قراءة في كتاب: «الرواية والاستنارة» للدكتور جابر عصفورالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-05 15:09:26

د. محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة

كلية الآداب - جامعة عنابة - الجزائر

يهتم الدكتور جابر عصفور في كتابه «الرواية والاستنارة» بدراسة جملة من القضايا التي تتصل بالمراحل التي سبقت ظهور الرواية العربية المعاصرة، ووفق وصف الكاتب نواف يونس الذي تولى تقديم الكتاب إلى القراء، فالدكتور جابر عصفور في هذا الكتاب يربط «بين ظهور الرواية عربياً وعصر الاستنارة، والذي يقصد به تلك الحقبة الذهبية التي برزت فيها كوكبة من الأسماء الأدبية والفكرية ممن أسهموا في تمهيد الدرب أمام الرواية العربية في الظهور، بإيجادهم منظومة تقدمية أعلت من شأن العقل على النقل، والاجتهاد على التقليد، والتسامح على التعصب، وهو ما يتكئ عليه للتأكيد على التلازم الوثيق بين فن الرواية وفكر الاستنارة، من خلال إشارته إلى الوعي المديني ودور المرأة في نشأة الرواية، إلى جانب ما قدمته الترجمة للمشهد الروائي العربي عموماً».

يذكر الدكتور جابر عصفور في مستهل مقدمته أنه بدأ التفكير في قضايا الاستنارة ومشكلاتها سنة:1989م، حينما أشرف مع مجموعة من زملائه على إقامة احتفالية سميت بـ«مائة عام من الاستنارة»، وكان يقصد بذلك أن نقطة البداية هي عام:1889م الذي ولد فيه كل من طه حسين وعباس محمود العقاد.

ويشير إلى أن المقصود بفكر الاستنارة، هو ذلك الفكر الذي يبدأ مما تركه رفاعة الطهطاوي بعد رحلته إلى باريس، وجمال الدين الأفغاني في أثناء إقامته بمصر، ومحمد عبده.

في مدخل الكتاب الذي عنونه بـ«الوعي المديني» يرى الدكتور جابر عصفور أن الرؤية الصاعدة في مطلع النهضة العربية انطوت على نزعة عقلانية أساسية هي نوع من الوعي المديني المحدث الذي يجسد وعود المجتمع المدني ويستجيب لمعاني العقد الاجتماعي الذي تتأسس به الدولة المدنية، والمقصود بالوعي المديني هو فكر المدينة المتحولة بوساطة عمليات التحديث التي تؤدي إلى تغيير علاقات الثقافة، وأدوات إنتاج المعرفة في المجتمع، وهذا ما ينتج عنه إيجاد رؤية مدنية واعدة لعالم صاعد ترمز إليه المدينة المتحولة وتجسد ملامحه.

ويذكر المؤلف أن ما يهدف إليه ويحاول التدليل عليه هو أن التسارع في حركة الاستنارة العربية، بما انطوت عليه أو تجسدت فيه«هو الذي أدى إلى تأسيس فن الرواية، بوصفه فن المدينة المحدثة التي يبحث عقلها النوعي عن معادله الإبداعي وأداته الفنية المميزة التي يعبّر بها عن هواجس التحول وهموم التغير وأحلام التقدم. وتلك هي البداية التي تأصّل بها مبدأ الحرية اللازمة للوعي المديني في حركة اجتهاده المتعددة الأبعاد والمجالات، ومنها المجال الإبداعي الذي يتصدره فن الرواية، بوصفه الفن الذي يبدأ من انفتاح الأفق لحرية العقل في الاجتهاد، ويجسد علاقات التنوع والمغايرة والاختلاف بقدر ما يتجسد بها، خصوصاً من حيث هي نواتج طبيعية لاجتهاد العقل النوعي الذي ينطوي عليه الوعي المديني المحدث،ومن حيث هي شروط محايثة في فن الرواية نفسه»(ص:25-26).

ويرى المؤلف أن ازدهار فن الرواية لا يفارق السياق التوليدي لتأصيل الوعي المديني المحدث الذي يلفي في الرواية الوجه الإبداعي الفائز، ولاسيما حين يتم تأسيس الوعي المديني لأهمية المساواة بين أصحاب العقول في اختلافها، وأهمية التعدد بين أشكال الإبداع في تباينها، ويهدف إلى تأكيد عدم التمييز بين البشر أو إبداعهم على أساس الجنس أو الثروة أو العقيدة أو العرق.

تـمثيلات الـمدينة المتحولة وغواية التحديث

في الفصل الأول من الكتاب يتحدث الدكتور جابر عصفور عن تمثيلات المدينة المتحولة، ويشير إلى أن علاقة رواية النهضة بما انطوت عليه من أفكار الاستنارة، وهي الأفكار التي تم فيها التجاوب بين عقلانية التراث العربي الإسلامي وعقلانية عصر الأنوار الأوروبي، تؤكد تولد هذه الرواية عن مدينة متحولة تظهر في عيني من يتأملها عن بعد، كما لو  كانت علاقات معمارها نفسه صورة تعكس علاقات أفكارها المتصارعة، فهي تبدو موازاة رمزية بحيزها المعماري للرؤى التي تختصم في المدينة بين أنصار الاتباع ودعاة الابتداع، وقد استشهد المؤلف في هذا الصدد بما كتبه فرنسيس فتح الله المرّاش (1836-1873م)في كتابه «رحلة باريس»، وما دبجه علي مبارك حينما وصف متغيرات المدينة المتحولة، القاهرة،في المجلدات الأولى من كتابه «الخطط التوفيقية».

في الفصل الثاني ينتقل المؤلف إلى مناقشة قضية«غواية التحديث»، ويذهب في مستهل مناقشته إلى أن العلاقة بين الوعي المحدث وعمليات التحديث المادي علاقة وثيقة، ويتبادل طرفاها التأثر والتأثير، وكل واحد منهما يوصل إلى غيره في المدينة التي تجدد أفكارها في الوقت الذي تجدد فيه أساليب حياتها المعنوية والمادية، والتلازم بين الوعي المحدث وعمليات التحديث المادي يجعل منه وعياً مدينياً في كل الأحوال، الذي يقصد به الوعي الذي ينطلق من الآلة وعلاقات إنتاجها،ولا يفارق أنساقها المعرفية أو منظومات المعلومات المرتبطة بها.

ويؤكد الدكتور جابر عصفور على أن سرديات الرحلة إلى عواصم التقدم كانت إحدى نقاط البداية التي سرعان ما تحولت إلى قص روائي حديث، ويقارن في مناقشته لهذه الفكرة بين ما كتبه علي مبارك في روايته الموسومة بـ«علم الدين»، و«تخليص الإبريز» لرفاعة الطهطاوي، فيرى أن الصلة بينهما متعددة الأبعاد، فرواية علي مبارك لم تفقد صلة الرحم التي جمعتها بسرد«تخليص الإبريز» الذي سبقها بنحو ثلاثين عاماً، فقالب الرحلة الوصفي في«تخليص الإبريز» لم يفارق السرد الروائي في«علم الدين» التي كان هدفها إشاعة النوع نفسه من الاستنارة، كما أن توتر الدهشة في رحلة المكان والزمان والوعي لا يتغير جذرياً ما بين العملين اللذين لا يكفان عن التأمل في متغيرات التحديث التي ترتبط بالحضور الواعد للآلة التي أغوت الوعي المحدث بأفاعيلها.

ومن جانب آخر يرى الدكتور جابر عصفور أن رواية «علم الدين» تختلف عن «الساق على الساق» التي كتبها أحمد فارس الشدياق بأمرين: أولهما أن السرد في«علم الدين» يقترب من الرواية بالقياس إلى «الساق على الساق»، وثانيهما، أن إطار الرحلة في «الساق على الساق» يقترن بمحاولة اكتشاف «ما هو الفارياق»، وذلك في تقلبه بين الديانات والأقطار والمذاهب، في حين أن «علم الدين» تتميز بأن إطار الرحلة فيها هو إطار رحلة الوعي الذي يجاوز قصوره من خلال الارتحال في العوالم التي تكشف له ما لم يكن يعرفه، فـ«الساق على الساق» لا تحتوي على مشاعر الدهشة التي عوضت بالسخرية التي تنفي القداسة عن الأشخاص أو الأفكار وتضعها موضع المساءلة من منظور «الأنا» التي تسعى إلى اكتشاف هويتها الفارقة.

الـمرأة ونشأة الرواية العربية

في الفصل الثالث تطرق الدكتور جابر عصفور إلى موضوع «المرأة ونشأة الرواية العربية»، وأشار إلى أن اتساع رقعة التعليم المدني للبنات أفضى في مصر والشام إلى ظهور عدد من كاتبات الرواية اللائي سبقن قاسم أمين في الدعوة إلى «المرأة الجديدة»، وتحريرها بوساطة الكتابة، ومن داخل فعل الكتابة في الآن ذاته، وتعد الرائدة الأولى هي عائشة التيمورية التي كتبت «نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال» سنة:1305هـ، فهي تعد المرأة الأولى التي عبَّدت الطريق لكتابة المرأة للرواية، وقد سبقت أليس بطرس البستاني التي نشرت رواية «صائبة» سنة:1891م، ونشرت لبيبة هاشم رواية بعنوان «حسناء الحب» سنة:1898م، وصدرت بعدها بسنة رواية زينب فواز الأولى «حسن العواقب».

فالكاتبات الأربع عائشة التيمورية وأليس بطرس البستاني ولبيبة هاشم وزينب فواز يعتبرن رائدات الرواية العربية في القرن التاسع عشر.

كما ظهرت الصحافة النسائية، فصدرت مجلة «الفتاة» الشهرية التي أنشأتها هند نوفل في الإسكندرية سنة:1892م، وصدرت مجلة«أنيس الجليس» التي أسستها ألكسندرا مليتادي في السنة نفسها، وأصدرت روز حداد مجلة بعنوان «السيدات والرجال»  سنة:1925م.

وقد اتسعت رقعة النشاط الصحافي النسائي، وبرزت على الساحة مجموعة من المجلات من بينها مجلة «فتاة الشرق» التي أصدرتها لبيبة هاشم، ومجلة «المرأة المصرية» التي كانت تصدرها باسم عبد الملك، وقد تضافرت هذه المجلات مع الكثير من الصحف وعبرت عن الوعي المديني المحدث، وأكدت على دور المرأة الكاتبة الحاضرة إبداعياً وفكرياً.

الريادة الـمسيحية

في الفصل الرابع من الكتاب، يرى الدكتور جابر عصفور أنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون أبناء الأقليات الطائفية والعرقية هم الأكثر حماسة في تبني قيم الوعي المدني، والتعبير عنها وتجسيدها في إبداعهم الروائي، ويدلل على ذلك بأن أغلب أسماء المؤسسين الأوائل لفن الرواية في القرن التاسع عشر هم من أبناء الطوائف المسيحية، مثل: أحمد فارس الشدياق، وخليل الخوري، وفرنسيس فتح الله المرّاش، وسليم البستاني، وأخته أليس البستاني، وجرجي زيدان، وفرح أنطون، ولبيبة هاشم.

وينبه إلى معرفة أبناء هذه الطوائف للغات الأجنبية، نظراً إلى تعليمهم الطائفي وصلاتهم الباكرة بالثقافات الأجنبية، واشتغالهم بأعمال الترجمة التي تتطلب تعاملاً مباشراً مع الجاليات الأجنبية، وهذا ما جعل إسهامهم متميزاً في مجالات الفن القصصي،سواءً بالترجمة المباشرة أو التعريب أو التأليف الخالص.

الترجمة وإنطاق المسكوت عنه

خصص الدكتور جابر عصفور الفصل الخامس من الكتاب لدراسة موضوع «الترجمة وإنطاق المسكوت عنه»، حيث يؤكد من خلال هذا الفصل على أن أساس انفتاح الوعي المديني في عصر النهضة على العالم هو ترجمة المعروف من إبداعات «الآخر» في الآداب الأجنبية عن طريق إتاحة مختلف الأعمال القصصية، فقد كان شيوع المترجم بوساطة «الصحافة» يوازي إعادة قراءة القصص التراثية التي أتاحتها المطبعة للجمهور، وقد قدم المؤلف مجموعة من الملاحظات التي تتعلق بالمترجمات في تلك الحقبة، حيث لفت انتباهه كثرة الترجمة عن الفرنسية بالقياس إلى الإنجليزية، وهذا الأمر يرجع إلى قوة العلاقة الثقافية بفرنسا التي اتجهت إليها البعثات الأولى للأجيال التي ضمت أمثال: رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك.

إضافة إلى نزوع أغلب الأعمال المترجمة إلى الكلاسيكية، وهذا ما يتجلى في الكثير من الروايات المترجمة التي تميل إلى النزعة العقلانية، وتتميز بأنها ذات طابع تعليمي ونزوع أخلاقي، فهي تنزع نحو الخيال المتعقل وتبتعد عن الخيال الرومانتيكي المحلق.

ويرى المؤلف أن الإقبال على القصص المترجمة في الجرائد والمجلات هو تأكيد على استجابتها لرغبات شرائح قراء الطبقة الوسطى، ويعبر عن التحول من طراز سردي شفاهي إلى طراز سردي كتابي فرض بسبب انتشار أدوات إنتاج المعرفة وعلاقاتها في المدينة الحديثة، وهذا ما يعد تجسيداً لعلامة دالة من علامات الوعي المديني، ولاسيما حين تتأصل في هذا الوعي نزعة إنسانية نتجت عن تنوع أعراق المدينة وأجناسها وطوائفها ومعتقداتها، وهذا ما جذّر في عقول أبناء المدينة طبيعية الشعور بوجود الآخر الذي يختلف عنهم في اللغة والديانة والموطن.

أليجوريات النهضة وإشكال الهوية

في الفصلين الأخيرين من الكتاب قدم الدكتور جابر عصفور مجموعة من التحليلات والرؤى الفكرية التي تتصل بأليجوريات النهضة وإشكال الهوية.

مهد المؤلف لموضوع أليجوريات النهضة بتعريف الرواية الأليجورية، و«هي الرواية التي تقول شيئاً وتعني غيره في أبسط تعريفاتها، وتتحول أحداثها وشخصياتها إلى معادل رمزي مباشر لأفكار كاتبها، أو إشارة غير مباشرة لنماذج أو مواقف في العالم الذي تتولد منه، معتمدة في بناء أحداثها وشخصياتها على ما يشبه الاستعارة المكنية التي يراد بها لازم معناها وليس ظاهر معناها. ولأنها رواية لا تستطيع أن تشير إلى موضوعها إشارة مباشرة بسبب حواجز الرقابة الصارمة،فإنها تراوغ السلطة التي تناوشها، وتتحول إلى إستراتيجية خطاب مقموع، يتحايل على سلطات المنع في المجتمع، ويناورها بتورياته السردية الملتبسة التي تومئ إلى مراميها الباطنة بواسطة القرينة الدالة» (ص:267-268).

وينبه الدكتور جابر عصفور إلى أنه لابد من قراءة الرواية الأليجورية بوصفها رواية مجازية الانتقال فيها من ملزم المعنى إلى لازمه، وحركة القراءة فيها لا تتوقف على المعنى الأول المباشر إلا بوصفه دليلاً على المعنى الثاني غير المباشر.

وقد احتلت الرواية الأليجورية مكانة دالة في مجالات القص في عصر النهضة، وذلك على مستوى الممارسة العملية لفنون القص التي كانت ترمي إلى إنطاق المسكوت عنه من خطاب المجتمع، وعلى مستوى الوعي النظري بأهداف القص ووظائفه التنويرية في مجتمع يهدف من خلال طليعته إلى تأسيس ملامحه المدنية، وقد مارست الرواية الأليجورية إبداعها بواسطة التمثيلات الكنائية التي ساعدت المتمردين، وقد أشار المؤلف إلى كل من الشدياق وعلي مبارك، وفرانسيس فتح الله المراش في منتصف القرن التاسع عشر.

في دراسته لإشكال الهوية،أشاد المؤلف برواية خليل الخوري «وي. إذن لست بإفرنجي» التي تتجلى أهميتها في أنها تُكمل ملمحاً في غاية الأهمية من المشكلات التي عولجت في روايات كتاب القرن التاسع عشر، فقد شغل خليل الخوري نفسه بقضية الهوية، فما كتبه في روايته هو تمثيل كنائي للأفكار التقريرية التي صاغها لتأكيد ما أطلق عليه اسم «الوجود الأهلي»، الذي يقصد به هوية كل أمة وضرورة الحفاظ عليها.


عدد القراء: 6323

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-