المشي خلف حارس المعبدالباب: نصوص
محمد الكامل بن زيد الجزائر |
قصة قصيرة
انتظَروا مليًّا ساعة الحسم بقلوب واجفة..مثلما توقع الجميع..فرحلته الأخيرة خارج المعبد لن تدوم أكثر من المعهود..حدس غريب ظلّ يساورهم مدة غيابه حتى شل تفكيرهم..حدس يفضي إلى أن شيئًا مريبًا.. رهيبًا.. سيزلزلهم.. وقد كانوا على حق.. يومان لا أكثر ولا أقل.. عاد مسرعًا آمرًا أهله أن يدثروه أن يزملوه.. بهتوا من حالته المرعبة ولم يقدروا على الحديث معه.. فقد ظل طوال الليل يهتف ويهاتف أشياء فوق التصور.. فهذا الذي ظل يحرس معبدهم منذ سنين وسنين حتى أحيطت به الهالة العظيمة.. وكاد أن يدرك النبوءة.. عاد مسرعًا من سفره.. زاده الأخير الارتجاف والهذيان.. وبين أحضان الأحبة فيها الكثير من السراب الذي لا يسد الظمأ ولا يخفي الحقيقة الثكلى المتجلية للعيان.. الصغير قبل الكبير.. الأعمى قبل البصير..
حركات مريبة أوجس الجميع منها خيفة.. بدأت تتحرك في مختلف الاتجاهات الممكنة وغير الممكنة.. سقط القناع عن القناع.. وانتفضت الأحلام المؤجلة بعد أن سئمت الصبر والانتظار.. فقد أوهنها الظل الغائر بين ثنايا شقوق الجدران..أرادت ركوب أمواج البحر العاتية المحيطة بالمعبد..إصرارها شديد وعنيف لم يخطر على بال أحد ولم يكن قط في الحسبان..إذ تجرأت على قرع الأجراس المعلقة فوق الأبواب الموصدة مع تعاظم أصواتها..حتى هو حين أفاق من غيبوبته وحملق في وجوههم..وجوه قديمة..رثة..زاغت عيناه ولم ينبس ببنت شفة، بل تسمر في مكانه، وألقى بنظره إلى الأفق البعيد..هناك إلى سقف المعبد، حيث المنارة الشاهقة..تلك المنارة العتيدة؟ ! تساءل في قرارة نفسه.. هل من الممكن أنه أخطأ التقدير؟!..وأن ضوءها كان يخدعه طوال هذه السنين؟!..
الأسئلة الموجعة أخذت تعنف هواجسه بكثير من القسوة المبالغ فيها حتى أوشكت أن تجعله يخمن كيف يلف حبلاً حول عنقه..
لم يجد بُدًّا من الصعود إليها.. ولم يجد بدًّا من أن يضرب بقبضة يده على زجاجها..إذ تبين له أن المصباح عتيد وعتيد جدًّا.. وكيف أنه لم ينتبه أو بالأحرى كيف لم يخبره من ولاه أمرها بحقيقتها..سأل عنه فجاءه الرد سريعًا.. مات منتحرًا.. ربما أدرك ما أدركه فلم يقدر على البوح فآثر الكتمان الأبدي.. آثر الرحيل بطريقته.. مات منذ عشرين عامًا.. عشرون عامًا.. الأيام تمضي كلمح البصر.. لم يفقه كيف برق في ذهنه أن يتلمس كفَّ يده وخده وشعره..التجاعيد قطعت حبل الوصال بينه وبين الشعر الأبيض..حتى المرآة..أيقن أنها فعلت فعلتها..ظلت تصور له كل صباح عالمًا غارقًا في الأوهام..
أعاد البصر مرتين حيث السماء السابعة..ما تبقى له يعيقه عن النزول مرة أخرى إلى الأسفل..إنه يرفض ابتلاع الحقيقة المُرَّة..هل انتهى الحلم؟!..هل آن الأوان لأن يكون للمعبد حارس آخر..غيره..مستحيل لا يمكن أن يحدث هذا..أما الأحلام المؤجلة التي يراها الجميع سقمًا وسخطًا لا مثيل له يعلوها..أراها أنا سحابة صيف عابرة لا أكثر ولا أقل.. فهي لا تفقه شيئًا ولا يمكن لها أن تدركه..الموقف أكبر مما تتصور..فالسماء لم تعد هي السماء التي ندعوها..والأرض ما عادت هي الأرض التي نرجوها..والبحر ما عاد ذاك البحر الذي نحلم به..بحر انقسم إلى بحرين..هذا بحر ميت وهذا بحر أسود..انتابته هلوسة مريعة..عصفت به..تمنى لو أن الوقت توقف منذ عشرين عامًا.. إنه يشعر بغثيان.. يتكئ على شقوق الجدران.. حرارة متوهجة تتغلغل داخل صدره..يتحسسها..ألم قاتل ينخره..وصرة قاتمة تأتيه من الأسفل حيث الأحلام المؤجلة.. بالكاد تبينها.. شيئًا فشيئًا بدأت تتضح، ومعها تزداد عيناه جحوظًا.. عجوز في أرذل العمر تتصدر الجموع حاملة بندقية قديمة..رثة..تبكي بفزع وحرقة..لم يستطع جسده أن يقاوم أكثر..بدأ يتمايل كريشة في مهب الريح أو كشمعة بدأت تأكل فتيلها..ومعه شيدت العتمة أسوارها..مستجدية:
- أنت يا أمي..أنت
تغريد
اكتب تعليقك