ويل للتاريخ من المؤرخينالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-06-05 09:14:32

د. أحمد البراء الأميري

الرياض

«ويل للتاريخ من المؤرخين، لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم في قيد الحياة، ومن يسمعهم ويسمعونه، ويكتب لهم ويقرؤونه، فكيف يعرفون من تقدّم به الزمن ألف سنة، ولم ينظر إليهم قط، ولم ينظروا إليه؟». هذا ما كتبه عباس محمود العقاد رحمه الله في مقال له بعنوان: (أنا)، يتحدث عن نفسه.

يقول عباس العقاد: «كما أراه - بالاختصار - هو شيء آخر مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذي يراه الكثيرون، من الأصدقاء أو الأعداء. هو شخص أستغرب كل الاستغراب عندما أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه، حتى ليخطر لي - في أكثر الأحيان - أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط، ولم ألتق به مرةً في مكان، فأضحك في نفسي وأقول: ويل للتاريخ من المؤرخين!!» .

قرأت مرة بيتين من الشعر يقول صاحبهما:

                     وما كُتبُ الأخبار في (كل) ما روت

                                                لـقـرائها  إلا  حـديث  مُـلَفـقَ

                      نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا

                                               فكيف بأمر الغابرين تُصدّق؟!

فأعجبني البيتان، وقلت في نفسي: لو وضعنا (جلّ) بدلاً من (كلّ) في البيت الأول لكنّا أقرب إلى الصواب.

دعونا ننظر في واقعنا الحاضر ونتساءل: إلى أي مدى تصف «الدول الكبرى، في تدريس تاريخ الدول الصغرى؟ إلى أي مدى يصدّق (المؤرخون في كتابة تاريخ أعدائهم؟ هل صدقت روسيا الشيوعية (الاتحاد السوفياتي) في تدريس تاريخ غيرها، وتاريخ نفسها؟ وصين ماوتسي تونغ ومصر جمال عبدالناصر وألمانيا هتلر والحلفاء مع النازيين والنازيون مع الحلفاء؟ وأمُّ الحضارة والعدل والحرية، أمريكا اليوم، مع الهنود الحمر وبريطانيا العظمى عندما استعمرت؟ وفرنسا في الجزائر، أرض المليون شهيد؟ وإيطاليا في ليبيا؟ وإسبانيا والبرتغال؟ وأقف عن (الحديث) عن التاريخ (الحديث) لسببين: أولهما: عدم الإحراج، وخشية الإملال، وثانيهما: خوفي على نفسي! وأترك الحاضر، والتاريخ القريب، وأرجع بالفكر بضعة قرون هذا كتاب الله العزيز، الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) وتناوله بالشرح علماء أجلاء، عرفنا في سيرهم الفضل والنُّبل، كيف سمحوا لأنفسهم أن (يغرفوا من بحور الإسرائيليات) ما يندى له الجبين ليفسروا به كلام رب العالمين؟! أليست (الإسرائيليات) جزءًا من التاريخ؟

وبعض الفضلاء من العلماء: كيف اعتمدوا في أمور لها ما بعدها على أحاديث واهية، ومنكرة، وضعيفة، وربما موضوعة؟! وأشهر مثال على ذلك كتاب إحياء علوم الدين، للإمام العبقري العلم أبي حامد الغزالي، غفر الله له، ورحمه، ورفع مقامه في الصديقين!! والشاهد من ذكره: هل نصدق كل ما نقرأ، أم نتوقف للتدقيق والتمحيص؟؟.

والفرق الإسلامية المختلفة: أهل السنة فيما بينهم، والشيعة فيما بينهم، والخوارج فيما بينهم.. إلخ، وكل فئة مع الأخرى: هل كانوا صادقين، أم أن كل فرقة ادعت أن الحق معها لا يتعداها؟

                  وكل  يدعي  وصلاً  بليلى

                                   وليلى  لا تُقرّ  لهم  بذاكــــا

سوّدُ أصحاب الرأي تاريخ أصحاب الحديث، فكال لهم أصحاب الحديث الصاع صاعين؛ واضطهدت «مدرسة العقل»، وعذبت أئمة «مدرسة النقل» فكفرها أولئك، ولعنوها، وأخرجوها من الملة...

وأقلب الآن الصفحة، وأنا أعتقد أن ما ذكرته فيها صواب يحتمل الخطأ والله تعالى أعلم، وأستغفره من الزلل، إلى صفعة أخرى مقابلة لا بُدّ من ذكرها في هذا المقام، وأعتقد أيضًا أن ما فيها صواب:

لماذا قصّ الله سبحانه علينا قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقصص الأمم، وغيرها من القصص؟ لنعتبر، ونتدبر، ونتفكر، ولنتعظ، ونتعلم قال تعالى: (ونحن نقص عليك أحسن القصص)، (و تلك القرى نقص عليك من

أنبائها)، و(كلاً تُقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فَؤادك ... )، (ونحن نقص عليك نبأهم بالحق ... )، (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد)، (فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون) ... إلخ.

ما جاء في القرآن الكريم متواتر مقطوع بصحته، لكن ما دونه لا بد فيه من النقد والتمحيص، صحيح أننا لا نستطيع تطبيق القواعد الرائعة التي وضعها أئمة الحديث، فكانت تاجًا على رأس الإنسانية كلها –لا نستطيع تطبيقها على كل حادث تاريخي، لكننا مطالبون بالاقتباس منها، والاهتداء بها، وكلما كان الحدث التاريخي أهم كان احتكامُنا لها أكثر.

دارس التاريخ (في بعض أحواله) كسائق السيارة ينظر إلى الخلف في مرآته ليحسن السير إلى الأمام، وإلا إذا لم يستفد، فالوقت الذي ينفقه يضيع سدى:

               من لم تُفذه عبراً أيامُه

                              كان العمى اولى به من الهدى

إن الدارس الحصيف الذكي للتاريخ يقرأ بذهن متفتح واع، وفكر ناقد مقارن، ولا بد من ضياع كثير من الحقائق الصغيرة) عنه، ولكن كثيرًا من الحقائق الكبيرة يمكن أن يتعلمها، ويمكن أن يكون عنده التأمل فيها ملكة لا يستغني عنها الأفراد، ولا تستغني عنها الأمم في التعامل مع غيرها، ويصدّق هذا قول الشاعر الحكيم:

              ومَن وعي التاريخ في صدره

                                 أضاف أعمارًا إلى عمره

أيها القارئ الكريم: أرجوك المعذرة لأني كتبت لك في موضوع لست متعمّقًا فيه، وإن كان يؤرقني، ويؤلمني أنني طالب مخفق في التاريخ..

هذه السطور دعوة إلى دراسة التاريخ بضوابط صارمة قدر الإمكان، وإلى استخلاص العبر منه، والاستفادة منها على مستوى الأفراد (فائدة صغرى)، وعلى مستوى الأمة (الفائدة العظمى).

ما قوانين النصر والهزيمة؟ ما سنن ارتفاع الحضارات وانهيارها؟ ما أسباب تقدّم الشعوب وتقهقرها؟ ما عيوب حضارات المسلمين وما مزاياها، وما عيوب حضارات الآخرين وما مزاياها؟ هذه وما شاكلها من الأسئلة أتوقع أن تسهم الإجابة الصحيحة عنها إسهاماً كبيراً في تحقيق أمل الأمة في العزة والتمكين.


عدد القراء: 4704

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-