مستقبل الفلسفة مع العلمالباب: مقالات الكتاب
علي محمد اليوسف العراق - الموصل |
هل للفلسفة مستقبل؟:
الفلسفة ضرب من ضروب المعرفة البشرية, او منهج في التفكير, ما يطلق عليه الأنساق الفلسفية والمنظومة الفكرية التي عنت بالوجود الإنساني كوجود في الطبيعة وعلاقته بها وبالكوني والآخر والمجهول والميتافيزيقيا.
وأفهمها أنا كتعريف إنها منهج تجريدي منطقي يحاول فهم الحياة وتغييرها حسب ماركس, او فهم الحياة فقط وعدم رغبة تغييرها حسب رغبة ورؤية براتراند رسل.
هذا على الأقل السائد في تأكيد إن الفلسفة لم تكن (علمًا طبيعيًا) يومًا ما وليس بمقدورها مستقبلاً, حتى وإن اعتبرها بعض الباحثين (أم العلوم), وإنما هي تبقى نسق لغوي منطقي متعالي نخبوي.
وقد تداخلت الفلسفة من جهتها, والعلم الإنساني غير التجريبي الطبيعي من جهته في تعالقهما مع كل ضروب وأنساق المعرفة البشرية والعلوم الأخرى, فأخذنا ندرس علم الأنثروبولوجيا, وفلسفة الأنثروبولوجيا, ومثل ذلك علم الدين وفلسفة الدين وفلسفة وعلم التاريخ وكذا مع فلسفة وعلم الاجتماع والنفس وهكذا بما لا يحضرنا حصره. علمًا ان صفة العلم الملتصقة بهذه الضروب المعرفية والأنساق الفكرية والمنظومات الثقافية هي غيرها علوم التجريب المختبرية والرياضية الطبيعية, العلوم الطبيعية التي تحكمها رياضيات التفكير والمعادلات التي تنسحب على التجربة العلمية في إثبات واقعية وعقلانية صحة الافكار أو النظريات من عدمها أو ضحالتها وعدم الأخذ بها. أمثلة ذلك أن المعادلات الرمزية التجريدية في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء والطب والهندسة وغيرها في العلوم الطبيعية كافة ليست فلسفة. ويرى براتراند رسل أن الفلسفة تمثل وسطًا موضوعيًا بين اللاهوت من جهة كونها تأملات غير تجريبية, وهي كالعلم من جهة استنادها إلى العقل.
1. ذاتية النسق الفلسفي:
ثمة جملة مواصفات طبعت التفكير الفلسفي الإنساني منذ عصور ما قبل التاريخ الميلادي اليوناني القديم, وصولاً إلى مجيء سقراط وأفلاطون وأرسطو وفلاسفة عديدين غيرهم يتمايزون بالأهمية في تاريخ الفلسفة.
أهم تلك الصفات أن النص الفلسفي (بنية) انشائية (ذاتية) تأملية تجريدية وليست موضوعًا مستقلاً, بمعنى إنها خاصية إنسانية فكرية وجهد إبداعي منفرد لمؤلف منشئ, وإن الفلسفة بهذا المعنى تلتقي كثيرًا مع فكرة إنها شكل من أشكال التعبير الثقافي أو حتى الأدبي - الفني. وذاتية المعرفة الفلسفية تلتقي بضروب الفكر الإبداعي اللغوي الاخرى, وتتشابه معها من حيث مصدر الخلق والمنشأ والمتلقي, كما هي في النص الاسطوري أو الميثولوجي او القصص الديني أو السرد التاريخي أو الأدبي والفني. فهذه جميعها انتاجية إبداعية (ذاتية) تنتسب لمؤلفها أو منشئها, وبهذا المعنى يكون النص الفلسفي بنية معرفية فكرية إنسانية, مولّدة للأفكار الشارحة والناقدة والمضيفة. شأنها شأن أي نص إبداعي كتب ويكتب في مجالات السرد المعرفي والجمالي والثقافي الخاضع لسلطة التناول النقدي بالشرح والتفسير والتأويل والقراءات المتعددة له. من هنا تكون البنية الفلسفية الانشائية تمتلك ذاتيتها(الآنية) في تناولها وتداولها الحاضر والماضي. بمعنى إن جميع المحاولات والمعالجات الفلسفية حاضرًا لم ولن يكن بمقدورها أو بمستطاعها دفع الفعالية الفلسفية إن تشكل لها حضورًا مستقبليًا دائميًا كحقائق فكرية لا يمكن دحضها وتفنيدها. أو حقائق تمتلك حيوية التواجد عبر العصور كفعالية دائمة التأثير حاضرًا وفي المستقبل. مؤلفات فلسفية هامة شغلت التفكير الفلسفي طويلاً على مدى قرون لم يعد لها أي حضور أو اهتمام في الوقت الحاضر. ومن الطبيعي جدًّا أن تتجه الفلسفة المعاصرة دومًا في محاولتها سحب التفلسف الماضوي إلى رقعة الحاضر والاعتياش على تفسيره بنوع من التكرار والاجترار والاعادة بأكثر مما يحتمل (النص), الذي يحكمه منحيين,:
منحى احتفاظ النص الفلسفي بحيوية الماضي ونقد الحاضر له وغياب حضور المستقبل فيه, وأن ما تسحبه الفلسفة اليوم وتناقشه على أنه مفاهيم فلسفية من الماضي هو في حقيقة الأمر يمثل (مستقبلاً) للنص الفلسفي نتداوله حاضرًا فقط.
والمنحى الثاني أن النص الفلسفي مكتف (بذاتيته) ولا يصلح أن يكون تفسيرًا دائميًا لعالم متغير بوتيرة عالية سريعة جدًّا, يقودها العلم بجدارة واستحقاق لا ينازعه أحد تلك السلطة, تلكم هي تطورات العلوم الطبيعية في كل مجالات الحياة الطب والذرة والتكنولوجيا والفيزياء والبيئة والهندسة الوراثية والفلك وهكذا. بعبارة موجزة لا يمكننا تخليص الفلسفة من ذاتيتها, لأن الفلسفة لا تمتلك موضوعًا من غير ذات.
2. نخبوية التفلسف:
هل ننساق مع الآراء التي تذهب أن التفلسف بنية وقيمة منظومية مفارقة, وأن الفلسفة انفصلت منذ نشأتها عن الحياة الواقعية التي تسير الأمور بها (علميًّا) في غير ما حاجة إلى الفلسفة والإنسانيات, وأن الفلسفة لم يعد لها ذلك التأثير والاهتمام في حياة اليوم وتشكيل ملامح العصر؟! وأن ما قيل في الفلسفة عن الإنسان والوجود والماهية والجوهر والموت والميتافيزيقيا, والظواهر الطبيعية المؤثرة والفاعلة في ذلك الوجود استنفدت نفسها ولا مجال في مكابرتها ومزاحمتها العلم الطبيعي التجريبي, وأن ما استهلكته الفلسفة مفهوميًا عن الوجود والماهية والحياة والموت والإنسان لم يعد يشكل اهتمامًا في عالم المعاصرة والحداثة وما بعد الحداثة الفكرية والمعرفية وفي عصر العولمة, مقارنة وقياسًا مع أي منجز علمي نقل البشرية طفرات نوعية مطردة ونامية متطورة على الدوام متجددة بالأفعال وليس بالأفكار المجردة في تفسيرها الواقع كما فعلت كلاسيكيات الفلسفة على امتداد عصور طويلة.
إذا توخينا الدقّة أكثر فإن الفلسفة كضرب معرفي نخبوي, لم يعد يلق اهتمامًا سوى في المنتديات والصالونات والمؤسسات الثقافية التخصصية الجامعية ومراكز البحوث والمجلات محدودة التداول المنعزلة في غالبيتها تمامًا عن مؤثرات المسار الحيوي الحضاري العصري وانعدام قدرة الفلسفة الإسهام بصنعه وتشكيله. ونخبوية البحوث الفلسفية تلتقي مع الإنسانيات البحثية والسردية التي لم تعد لها أهمية أكثر من اهتمامات صالونات مغلقة ومؤسسات جامعية تمنح وتصدّر شهادات وأطاريح دراسية أكاديمية لا تغني ولا تسمن من جوع وأكثرها قيمة دالة لها هي في إضفاء المكانة التدريسية للأستاذ. وأغلب تلك الأطاريح والدراسات لا قيمة لها في دراسة هذا الفيلسوف أو ذاك, في جنبة أو أكثر لا مجال الإضافة لها, استنفدت نفسها, وكذا الحال في الدراسات الأدبية والتاريخية والتراثية واللغوي والإنسانية في تراكمها الكمي الذي تختزنه المكتبات والأرشيفات والمتاحف, ولا يمتلك قيمة علمية تطبيقية في حياة المجتمع, أو أية اسهامة في تغييره. ويجري تمويله من المؤسسات الجامعية ومراكز البحوث وكذلك مؤسسات حكومية.
نخبوية التفلسف والمفاهيم الفلسفية خلال ما يزيد على ألفي عام وأكثر, بقيت السمة الذاتية تحسب للفلسفة على إنها أفكار متعالية على الفهم والاستيعاب الجمعي, لكن المفارقة اليوم هي أن تلك النخبوية المتعالية أصبحت مثلبة في تعطيلها الاستيعاب الجمعي والتوظيف العملاني في تقدم الحياة. بخلاف ما تنجزه العلوم الطبيعية في تقدم الإنسان المعاصر والتقليل من معاناته وتذليل صعوبات الحياة أمامه.
وبالمعنى المشار له يذهب ليفيناز 1925 – 1995 إنه ينبغي أن نشجب مستقبل الفلسفة فقط لأنه ليس مستقبلاً بالقدر الكافي, فالفلسفة التي تقوم على الاعتراف والإقرار بما هو غير قابل للامساك به او البديل المطلق او الآخرين سوف تظل هي الفلسفة.
3. بين الفلسفة والعلم:
من الملاحظ جيدًا أن جميع ضروب المعارف الإنسانية أو ما يطلق عليها للتفخيم العلوم الإنسانية, بضمنها الفلسفة وانساق الفكر المعرفي التجريدية وغير التجريدية الأخرى, تلجأ الى نوع من التعاضد الانتشالي المسعف أحدهما للآخر, سواء بالتبعية أو بالانضمام أو بالتمازج بين بعضها البعض في الاشتراك بمعالجة قضية أو أكثر.
فأخذت الفلسفة تزاحم ما يطلق عليه (علوم) الانسانيات والمنهجيات, في دراسة التاريخ أو الاجتماع أو السياسة بما يسمي اليوم الفلسفة السياسية, او فلسفة أو علم الاقتصاد أو فلسفة أو علم التاريخ (لاحظ التداخل المتعالق بين كلمة فلسفة وكلمة علم), وهكذا مع الهوية الثقافية, وفلسفة وعلوم الأديان إلى آخر القائمة من أمثلة التداخل التوظيفي والدراسي على صعيد المنجز الاكاديمي المعرفي الصرف. (فلسفة أو علم كمنهج في إعادة دراسة ضرب معرفي أو أكثر).
هذا التداخل التوظيفي بين الفلسفة وعلوم الانسانيات, هو بخلاف ما تحضره العلوم الطبيعية على نفسها وترفضه, كفيل بافقاد الفلسفة أية قدرة على النزوع المستقبلي وفي إدامة حياتها المعاصرة, بفاعلية التأثير في أن تكون لها فعالية فلسفية مستقبلية مكتسبة تشير إلى حضورها الحيوي الدائم في مصنع الحيوية البشرية التي يتسيّدها ويقودها العلم التطبيقي التجريبي الطبيعي منفردًا ومتقدمًا كل ضروب المعرفة الاخرى واهتماماتها.
بهذا الفهم الذي المحنا له, هل يحق لنا الجزم ان مفاهيم الفلسفة العظيمة, انتهت مكتفية بذاتها على أيدي عظام الفلاسفة هيراقليطس, سقراط, أفلاطون, أرسطو, ديكارت, كانط, نيتشة, هيدجر, وسارتر, وآخرين؟! في تناولهم الوجود الإنساني فلسفيًا من كافة جوانبه وأشكالياته التي استولدت شروحات وإضافات تراكمية ونوعية على مدار عصور طويلة من التناول والتداول الفلسفي المعرفي. وحتى مفاهيم الميتافيزيقيا المرتبطة بالفلسفة تم السخرية منها والهزء بها في وجوب مجاوزتها ومغادرتها لأنها أصبحت شغل من لا شيء عملي يشغله في الحياة.
يقول جاك دريدا إن أي تجاوز للفلسفة لا يعني طوي صفحتها, بل ذلك يستلزم قراءة الفلاسفة بطرق اخرى غير مسبوقة, وقريبا منه في تأكيد حضور وحيوية بقاء الفلسفة, يشير براتراندرسل إن الفلسفة منهج لفهم الحياة وليس لتغييرها, وبذلك يدين ماركس الذي يذهب إلى أن الفلسفة ليس تفسير الحياة وإنما تغييرها.
هل بإمكان الفلسفة ان تصبح علمًا طبيعيًا من غير ان تفقد كل امتيازاتها عبر العصور؟
إن انتفاضة عصر التنوير والنهضة في القرن الثامن عشر الميلادي, وعلمنة الحياة في أوروبا, لم يكن بتأثير(فلاسفة)عصر التنوير وجهودهم (وحدهم), وإنما كانت الانتقالة الحقيقية الواقعية بفضل (علماء) عصر التنوير والنهضة امثال كوبرنيكوس ونيوتن وغاليلو وبرونو وكبلر ومن على شاكلتهم من علماء الطبيعة والفلك والرياضيات وصولاً إلى داروين وفرويد وليس انتهاءً بانشتاين وهوكنج. وبجهود هؤلاء العلماء الصفوة كان الفضل الأكبر في التقدم وفي السبق وتحقيق التقدم العلمي والحضاري لعموم البشرية وليس أوروبا وحدها. إن عظمة هؤلاء العلماء غير الفلاسفة ليس فقط إنهم قلبوا مفاهيم علوم الفلك والفيزياء والرياضيات والأنثربولوجيا والطب والنفس وغيرها التي كانت سائدة, بل عظمتهم في وضعهم حدًا لوصاية اللاهوت الكنسي الديني على واقع الحياة كل الحياة وتحريرها اجتماعيًا واقتصاديًا وفكريا وخلاصها بحرية الاجتهاد والابداع.
ومن هنا كانت أهمية الحاجة في الماضي والحاضر عندنا, ضرورة رفع وصاية وجبروت الفكر الديني السياسي المتزّمت في تقاطعه, بالضد من العلم ومنجزاته واشاعة التفكير العلمي, إن يأخذ دوره في تشكيل حياتنا المعاصرة حاضرها ومستقبلها.
وعبرة تخلفنا في الماضي وعجزنا وإلى يومنا هذا أن فلاسفتنا العرب المسلمين اخفقوا قديمًا في تحقيق ما استطاع قدامى الاوربيين تحقيقه, حيث كانت ولا تزال وصاية الفكر الديني السياسي عندنا, وسيلة الحاكم الغاشمة في القمع والهيمنة الوحشية, على حملة أفكار التنوير والتقدم, ورميهم بتهمة الزندقة والكفر الجاهزة في وجه من يجرؤ تشخيص العلّة والداء. بما يشبه محاكم التفتيش التي سادت أوروبا القرون الوسطى وربما أقسى..
مفارقة هذه الحقيقة التاريخية نجدها عندنا ولدى غيرنا من الشعوب التي ظهر فيها فلاسفة عقلانيون كبار لكنهم اخفقوا من تحقيق نهضة حضارية لشعوبهم او لغيرهم من امم وشعوب الارض.
ظهر عندنا نحن العرب المسلمون فلاسفة تنوير عظام بدءًا من الكندي والفارابي وابن سينا والرازي وجابر بن حيان والبيروني وابن رشد وغيرهم نتنّطع اليوم بأنهم كانوا (عقلانيين) مؤثرين وسطاء نقلوا الفلسفة اليونانية والرومانية وكانوا سببا في نهضة أوروبا, لكنهم أخفقوا تحقيق نهضة أمتهم. متناسين في مكابرة عقيمة إننا لم نكن نمتلك علماء أمثال كوبرنيكوس أو نيوتن أو غاليلو أو برونواوكبلر وأمثالهم إلى جانب هؤلاء الفلاسفة التنويريين. الفرق الذي حصل في أوروبا أن عمل الفيلسوف أكمله عمل العالم, في حين لم يستطع فلاسفتنا تحقيق نهضة تنويرية تقدمية عندنا متكاملة عمادها مزاوجة الفلسفة والعلم. لأن كل جهود الفلاسفة العرب المسلمين كانت منصّبة على ايجاد توافق تلفيقي افتعالي بين الفلسفة والدين وتزكية هيمنة الدين على الفلسفة وقيادته لها, وليس الربط بين الفلسفة والعلم في تكامل تنويري نهضوي يشاكل ما حققته أوروبا في ترابط العلم والفلسفة.
ثم إذا كان تقاطع الفلسفة والعلم مازال قائمًا في المجتمعات الغربية منذ ديكارت ونيتشة وبيكون في القرن السابع عشر, فإن اشكاليتنا مع الفلسفة المعاصرة هو في تقاطعها مع التفكير الديني السياسي الذي يحاول إما ربط الفلسفة بالتفكير الديني بافتعال مبتذل, أو بالإقرار باستحالة الربط بينهما, ويلخص المفكر الكبير الجابري هذه الإشكالية بالعودة إلى جذور المشكلة قائلاً: «إن الفلسفة العربية بدأت بداية جديدة في المغرب والأندلس مع مشروع بن باجة الفلسفي, وكانت الفلسفة العربية الإسلامية في المشرق العربي لاهوتية المعرفة, بسبب استغراقها التوفيق بين الدين والفلسفة, أما الفلسفة في المغرب والأندلس ومع بن باجة فكانت علمانية الاتجاه وعقلانية بفعل تحررها من تلك الاشكالية, إشكالية الدين مع الفلسفة».
ألم يكن عندنا المعتزلة وإخوان الصفا؟ ألم يكن بيننا ابن رشد؟ من الذين نادوا بعظمة العقل. ألم يتسلم الراية الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني ومحمد عبدة وعشرات غيرهم من بعدهم دعوا إلى نهضة الأمة وذهبت جهودهم أدراج الرياح في تأكيد حقيقة أن الفلسفة والمفاهيم النظرية العزلاء من غير تطبيق واقعي علمي لا يجعل من المعرفة والفلسفة علمًا يقود الحياة كما حصل في التجربة الأوروبية التي حققت لشعوبها نهضة حضارية غير مسبوقة في التاريخ بفضل أسبقية العلم التجريبي على الفلسفة, أو في تلازمهما معًا.
المهم إن أوروبا اليوم لا تحتفي بالفلسفة احتفائها بالعلم في معترك الحياة, وتراجعت المفاهيم الفلسفية القديمة لنستلم نحن الراية في المعارف والعلوم الإنسانية فقط من غير العلوم الطبيعية التطبيقية, في الأطاريح والمنتديات والجامعات والبحوث, بما غادرته ليس أوروبا وحسب ولكن اليونان المعاصرة مبتدأ ومنتهى الفلسفة القديمة ومستودع الإرث الفلسفي العالمي, التي تستجدي العالم اليوم في ضائقتها المعيشية والمالية والاقتصادية ولا يشفع لها كل إرث الفلسفة الذي امتلكته وتمتلكه.. من المؤكد الواضح إني لا أدين الفلسفة كمنهج في التفكير المعرفي أن يفقد معناه وحاجة الإنسان له, ولكن تحّفظي إننا ربما نعتمد المفاهيم الفلسفية والإنسانيات عوضًا عن ميادين العلم التطبيقي في نشدان وتحقيق نهضتنا المرجوة وفي ذلك عقم المسعى والهدف, في تصورنا القاصر إن بحوث الإنسانيات كفيلة بتحقيق نهضة حضارية وهو مالم تشهده البشرية في أي بقعة أو عصر ولا في أوروبا لا قديمها ولا حاضرها.
أمام عجز الفلسفة الكلاسيكية القديمة أن تضيف جديدًا متطورًا للحياة, لجأت المفاهيم الفلسفية الحديثة والمعاصرة تنحى منحى الاعتياش التكاملي مع اللغة واللسانيات, والحفر المعرفي الاركيولوجي, وانثروبولوجيا الحضارات والأديان وغيرها. ولجأت الفلسفة الحديثة إلى مغادرة الاهتمامات الفلسفية الكلاسيكية القديمة التي أصبح اجترارها مؤونة الأطاريح والبحوث الجامعية والدراسات في تناولها مواضيع لم يكن في وارد عناية واهتمام الفلسفة الكلاسيكية القديمة بها كالجنس والهوية والتواصل والمهمّشين بالحياة كالمجانين والمصّحات. ومن مواضيع اهتمامات الفلسفة اليوم مفهوم حقوق الإنسان, صدام الحضارات وحرب الثقافات, ظاهرة الإرهاب, نهاية التاريخ (فوكوياما وهينتكتون) التواصل بين المجتمعات, الحاسوب والانترنيت, والفضاء العمومي للنقاش (هابرماس), نظرية العدالة والدول المارقة (جون راولز), البيئة المعاصرة والعدالة المناخية وغيرها. كل هذه المواضيع وغيرها العديد التي تشغل الفلسفة المعاصرة لا يربطها مع كلاسيكيات الفلسفة القديمة أي رابط يعتد الأخذ به, وغريبة جدًا على اهتمامات الفلسفة القديمة بشكل قاطع.
قبل مغادرتنا هذه الجزئية من البحث نشير إلى أن بيكون شنّ حملة شعواء على الفلسفة باسم وجوب افشاء قيم العقل والعلم, كما أن الفيلسوف كلود برنار هو الآخر أراد انشاء فلسفة تطبيقية جديدة لا نظرية, وأمكن له استبعاد الميتافيزيقيا عن العلم.
4. الفلسفة الماركسية والفلسفة الذرائعية (البراجماتية) كيف أصبحتا (علمًا) في التطبيق:
إن أكبر انتقالة جاءت كطفرة نوعية متمايزة في تاريخ الفلسفة, كانت من قبل ماركس حين أطلق عبارته الشهيرة, إن الفلاسفة قبلي كان جلّ اهتمامهم هو وضع تفسيرات وشروحات الوجود الإنساني ومشاكله, من غير التفكير بكيفية وسائل تغييره وسبل تبديله.
درس ماركس تاريخ الفلسفة الإنسانية كاملاً مع انجلز, بعدها وضع فلسفته المادية الديالكتيكية التي تحكم المادة والتاريخ وظواهر وقوانين الحياة الأخرى. مستفيدًا من ديالكتيك (جدل) هيجل المثالي الذي وصفه ماركس بأنه أوقف التاريخ الإنساني على رأسه فأعدته إلى وضعه الطبيعي. من المعروف جدًّا أن هيجل ذهب إلى أسبقية الفكر على الوجود (المادة), وذهب ماركس إلى العكس في اسبقية المادة والوجود على الفكر. وأن الفكر لا يحدد وجود الإنسان كما ذهب هيجل, بل إن الوجود المادي والاجتماعي والطبقي للإنسان هو من يحدد وجوده الذي هو مبعث تفكيره وتشكيل ثقافته أيضًا.
ميزة ماركس كفيلسوف أنه جعل من الفلسفة مفاهيما ورؤى علمية تطبيقية في هدف تغيير الحياة, أي جعل من الفلسفة (علمًا تطبيقيًا), ومثالية هيجل الفلسفية التي أدانها ماركس كونها أفكارًا فلسفية مقطوعة الصلة التأثيرية في تغيير الحياة, بمعنى إنها فلسفة منطقية ديالكتيكية متماسكة وحسب, بعيدة عن الواقع, أي عمد ماركس وبإصرار عنيد قلب تاريخ الفلسفة المثالي في تداول الفلسفة كنسق وقيمة فكرية متعالية في علاقتها المقطوعة التأثير بما يجري في الحياة, إلى منهج علمي تطبيقي يغيّر الحياة على الأرض والواقع, ولم يهتم ماركس بالفلسفة كنمط من النسق الفلسفي والمنطق الفكري التجريدي المقطوع الصلة والتأثير في مجرى الحياة, وقد أخذت الفلسفة الماركسية تطبيقها الميداني في تجربة الاتحاد السوفييتي الشيوعي القديم بنجاح لمدة سبعين عامًا. ومثيلاتها في الصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا وغيرها ماثلة إلى اليوم.
هذا يقودنا إلى تساؤل لا يمكننا تجاوزه, هل نجح ماركس أن يجعل من الفلسفة (علمًا)؟
والجواب المنصف نعم ولأول مرة في تاريخ الفلسفة وتاريخ البشرية على السواء.
السؤال الأهم هل جرى أو ممكن تكرار التجربة أن تصبح الفلسفة (علمًا) ومنهجًا تجريبيًا وتطبيقيًا بعد اخفاق التجربة الماركسية المحدود؟
نعم جاء ذلك على أيدي الفلاسفة الأمريكان الثلاثة وليم جيمس وجون ديوي وتشارلز بيرس في جعل الفلسفة علمًا تطبيقيًا في الحياة (الفلسفة البراجماتية) أو الذرائعية, كما سبق وفعلها ماركس, المهم والجوهري أن الماركسية في التطبيق والذرائعية (البراجماتية) في التطبيق كلاهما أخرجا الفلسفة من ميادين المماحكات المنطقية والتنظيرية البعيدة عن مجرى الحياة, إلى فلسفة علمية تقود الحياة وتعمل عل تغييرها أيضًا, وهذا يدعو فعلاً للتثمين والإعجاب.
إن الفلسفة البراجماتية أنزلت الفلسفة من برجها العاجي إلى معترك الحياة كما فعل ماركس بالماركسية, باختلاف جوهري كبير, إذ ذهبت البراجماتية أنه لا قيمة لأية فلسفة أو نظرية أو مجموعة أفكار, ولا صحة للأخذ بها مالم تحقق (منفعة) بالحياة. وأن صحة وصواب الأفكار الفلسفية ليس في اتساقها المنطقي الفلسفي التجريدي ونسقها المفهومي المتماسك, بل أهميتها وصوابها أن تحقق التقدم والرخاء والفائدة للناس في معترك الحياة ووسائل عيشهم.
هنا نجد أيضًا أن الفلسفتين الماركسية والبراجماتية, أخرجتا وانقذتا نفسيهما من طابعهما المميز الذي يسم الفلسفة عمومًا إنها معرفة منطقية مجردة بدلاً أن تكون منهجًا علميًا في قيادة وتبديل الحياة. وفي ذلك يقول لورانس سامرز رئيس جامعة هارفارد الذي أحد أساتذتها صوموئيل هنتكتون صاحب كتاب نهاية التاريخ, «إن مثالاً (عمليًا) واحدًا هو أجدى من ألف نظرية ونظرية». مكتوبة متداولة على الورق في صالات وأروقة الجامعات.
في النموذجين اللذين مررنا بهما البراجماتية والماركسية, أصبح واضحًا عندنا إن التقدم البشري لم تصنعه الفلسفة بل العلوم التطبيقية الميدانية, وبذا يكون للعلوم الطبيعية دورًا إقصائيًا للمفاهيم الفلسفية المجردة التي اعتاشت ولا تزال على بعضها البعض, وجعلت موقع العلم التطبيقي من مسار الفلسفة مسارًا متوازيًا مع المسيرة العلمية, لا يلتقي بها ولا يتقاطع معها في احتدام مفتعل لا طائل ولا نتيجة من ورائه.
5. عود على بدء:
هل نمتلك حقًا مشروعية التساؤل, إن كانت المفاهيم الفلسفية القارّة القديمة وشروحاتها المتعلقة معها, منذ عهد اليونان القديمة وعصر الرومان وإلى يومنا هذا لها إمكانية أن يكون لها مستقبلاً ينتظرها؟ وأيًا من الفلسفات التي تمتلك نسقًا فكريًا ومعرفيًا ومفهوميًا في مكنتها اليوم وبمستطاعها النفاذ إلى المستقبل قادمة من الماضي ومغادرة محطة الحاضر لتمتلك حضورها المستقبلي.؟
من الواضح الجلي إنه لم تعد مفاهيم الفلسفة ومواضيعها الأثيرة نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين هي نفسها المواضيع والأنساق الفكرية المعرفية التي شغلت تفكير وبال الفلسفة ودوّنت التاريخ الفلسفي منذ الإرهاصات الأولى التي ترجع إلى عصور ما قبل الميلاد عند اليونانيين. كما أن الفلسفة بقيت أشمل من فلسفة الأطاريح والشروحات الجامعية الطفيلية في نزول معظم الفلاسفة المعاصرين إلى ميادين الحياة.
طيلة هذه الأحقاب الزمنية احتفظت الفلسفة بما امتازت به واحتازته من أنساق فكرية منطقية ذات طابع شمولي تحليلي للوجود الإنساني, وتوليدي مستمر للأفكار قبل انبثاق العلوم الطبيعية بمعناها الحديث, حيث كانت الفلسفة متربّعة على هرم المعرفة إنها أم كل المعارف الإنسانية بلا منازع. وتناسلت الفلسفة بمرور الوقت عبر الانتقادات والتفسيرات والشروحات ومحاولات الإضافة والتجديد. لكن مع انبجاس التفكير العلمي الطبيعي وتطور الحياة وتبدّل المفاهيم المصاحبة وصولاً إلى دخول البشرية عصر الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة, تبدلت الأنساق الفلسفية والفكرية التي سادت عصورًا طويلة لتخلي في المجال ظهور مجالات اشتغالات فلسفية جديدة في علم النفس واللسانيات والحفريات المعرفية, وعلوم اللغة, كما ظهرت ما يسمى بالفلسفة التطبيقية التي تعالج ما تطرحه العلوم المعاصرة في مباحث الهندسة الوراثية واخلاقيات علوم الحياة, وقضايا المرأة والفقر وغيرها.
وعن هذا التبدل الفلسفي الجوهري يحدثنا الأستاذ عبد الرزاق الدواي: «العولمة غيرت الظروف وشروط إنتاج الخطاب الفلسفي ذاته, فحياة الفلاسفة اليوم وخطاباتهم الجديدة تسير على إيقاع فعاليات الجمعيات الفلسفية والمجلات المتخصصة والندوات والمؤتمرات الفكرية الدولية, وتكاد أن تكون اليوم مهجورة المسائل الفلسفية الكبرى التي ظلت المنبع الذي يمد الفكر بالحيوية منذ العصر اليوناني, فقد حلت محلها اهتمامات أخرى جديدة لم تكن تخطر على بال الفلاسفة السابقين».
6. شيء عن الميتافيزيقيا:
احتلت الميتافيزيقيا موقعًا محوريًا مركزيًا اعتاشت عليه الفلسفة قرونًا عديدة, بحيث أصبح من غير المستهجن أو المرفوض اليوم الدعوة, أن ينحصر التفكير الفلسفي في تحقيب زمني تاريخي يشير إلى (ما قبل) و(ما بعد) ميتافيزيقيا الفلسفة. «إن الميتافيزيقيا كانت المبحث الأول في الفلسفة, الفلسفة الأولى, وهي في الوقت ذاته أكثر المباحث الفلسفية إثارة للجدل, وما زال التشكيك في الميتافيزيقيا يتسع, والخوف على مستقبلها يتسع, والحق إنه ثمة سؤالين ملازمين للميتافيزيقيا على مدى التاريخ هما: سؤال المشروعية, بأي حق يمكن للإنسان أن ينتج أفكارًا ميتافيزيقية؟ وهل الدعوة لتلك الأفكار من مبرر معقول؟ والسؤال الآخر هو سؤال المستقبل, أي مستقبل ينتظر الميتافيزيقيا؟ أليست هي سائرة أن تلقى مصيرها المحتوم, الاختفاء إلى الأبد؟». الأستاذ الباحث عبد الرزاق الدواي.
ذهب عديد من الفلاسفة ماركس, شوبنهور وكانط ونيتشة وهيدجر وآخرين, إلى أن نشاط العقل الفلسفي وموضوعاته الفلسفية جميعها تقع خارج اهتمامات وشواغل القوانين الطبيعية التي تعمل بمعزل عن الإنسان, من حيث أن ميتافيزيقيا التفكير الفلسفي بقي محورًا مركزيًا في تاريخ الفلسفة وتناول موضوعاتها, وإن الميتافيزيقيا بقيت أحقابًا زمنية طويلة الشغل الفلسفي الشاغل لدى العديد من الفلاسفة. «هناك رأي يذهب إلى أن الوجود الكوني ومعه ويلازمه وجود الإنسان هو ميتافيزيقيا مبتدأ ومنتهى, فكيف بالفلسفة أن لا تكون ميتافيزيقية؟».
- ربما كانت آراء عديد من الفلاسفة المتأخرين تمهيدًا مسوّغًا لمغادرة وتجاوز المفاهيم الميتافيزيقية الفلسفية, عبر عنه المفكر محمد الشيخ: «أهم انعطافة فلسفية, هي ذهاب العصور الحديثة في فهم الوجود فهمًا معرفيًا قصّيًا متطرفًا, وذلك في جعل الوجود الموجود صنيعة الإنسان».
- مقولة عالم اللغات فيتجنشتاين في أن أفكارنا مهما تكن أهميتها لا يمكنها إدخالنا قطار المستقبل (أنت لا تستطيع أن تشكّل السّحاب, وهذا هو السبب في أن المستقبل الذي تحلم به لا يصبح حقيقة أبدًا».
- وفي عبارة نيتشة مقاربة لذلك «إن الحس التاريخي بالماضي هو الثقل العظيم والأكبر, ويتوجب على الإنسان أن ينحّيه جانبًا ويقمعه ويعيق مسيرته كعبء خفي مشؤوم, وأن هناك درجة من الأرق من الحس التاريخي الذي يصيب كل شيء حي ويدمره في النهاية سواء أكان إنسانا أو شعبًا أو حضارة».
نخلص إن تفكيرنا في المستقبل هو تفكيرنا بماضينا وحاضرنا فقط والمستقبل كفيل أن يصنع نفسه بقواه الذاتية والظروف المستجدة المصاحبة له, وكفيل أن يمنحنا الوجود والأفكار التي سنتناولها بالخلق والنقد والدراسة كحاضر نعيشه وليس كمستقبل نتمنى حضوره.
تغريد
اكتب تعليقك