الزّمن في الفنّ المعاصر رومان أوبالكا نموذجًاالباب: مقالات الكتاب
ياسمين الحضري اللّحياني أستاذة جامعية / جامعة قفصة - تونس |
"أنا أنتظر أنتظر والوقت يزحف ويزحف، أتمنّى لو كان الوقت شيئًا ملموسًا لتجاهلت وجود الناس حولي وانقضضت عليه أنهشه بأظافري وأمضغ أشلاءه بسناني، ثمّ ألفظه على الأرض لينزوي خائفًا صاغرًا بين قدمي إن قلت له قف جمد وإن أمرته بالتحليق غاب عن الحياة وأنا ممسكة زمامه مستلقية بين جناحيه، أنا أنتظر ولن أتحمّل الانتظار أكثر من ذلك."1
ليلى بعلبكي
أنا أحيا
إنّ مسألة الوعي بالزّمن تبدأ مع حدث مهم أو حتّى مع حدث بسيط في حياة الإنسان تدغدغ فيه حبّ الاطّلاع والاهتمام بهذا المحرّك الكوني، وهو ما سنتطرّق إليه من خلال تجربة فنيّة معاصرة، كانت تعتمد على مفهوم "الزّمن" في تكريس أعمال فنيّة حاولت جاهدة تفعيل هذا المفهوم، وجعله ماديًّا، مرئيًّا ومتواصلاً في بعض الأحيان كأنّها تقبض عليه. ستبدأ رحلتنا مع الفنّان الفرنكو- بولوني رومان أوبالكا2 "Roman Opalka" وقبل الغوص في تجربته لا بدّ من تحديد مختلف معاني الزّمن الذي من شأنه أن يوضّح لنا الأساس الفكري الذي أدّى بهذا الفنّان لتبنّي الزّمن كمفهوم لأعماله، إذ تعدّ هذه الكلمة مصطلحًا شفّافًا ودقيقًا مليئًا بالمعاني والمدلولات، فيتطلّب منّا ذلك وقفة لمعرفة معانيها حتّى يؤمّن لنا ذلك سلامة وأمن الطّريق. نجده في المنظور الإغريقي "دائريّ يوافق الحركة الدّائريّة للأفلاك وهو في التّصورات المسيحيّة متّصل متصاعد له بداية ونهاية، هي بداية الإنسان ونهايته من الخلق إلى الخلاص"3 يتعلّق تعلّقًا وثيقًا بمبدأ الحركة والتغيير والتّطوّر، "فالبعد الزّمني تابع للحركة، إنّه امتداد للحركة." 4
بدأ مشروع أوبالكا من فكرة الانتظار، انتظر زوجته في المقهى، تأخّرت كثيرًا فأدرك أنّ الوقت الضّائع المنتظر مرّ دون أن يوثّق فيه أيّ فعل أو أيّ حركة، فقرّر منذ ذلك الوقت توثيق الزّمن وتسجيله من خلال لوحات أحاديّة اللّون، يبدأ فيها بالعدّ تصاعديًّا بدءًا بالرقم "1" إلى ما لا نهاية، يرسم بالأبيض أرقامًا صغيرة على خلفيّة سوداء في صفوف أفقيّة، وهنا فهمنا للعمل الفنّي يبدأ منه وفيما يكوّنه، وعلى النحو الذي يكون عليه أي من خلال هذا الأسلوب الخاصّ في الوجود، وهذا هو المعنى الذي يشرح به هيدجير كلمة الماهية، التي لا يعني ما يكونه الشيء فحسب، وإنّما الكيفيّة أو الأسلوب الذي يكون عليه الشيء أيضًا.
وبعد مرور ثلاث سنوات في تطبيق الجزئيّات قرّر أوبالكا أن يحدث تغييرًا في العمليّة ففي سنة 1968 بدأ مع تغيير الخلفيّة من الأسود إلى الرّمادي، فهو يرى بأنّ الرّمادي يعكس كونه وفي عمقه يجد حياته، أمّا في سنة 1972 قرّر أن يخفّف تدريجيًّا من هذه الخلفيّة الرّماديّة بإضافة 1% من الأبيض في كلّ مرّة حتّى يصل للأبيض على الأبيض، وهذه النقطة ستكون بالتّحديد مع اللّوحة 77777777 وهي في الحقيقة اللّوحة التي كانت تخيف أوبالكا فكان يخالها ستتوازى ونهايته البيولوجيّة بوصوله لهذا الأبيض الخالص. بعد أن يكمل أوبالكا كلّ جزئيّة يقوم بتصوير نفسه متّبعًا سلوكًا فوتوغرافيًّا يكرّره كلّ مرّة كحفاظه على الزاوية نفسها، درجة الإضاءة ذاتها، الهيئة نفسها (اللّباس، تسريحة الشعر ...) مشروع حياته هذا بدأ سنة 1965 لينتهي في زمن مجهول يمكن اعتباره زمنًا حتميًّا مرتبطًا بنهايته البيولوجيّة.
تكتسي الجزئيّات نسقًا تصاعديًّا يبدأ من الرّقم "1" إلى ما لا نهاية، فيتّخذ أوبالكا العدّ كوسيط بينه وبين زمنه المنتظر، يحصي من خلاله أيّامه، تدرّجاته، تعثّراته حتّى يصل لنهايته الحتميّة، "فليس العالم هو مجموع الأشياء القابلة للعدّ أو غير القابلة للعدّ، المألوفة، أو غير المألوفة والتي تكون قائمة هناك فحسب، كذلك ليس العالم هو المجال المدرك حسيًّا. إنّ العالم لا يمكن أن يكون أبدًا موضوعًا يتمثّل أمامنا ويمكن رؤيته. فالعالم يكون في كلّ الفترات الحاسمة من تاريخنا حين نولد أو نموت"7 فنلاحظ هنا أنّ الزّمن برغم تعدّد مجالاته يظلّ محدودًا بلحظة الولادة ولحظة الموت، ويظلّ هاجس النهاية يملك نفوسنا، لذلك فالإنسان بصفة عامّة يكون في صراع متواصل مع الزّمن محاولاً السيطرة عليه، وهو ما يظهر جليًّا في تجربة رومان أوبالكا، الذي يحاول فيها تقديم زمن مادّي ومتسلسل منطلقًا من زمن معاش، ينطلق من حاضره، من وجوده البيولوجي والفكري، فنكون هنا بالضّرورة أمام نفس توثيقي يوثّق زمنًا حاضرًا وكأنّنا إزاء سرد روائي ينقل اللّحظة بحذافيرها، يطمح من خلالها الفنّان عن تواصل فاعليته في المجتمع. لعلّنا نكون هنا إزاء "زمن بشري" يتمّ التعبير عنه بطريقة سرديّة، فهل هو زمن حاضر مستقلّ عن ذات الفنّان؟ أم هو جزء من حاضر الآخرين؟ أم هل هو زمن حاضر ناتج عن تعاضد زمن الفنّان والمجموعة؟
بالرّجوع إلى الفلسفة البرغسونيّة نجد أنّ الزّمن أصبح زمنًا نفسيًّا يعتمد على الفلسفة التّحليليّة النّقديّة، زمن لا يتحدّد بلحظات بل يكون في حركة متواصلة لا حدود لها تجمع بين زمن الماضي وزمن الحاضر في آن واحد وكان لهذه النّظريّة صدى في الوسط الإبداعي، سواء في المسرح أو الفنون التّشكيليّة أدّت إلى إنتاج أعمال "يكون فيها الماضي والحاضر خليطًا، لا تستطيع السّاعة ضبطها ولكن الفنّ يستطيع أن يعكسها، لأنّه هو الذي يستطيع أن يجمّد الزّمن في الآنيّة، ويوقف سيولته ويحتويه بماضيه وحاضره في إطار متماسك"8 وهو ما يهدف إليه رومان أوبالكا من خلال توثيق جزئيّات من الزّمن بتسجيله للأعداد، وكأنّه يريد القبض عليه، ثمّ ليدعّم ذلك بصورة فوتوغرافيّة تثبّت حضوره في الزّمن، فيحفظ بذلك الأحداث من الضّياع والنسيان، وهي في الحقيقة عمليّة حفظ لذاكرته الفرديّة، سواء الفنيّة أو الشّخصيّة.
إنّ المتمعّن في مشروع أوبالكا يلاحظ تقشّفًا إن صحّ التّعبير بعيدًا عن الكثافة اللّونيّة والكثافة التّقنيّة، فيبلّغ بذلك معنى الاختزال في اللّوحة، يسعى من خلالها بلوغ عالم نقيّ، تغيّر فيها النّسق من حياتي إلى ثقافي فنّي بدأت مع الخلفيّات السّوداء، لتنتهي مع إنتاج الأبيض على الأبيض إذ يقرّ في أحد لقاءاته الصّحفيّة أنّ تمشّيه نحو الأبيض شعور بالاغتباط، وكأنّه يتّبع سردًا أسطوريًّا. تنتج الأعداد في هذه الجزئيّات تراكيب أنيقة بتصافّها وبساطتها وبنمطها الإيقاعي تدخل ضمن دائرة الحياة وتطوّرها وتغيّرها، وهي تفاصيل تدلّ على قوّة الوجود الإنساني، وتكريس لاستمرار فاعليته في المجتمع، فمن الصّعب أن نتصوّر حياة تتكوّن من أرقام تسجّل ساعات ودقائق، أيّام وسنوات من حياة الفنّان، والتي ستتواصل إلى يوم وفاته، ساعات طويلة يقضّيها في العدّ مستغنيًا عن باقي الأنشطة الحياتيّة كمنع نفسه من السّفر والخروج، فكأنّ التّقشّف في اللّوحة يوازيه تزهّد في الحياة، وكأنّنا به سجينا داخل أسوار فنيّة، تتمثّل في الكاميرا والقماشة والأعداد، في حين يرى أوبالكا أنّه يكون أكثر تحرّرًا مع كلّ ضربة فرشاة. إنّ الأمر هنا يتعلّق بالمظهر الذي يؤكّد وجود الإنسان في الزّمن، ويتجسّد خاصّة في التّعاقب والتّكرار في العادات السّلوكيّة، فيصبح وعاء للحدث الإنساني وسرد الفعل هو الوجه المشخّص للزّمن، "فنحن لا نفكّر في هذا الزّمن إلاّ من خلال سرده"9 ، وهنا نستنتج أنّ السّرد هو تشخيص للزّمن ونقطة مشتركة بين الزّمن الفيزيائي وزمن العالم الخارجي والزّمن الذّاتي، ولم يتوقّف أوبالكا عن هذا العمل المتكرّر والمتواصل، وقد أصبح هذا الفعل أشبه بالوسواس أو طقس من طقوس حياته اليوميّة إلى جانب العدّ التّصاعدي الذي يرافق الجزئيّات إلى ما لانهاية. هي حالة صعود، وكأنّه يعدّ أيّامه نحو النّهاية وهي عمليّة شبيهة بالانتحار البطيء لعلّه خوف من هذه اللّحظة، وهي التي جعلت أوبالكا يلتقي بذاته كلّ يوم من خلال الصّور التي يلتقطها بعد كلّ جزئيّة، فيعود إلى ذاته الماضية من خلال الصّور السّابقة، فهو يهب نفسه زمانه إن صحّ التّعبير بماضيه وحاضره، وانتظار نهايته الحتميّة. أوبالكا لا يعيش الصّدفة ولا العفويّة، بل يقنّن زمنه ونشاطه وفق نظام زمنيّ يتمثّل في إدراج ذاته في الزّمن مع يقينه بأنّها سوف تغدو ماضيًا، فيختفي وراء هذه اللّوحات.
الهوامش:
1 - ليلى بعلبكي، رواية أنا أحيا، 1958
2 - رومان أوبالكا: فنّان فرنكو – بولوني ولد سنة 1931 وتوفي سنة 2011، درس الطّباعة الحجريّة بمدرسة الرّسومات ثمّ واصل دراسة الفنّ بمدرسة الفنون والتصميم في لودز.
3 - نزار شقرون، شاكر حسن آل سعيد ونظريّة الفنّ العربي، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، دار محمّد علي للنشر، منشورات الاختلاف، الطّبعة الأولى 2010 ص 236.
4 - جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللّبناني بيروت لبنان ص 457
5 - http://theredlist.com/wiki-2-351-382-1160-1163-view-france-profile-opalka-roman.html
6 - http://saintjoarts.over-blog.com/article-biographie-de-roman-opalka-84585280.html
7 - Heidegger, Being and Time, New York, harper and row publishers 1962 page 47.
8 - محمود طه، القصّ في الأدب الانجليزي، القوميّة للطّباعة، القاهرة 1966 ص 121.
9 - Paul Ricœur , Temps et Récit 3, ed Seuil, 1985 page 435.
10 –http://int.search.tb.ask.com/search/AJimage.jhtml?searchfor=roman+opalka&p2=%5EZR%5Expt455%5ETTAB01%5Etn&n=780cbbb6&ss=sub&st=tab&ptb=5C2584F4-863D-4D6E-8085-E982F9B6F404&si=CI6tys_Dk8ECFRHHtAodcl4ArQ&tpr=sbt&imgsize=all&safeSearch=on&imgDetail=true
تغريد
اكتب تعليقك