلك كلها حوافز قوية التأثير في نفسية المتعلمين، وقد ثبت (أن الاعتماد على الحوافز التي تثير نشاط المتعلم في بدء تعلمه أمر له قيمته، إذا كان قيامه بهذا النشاط الضروري يكسبه شيئًا يرغب فيه، أو يجنبه شيئًا يكرهه) (31).

 ولهذا أشار ابن جماعة إلى أهمية ألا يبدأ المعلم في تعليمه أحد تلاميذته (حتى يجرب ذهنه ويعلم حاله) (32). فإذا أفضى به التجريب والعلم بحال المتعلم على حدود قدراته كان من الطبيعي أن (لا يلقي إليه ما لم يتأهل له، لأن ذلك يبدد ذهنه ويفرق فهمه) (33). 

ويرى ابن جماعة أن عدم عدل المعلم بين متعلميه يعوق عملية التعليم، نتيجة لما يسببه في نفوس التلاميذ من نفور وكراهية للمعلم والتعليم كله، وبالتالي إذا أراد المعلم أن ينجح في تعليمه فإن عليه (أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء، مع تساويهم في الصفات من ديانة وسن أو فضيلة، فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر، وينفر القلب) (34).

4 - ابن الأزرق (ت: 896هـ)

هو القاضي الفقيه أبو عبدالله محمد بن علي بن محمد المعروف بابن الأزرق، وهو غرناطي الولادة والنشأة مغربي التجوال والتعلم، مقدسي الوفاة.

 لقد جمع أفكاره وآراءه في الفكر الأخلاقي والسياسي، في كتاب سماه "بدائع السلك في طبائع الملك"(35).

ويتجلى إسهام ابن الأزرق واضحًا فيما لخصه من أعمال السابقين عليه، وأضاف إليها وبوّبها وأضفى عليها لمسة أدبية مشوقة، من غير أن ينأى عن الأسلوب العلمي المحكم المبني على التتبع والاستدلال والعرض والتمثيل.

إن الأمر الذي يعنينا ويخدم بحثنا هو الباب الثاني من الكتاب الثاني، وقوامه ست مقدمات وعشرون قاعدة، وما يقرب من مائة وأربعين صفحة، شرح فيها المؤلف أبرز الصفات الخلقية التي يجب على الملك التحلي بها، وهذه الصفات هي: العقل، والعلم، والشجاعة، والعفة، والسخاء، والجود، والحلم، وكظم الغيظ، والعفو، والرفق، واللين، والوفاء بالوعد والعهد، والصدق، وكتم السر، والحزم، والدهاء، والتواضع، وسلامة الصدر من الحقد، والصبر، والشكر.. (36).

كل هذه الصفات هي من صميم التربية النفسية التي حرص الإسلام على إشاعتها وترسيخها في النفوس بشتى الطرق والوسائل التربوية. وقد بسطها المؤلف في كتابه وقدمها دروسا وعبرا ومبادئ لا تقوى الأيام على محوها من الذاكرة.

وفي هذا السياق لا بأس أن نذكر بعض الأمثلة التي أوردها المؤلف في ثنايا هذا الباب المتضمن لتلك الصفات السابقة.  

ومن قوله في الشجاعة إنها من أمهات الفضائل الخلقية والنفسية، فهي متوسطة بين فعلي: التهور، والجبن، وكلامها مذموم(37).

ومثله قوله في العفة التي هي فعل متوسط بين الفجور والخمود...ومن أراد شهوات الدنيا فليتهيأ للذل. وأقبح الشّره، الشره على الطعام والجماع.. (38).

وننتهي إلى القول: حسبنا هذا الجهد المتواضع في هذا الميدان، ونكون بذلك قد فتحنا باب البحث والتنقيب في تراثنا العربي والإسلامي على مصراعيه أمام المهتمين والمشتغلين على هذا التراث، قصد بناء رؤية جديدة هادفة وفعالة، وتكوين صورة ناصعة تقوم بتنوير جمهور القراء العربي والإسلامي، فتحبّب له هذا التراث، وتحفّزه على الاستفادة منه بعقلية متفتحة، وروح نقدية تجديدية متزنة بعيدة عن كل أشكال التعصب والخلفيات الأيديولوجية.

 

الهوامش:

1 - ينظر: لسان العرب لابن منظور، دار صادر بيروت 2004، ج10/ 455، 456- مادة "صعلك"

2 - ينظر: "الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي" ليوسف خليف، دار المعارف بمصر - ص: 24، 25.

3 - تنظر: مقدمة ابن خلدون، تحقيق علي عبدالواحد وافي- المجلد الأول، الباب الثاني، الفصل التاسع- دار نهضة مصر، ط7/ 2014 - ص: 482. 

4 - ينظر: مقدمة ديوان عروة بن الورد، تحقيق أسماء أبو بكر محمد، دار الكتب العلمية بيروت، 1998/ ص: 38.

5 - ينظر: "ديوان تأبط شرا وأخباره" جمع وتحقيق وشرح علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط1/ 1984- ص: 86، 87.

6 - نفس المصدر السابق، ص: 84.

7 - نفسه، ص: 81، 83.

8 - ينظر ديوان عروة بن الورد السابق، ص: 79.

9 - نفسه، ص: 77.

10 - ينظر: "ديوان تأبط شرا وأخباره" السابق، ص: 140، 141.

11 - ينظر "شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات" لابن الأنباري، تحقيق عبدالسلام هارون، دار المعارف بمصر، 1980، ص: 266.

12 - نفسه، ص: 284.

13 - نفسه، ص: 285.

14 - نفسه، ص: 285.

15 - نفسه، ص: 595، 596.

16 - ينظر مقال: "أساليب القرآن الكريم في معالجة النفس الإنسانية" محمد فتحي الدريني، مجلة التراث العربي،ع21/ 1985، ص: 33.

17 - ينظر: "كتاب السياسة" ابن سينا، تحقيق علي محمد إسير، بدايات للطباعة والنشر، سوريا، ط1/ 2007-  ص: 83.

18 - ينظر: "القانون في الطب" ابن سينا، وضع حواشيه محمد أمين الضناوي، دار الكتب العلمية، بيروت،  1999- 1/ 220.

19 - ينظر: "كتاب السياسة" ابن سينا، ص: 83، 84.

20 - ينظر: "القانون في الطب" ابن سينا، 1/ 220.

21 - ينظر: "كتاب السياسة" ابن سينا، ص: 84.

22 - ينظر "إحياء علوم الدين" أبو حامد الغزالي، دار الفكر بيروت، ط1/ 1999-  3/ 54.

23 - نفس المصدر السابق، 3/ 149.

24 - نفسه، 3/ 65.

25 - من هؤلاء: د. أحمد شلبي، د. عبدالله عبد الدائم، د. عبدالأمير شمس الدين، وغيرهم. 

- تنظر ترجمته في: "شذرات الذهب"، ابن العماد الحنبلي- دار الآفاق، بيروت- 3/ 106.

26 - ينظر كتاب: "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم" بدر الدين محمد بن جماعة الكناني، اعتنى به محمد مهدي العجمي، دار البشائر الإسلامية بيروت، ط3/ 2012-  ص: 74.

27 - نفس المصدر السابق، ص: 54، 55.

28 - نفسه، ص: 54

29 - نفسه، ص: 73

30 - نفسه، ص: 73.

31 - "التدريس: أهدافه، أسسه، أساليبه، تقويم نتائجه وتطبيقاته" فكري حسن ريان- عالم الكتب، القاهرة، ط1/ 1971- ص: 79.

32 - ينظر: تذكرة السامع والمتكلم، ص: 78.

33 - نفس المصدر السابق، ص: 75.

34 - نفسه، ص: 79.

35 - ينظر: "بدائع السلك في طبائع الملك" محمد بن علي بن الأزرق، تحقيق علي سامي النشار، دار السلام، القاهرة، ط1/ 2008.

36 - نفس المصدر السابق، 1/ 419، 557. 

37 - نفسه، 1/ 428.

38 - نفسه، 1/ 436، 438.


عدد القراء: 2757

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-