سؤال الذات في الرومانسية المغربيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-05-19 00:10:52

د. مها بـنسعيد

المغرب

يُعد الشعر الرومانسي لحظة ثانية في دراسة التحديث الشعري بالمغرب، مستعرضين في ذلك أهم ممارسات الشعر المغربي، منذ الأربعينيات إلى نهاية الخمسينيات، من خلال تتبع تاريخي لعملية الإبدال؛ وذلك بالتخلي عن النظرية التقليدية، ونهج سبيل المغامرة، في تشكيل إيقاع القصيدة، بانفتاحها عن الممارسة النصية الغربية بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن المعلوم أن الشعر الرومانسي المغربي لم يتصل بالشعر الرومانسي الغربي مباشرة، في كل من ألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا، على الرغم من القرب الجغرافي، ولكن الاتصال عبر وسيط الشعر الرومانسي بالمشرق.

إذن، إلى أي حد انفتحت القصيدة المغربية الرومانسية على الآخر؟ وكيف ساهمت في تطور القصيدة المغربية؟

ظهر مصطلح الرومانسية حوالي سنة 1674 في إنجلترا، وتوطد حضوره في مقدمة كتاب توماس وارتن: تاريخ الشعر الإنجليزي الصادر سنة 1774، الذي كان له أثره البعيد في التعريف والدفاع عن الشعر، والقصص المازج بين عناصر الخيال، وخرق المعايير والقواعد الكلاسيكية. أما في فرنسا فقد تحددت بداية استعمال المصطلح، انطلاقًا من اللحظة التي وصف فيها شعر (أرستو) و(تاسو) بالرومانسي. وابتدع جان شبيلان مصطلح الملحمة الرومانسية ولو تأخر عن ألمانيا وإنجلترا. فقد بدأ استعماله فيها بتأثير من عمل شليغل. فارتبط المفهوم بمعنى الثورة، وتقاطع حضوره مع ممارسات الكلاسيكية، التي جعل الانتصار لها تبخيسًا وإدانة للأدب الرومانسي1.

أما الرومانسية الألمانية فقد تحددت مع جماعة يينا (1798)، التي أسسها الإخوان شليغل وأوغست. وأنشأت مجلة الأثينيوم، حيث نشرت فيها أفكارها ونصوصها النظرية، المبنية على تصور فلسفي شمولي معارض للنظام السائد في أوروبا. كان الغرض منها بناء مجتمع مغاير غير خاضع لقيود العقل المتحجرة.

تمكنت هذه الجماعة من إغناء الساحة الأدبية بتصورات نظرية، حيث طرحت مسألة الأدب طرحًا نظريًّا نقديًّا من خلال شعارها النظري المطلق الأدبي  L’absolu Littéraire، وهو عبارة عن ترجمة لأهم النصوص المنشورة في مجلة الأثينيوم مع تقديمات لها. وقد حصر محمد بنيس مشروع جماعة يينا النظري في ثلاث نقاط:

• تجديد الرؤية إلى القديم.

• إنتاج ما لم يقل.

• المطلق الأدبي2.

أما تاريخ الرومانسية العربية فليس واحدًا. فلبنان تعرفت على الرومانسية منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وبرزت نماذجها الأولى في شعر مطران خليل مطران، الذي كتب قصيدة المساء سنة 1902 في مصر، وكذا في أعمال جبران خليل جبران، الذي ألف كتاب الموسيقى سنة 1905 في أمريكا. ولم يتعرف المغرب على الرومانسية إلا في الأربعينيات والخمسينيات3.

يمكن اعتبار الرابطة القلمية، أكثر مدرسة لها تأثير واضح في الأدب والشعر المغربي. وعلى الخصوص الرومانسي منه، حيث نفحت فيه مزيجًا من الفلسفة والصوفية والوجدانية.

أدرك الرومانسيون المغاربة حاجة الشعر إلى التحرر من القيود، ومن الاجترار المتواصل، والنظم على منوال القديم. لكن مع الرومانسية العربية والمغربية بالخصوص، أصبح ولأول مرة النموذج الشعري للمجددين متجهًا مباشرة نحو الآخر الأوروبي4.  ساهمت هذه النقلة في انفتاح ثقافي واسع على الثقافة الغربية. فالرومانسية كان هدفها إبدال التقليدية وتأسيس وبناء حداثة شعرية عربية مغايرة ومضادة للحداثة التقليدية، متجاوبة مع الرومانسية الغربية، مما نتج عن هذا التأثر «إعادة تعريف الشعر والشاعر معًا» 5.

ظهرت الرومانسية المغربية بعد الحرب العالمية الثانية من مناطق ثقافية مختلفة. وقد أنصتت هذه الحركة إلى كل من شعراء مدرسة الديوان، وشعراء المهجر، وتعرفت على شعر أبي قاسم الشابي، فكانت حركة شعرية التقى بعض شعرائها مع الشرق وفي مصر تحديدًا، بعد أن سافر كل من عبدالمجيد بنجلون، وعبدالكريم بن ثابت، لمتابعة الدراسة، أو مع الغرب مباشرة، تبعًا للاستعمارين اللذين كان يحتلان المغرب6.

مثل أصحاب الرومانسية المغربية، النزوع إلى تحرير القصيدة من نموذجها التقليدي في العروض والمتخيل معًا. ومن هنا كان اللقاء مع الشعر الحر، معبرًا عنه بالشعر المنثور. وقد زاوج هؤلاء الشعراء بين القصيدة الموزونة والشعر المنثور، كما زاوجوا بين الشعر، والقصة، والرواية. وأبرز وجه لهذه المزاوجة هو عبدالمجيد بنجلون، الذي كتب في الطفولة، أول سيرة ذاتية رومانسية، ثم محمد الصباغ، الذي مارس الشعر بتحرر يكاد يكون متعدد الاتجاه.

تأخرت الحركة الرومانسية المغربية كثيرًا في الظهور، بالمقارنة مع نظيرتها في لبنان، ومصر، والمهاجر الأمريكية، وتونس. تأخرٌ تزامن مع ظهور القصيدة الحرة في العراق، مما قلص من الفاعلية العربية للرومانسية المغربية، وفعل في غياب أي اسم عن التداول في الخطاب النقدي العربي. ويعود هذا التأخر لسيادة البنية التقليدية، إذ «لم يكن حلول الرومانسية إذن في أدب المغرب الحديث، إبان بداية تشكله، يحظى بالرضى الأدبي، الذي حظي به حلول الأدب الإحيائي فيه»7.

ثمة أسماء رومانسية شابة، ظهرت في بداية الخمسينيات مثل: عبدالكريم الطبال؛ ومحمد (نسيم) السرغيني؛ ومحمد الصباغ؛ وإدريس الجاي؛ وعبدالكريم بن ثابت؛ وعبدالقادر المقدم؛ ... أدركت هذا التأخر، فانتقلت، في مرحلة تالية، إلى كتابة قصيدة حرة ثم معاصرة. ومع ذلك فإن الحركة كانت مؤثرة في الحياة الثقافية المغربية. من ثم، لا بد من النظر إلى قيمتها لا بالقراءة العمودية التي تلغي السياق، بل الأفقية، التي تستكشف فاعليتها في نسق الثقافة المغربية8.  

ركزت الرومانسية المغربية على مفهوم الذات؛ والحرية؛ والتلقائية؛ والعفوية في التعبير الأدبي. وارتبطت بالفلسفة؛ وعلم الجمال؛ والبحث عن معرفة جديدة. لذا اهتم الرومانسيون بالخيال لأنه مملكة الداخل وموطن المعاني اللانهائية. خضعت الرومانسية لعدة إبدالات في قواعد القصيدة. تمثلت في: غياب الاستهلال، وإحلال المقطع محله، واستعمال الأوزان. وذلك بالتخلي شيئًا فشيئًا عن تقسيم البيت إلى شطرين. يقول محمد بنيس: «إن انعدام الاستهلال في البنية السائدة للشعر الرومانسي العربي، هو أول »طريقة أقل« يمكن ملاحظتها في البناء النصي. وحذف هذا العنصر أعطى للقصيدة حركية تتخلص بها من جمود النص الأولي، في الوقت نفسه الذي انبثق فيه المقطع كبنية قاعدية هي أساس النص بكامله»9. 

تمرد الرومانسيون المغاربة على القصيدة التقليدية شكلاً ومضمونًا. وبناء ولغة. بتحريرها من القوالب الجاهزة. فثاروا على نظام القصيدة الطويلة، ونظام القافية الموحد، وفقدان ذاتية الرؤية، وخصوصية الأسلوب. وجنحوا إلى شعر المقطوعات، وشعر التواشيح، ونظموا الشعر القصصي، والروايات التمثيلية، والأقصوصة، وتغنوا بالطبيعة، ووصفوا الجمال. أما من حيث المضمون فقد تمرد الشعراء الرومانسيون على محدودية الفضاء المتداول، ومحدودية الطموح. ودعوا إلى ضرورة التغيير، وتقريب العمل الشعري من حركة العصر، وحيوية المعاناة وتأمل الفكر وإشعاع الوجدان.

تعد مرحلة الأربعينيات محطة حاسمة في ظهور شعراء رومانسيين، اختاروا إرساء علاقات جديدة مع اللغة والحياة والإبداع والعالم الجديد. وقد راهنوا على إعادة النظر في القصيدة الكلاسيكية. يقول محمد بنيس: «أما القصيدة الإيقاعية الدلالية فقد عرفت في الأربعينيات وخاصة في نهاية الحرب العالمية الثانية، تحولاً نوعيًّا يتمثل في تعدد جمهرت الشعراء الممارسين للمفهوم الرومانسي، القائم على استغلال تجربة الموشحات الأندلسية، بعدما التفت إلى هذه التجربة شعراء المهجر، وشعراء المشرق العربي معًا. ونجد في طليعة المغاربة، الذين نوعوا الأوزان والقوافي داخل النص الشعري، بعد علال الفاسي في الثلاثينيات كلاًّ من عبدالمجيد بنجلون، وعبدالكريم بن ثابت، وعبدالقادر المقدم، ومحمد  الحلوي»10.  

أثرت الرومانسية الغربية بشكل كبير في تجديد أسلوب الشعر المغربي من الناحية الفلسفية والشكلية. ومن ثم يمكن اعتبار الشعر الرومانسي المغربي طفرة أساسية في تجديد الأدب بصفة عامة في المغرب. فبواسطة الشعراء الرومانسيين، تمكن الشعر المغربي من أن ينعطف مع التيار الأوروبي، الإنساني، والعالمي. سواء من ناحية الشكل أو المعنى، ومن ثم يأتي بشعر عربي أصيل مطور، ومساير للآداب، والإنتاج الأدبي الغربي الأوروبي11.

مع الرومانسية المغربية اختلفت الوضعية اللغوية عند الشعراء. استطاع هذا الجيل التعرف أولاً على الثقافة الأوروبية بطريقة مباشرة، حيث سمحت له الظروف (الاستعمار) بتعلم اللغات الأجنبية كالإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية وغيرها. كما سمحت له بالانفتاح على ثقافة الآخر ودراستها، مما أدى به إلى توسيع عمق رؤيته، وانتقالها من مفهومها الضيق الشعر إلى مفهوم أوسع هو الأدب؛ أي أن الشاعر المغربي أصبح يتحدث عن جميع الأجناس الأدبية من رواية وقصة ومسرح وغيرها. كما أقدم الاستعمار أيضًا على إنشاء معاهد لتعريب الأشكال الفنية كالموسيقى التي أصبحت حاضرة في القصيدة المغربية الرومانسية وملازمة لبنائها من خلال البناء المقطعي الذي يعود إلى الموشح. 

إن توجه المغاربة نحو المشرق المستفيد من الغرب. جعلهم ينتجون شعرًا أكثر رونقًا، وأكثر تعبيرًا عن أحاسيس الإنسان وهمومه، مستفدين من تجارب الشعر الأندلسي والعربي الأصيل. وعيًا بضرورة التجديد في بنية القصيدة المغربية الحديثة. بوصفها الخطاب القادر على التغيير ومواكبة العصر. فكانت الحرية أول عنصر تبناه الشاعر الرومانسي لمواجهة التقليد.

 

الهوامش:

1  - يوسف ناوري، الشعر الحديث في المغرب العربي، ج1،دار توبقال للنشر،ط،1 ،2006 ، ص.182.

2 - محمد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، ج 2، الرومانسية العربية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 2، 2001، ص.19.

3  - المرجع نفسه،ص. 15 - 16 .

4  -  المرجع نفسه، ص.25.

5 -  المرجع نفسه، ص،7.

 6 - ديوان الشعر المغربي الرومانسي،إعداد عبد الجليل ناظم ، وزارة الثقافة، بتعاون مع بيت الشعر في المغرب، ط 1،ماي ، 2003،ص،5.

7 - محمدجاري، تدوين الذات الرومانسية في أدب المغرب الحديث، المطبعة الوراقة الوطنية،الحي المحمدي، الدوديات، مراكش، ط1، 2004، ص، 29.

8 - ديوان الشعر المغربي الرومانسي ، إعداد عبد الجليل ناظم ، م.س، ص،6-8.

9 - مجمد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، ج2، الرومانسية العربية، م. س ، ص،87.

10  - محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية، دار العودة، ط 1،1979 ، ص،287-288.

 11 - المرجع نفسه، ص، 126.

 

المراجع والمصادر:

محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية، دار العودة، ط 1،1979 .

محمد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، ج 2، الرومانسية العربية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 2، 2001.

ديوان الشعر المغربي الرومانسي،إعداد عبد الجليل ناظم ، وزارة الثقافة، بتعاون مع بيت الشعر في المغرب، ط 1، ماي، 2003.

  محمدجاري، تدوين الذات الرومانسية في أدب المغرب الحديث، المطبعة الوراقة الوطنية،الحي المحمدي، الدوديات، مراكش، ط1، 2004.

يوسف ناوري، الشعر الحديث في المغرب العربي، ج1،دار توبقال للنشر،ط،1، 2006 .


عدد القراء: 11677

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-