في مفهوم التَّناصالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-05-10 05:43:20

رشيد الخديري

المغرب

يُمكن تَلَمُّس ظاهرة التناص الشعري في مراحل تطور النظريات النقدية العربية منذ نشأتها، وإن كانت ظاهرةً وسمتْ بـ"معنى قدحي" بعيدًا عن إمكانية التعايش والتجاور داخل كل إنتاج نصِّي، ربما، أن القراءة تختلف من مرحلة إلى أخرى. باختلاف السياق المعرفي، والخصوصيات التي تميز طبيعة كل مرحلة من مراحل سيادة المصطلح، ذلك أنِّ كل توصيف لهذه الظاهرة يَمُرُّ- بالضرورة -عبر مراحل تطور آليات النقد من جهة، ثم مع الخصوصيات الثقافية والجمالية والتاريخية والمعرفية لكل مرحلة من

جهة أخرى، فمن مصطلح " السرقة الأدبية"، الذي شاع في الشعرية العربية القديمة، مرورًا باصطلاحات " عصر النهضة" كالتقليد والمحاكاة كنوعٍ من التراجع عن"قدحية" مصطلح "السرقة، وُصولاً إلى اصطلاحات أخرى بدأت في الانتشار والتداول على نطاق واسع مع التحولات التي شهدتها القصيدة العربية مع رواد " الشعر الحر" في مطلع خمسينيات القرن الماضي، كـ "توظيف التراث"، " والنص الغائب"، و أخيرًا " التناص".

فهذه العودات المستمرة إلى التراث الإنساني، - وإن اختلفت التسمية- ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالذاكرة الثقافة العربية، سواء كمصطلع" تهجييني" - سرقة- أو كمصطلحات أكثر مرونةً وتهذيبًا مثل" التعالقات النصية" أو " التناصات"، وإن كان مصطلح " التناص" أكثر ملاءمة لطبيعة الاقتراض الشعري، إذا سَلَّمْنَا -ضمنيًّا- بأن حتمية السيرورة تُؤمن بمبدأ " لا نص يُولد من فراغٍ"، صحيح، أن " التناص" له أصول غربية، مرتبط بـ" ثورة النص"  عند النقاد الفرنسيين أمثال " جوليا كريستيفا" و" رولان بارث" وجماعة " شعر"، إلا أنه ظهر عند العرب كتعبير اصطلاحي، ثم أخذ في الانكماش والتراجع نتيجة " الثورات " في مفهوم النص، وانتقاله من المعنى الواحد إلى معنى متعدد، حافل بالإشارات والرموز، وهذا ما يُفَسِّرُ " طاقاته التفجيرية- الانفجارية- في التفاعل مع غيره من النصوص الأخرى، وقد أشار سعيد علوش في كتابه" المصطلحات الأدبية المعاصرة" إلى مجموعة من التعاريف لمفهوم التناص عند النقاد الغربيين، فبارث مثلاً يعتبر أن" أهم قانون يميز التناص لا نهائيته"، ثم ميشيل فوكو يرى" بأنه لا وجود لتعبير لا يفترض تعبيرًا آخر، ولا وجود لما يتولد من ذاته، بل من تواجد أحداث متسلسلة و متتابعة، ومن توزيع للوظائف والأدوار"، في حين يرى سولير أن" التناص في كل نص يتموضع في ملتقى نصوص كثيرة بحيث يعتبر قراءة جديدة"، ليخلص سعيد علوش في النهاية إلى تعريف شامل له، وهو أنه" يُكَوِّنُ طبقات جيولوجية كتابية تتم عبر إعادة استيعاب غير محدد لمواد النص، بحيث تظهر مختلف مقاطع النص الأدبي عبارة عن تحويلات لمقاطع مأخوذة من خطابات أخرى داخل مكون إيديولوجي شامل"1.

إن النص الشعري- أي نص- هو أولاً و أخيرًا كتلة من الأصوات المنذغمة بعضها مع بعض، أو بمعنى آخر هو شبكة تلتقي فيها عدة نصوص، تكون بمثابة ذاكرة معرفية و ثقافية للشاعر، تظهر في كتاباته علنًا أو سرًّا، وعيا أو لا وعيًا، برغم ما قد يُقال من ثبوت جناية" السرقة" تستوجب محاكمة كفكاوية، أو أن هذا الأمر مقبول ومحمود جماليًا، كـ " بنية محتجبة" داخل النص الشعري كتبرير لهذه الآثار الخفية  كما يشير إلى ذلك رشيد بنحدو2، والواقع، أن هذه" البنيات المحتجبة" داخل كل نص شعري، تظهر وتختفي كثعلب محمد زفزاف، تغيب وتحضر في تشكيل كل النصوص الأدبية مهما بلغ شؤوها، لأن تدخُلُ ضمن أولويات التلقي، وشرط من شروط الكتابة، تتحصَّن بالذاكرة الثقافية والجمالية لكل شاعر، ومع ذلك فإمكانية الانفجار تختلف من شاعر إلى آخر، بتنوع روافده وخلفياته ودرجة تمثله للأشياء والقدرة على التخييل والغوص في السراديب السفلي للذات، ثم نقل تلك الشحنات الوجدانية إلى معاني ودلالات على أساس" الامتصاص" كأعلى درجة من التناص الشعري، ومهما يكن، فالتناص لا يفقد النص الشعري "صوته الخاص"، بمعنى آخر، تفاعل النص مع النصوص الأخرى لا يفقده جماليته وشخصيته، لكونه كتابة إبداعية جديدة، مغايرة لتلك النصوص الأخرى، ثم أن ذلك التفرد لا ينطلق من فراغ، أو من الداخل فقط، بل هناك خارج يفرض ذاته كمرجعية، يتصادى مع الداخل، يحدده، ويؤثر فيه، وصفوة القول، فوجود النصوص الغائبة في النص الشعري، يكتسي طابع التكيف مع البنيات الأسلوبية والبلاغية و الدلالية لباقي النصوص، لكون العلاقة بينهما علاقة مركبة وعميقة،  وتحتاج إلى جهد جهيد من أجل اكتشاف أبعادها وسبر أغوارها، وهذا لا يتم بمعزل عن الإحالة إلى نص سابق أو عدة نصوص محتجبة وراء بنيات وشفرات مضمرة.

هوامش:

1  - للتوسع يمكن مراجعة كتاب "المصطلحات الأدبية المعاصرة"، سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني، بيروت، سوشبريس، البيضاء، ط 1، 1985، ثم كتاب" ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب" محمد بنيس، دار التنوير، بيروت، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط 2، 1985

2  - راجع مقال" كشف المستور وما تحت السطور"، عن البنيات المحتجبة في النص الشعري، رشيد بنحدو، مجلة الرافد، يوليو 2014، ص 61 - 64.


عدد القراء: 6191

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-